(٣) الفائدة الثانية الخروج من الاستبداد أتى على الشرق حين من الدهر كان يعبد فيه الملوك عبادةً حقيقيةً، ويسميهم آلهةً، ويدعوهم أربابًا، وهو لم يسلم من هذا الاعتقاد سلامةً تامةً عامةً إلى اليوم، ثم ارتقى بعض شعوبه إلى الاعتقاد بأن الملوك ليسوا آلهة خالقين، ولكنهم أصحاب سلطة إلهية وسيادة ربانية تجب طاعتهم عدلوا أو ظلموا، وتقديسهم أساءوا أو أحسنوا، ثم جاء الإسلام بإصلاح جديد، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم، وأمر أصحاب الرأي السديد والمعرفة بالمصالح العامة واجب الامتثال في سياسة الأمة وإدارتها، حتى لا يطمع فرد من الأفراد بالاستئثار بالسلطة والاستبداد بالأمر. وجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياستهم على هذه القاعدة، فكان يقدم رأي أصحاب الرأي المعبرعنهم بأولي الأمر على رأيه كما فعل يوم أحد؛ إذ كان صرح بأنه لا يرى الخروج إلى حرب قريش، حتى تصل إلى المدينة. ورأى أصحابه الخروج فعمل برأيهم، وكما فعل يوم بدر، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة. ولكن الشرق لم يكن تم استعداده لهذا الإصلاح الأعلى؛ لما بيناه في مقال (طبيعة الاجتماع في الحاكمين والمحكومين) ؛ لذلك تسنى لبني أمية أن يعبثوا به، ويزيلوه في زمن قريب. ولي أبو بكر - رضي الله عنه - أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب الناس، وقال: وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقومني. وولي عمر رضي الله عنه فقال نحو ذلك في خطبته. ومن المشهور المستفيض على الألسنة؛ أنه لما قال على المنبر: من رأى منكم فيِّ عوجًا فليقومه. قام رجل فقال: لو رأينا فيك عوجا لَقَوَّمْنَاه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يُقوِّم عوج عمر بسيفه. ومما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال على المنبر: أمري لأمركم تبع، وقال في أول خطبة خطبها بعد أن ولي الخلافة: ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه ثلاثًا: (اتباعُ مَن كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وَسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكَفُّ عنكم إلا فيما استوجبتم) . فانظر كيف قيد اتباع من كان قبله بكونه فيما اجتمعوا عليه وسنوه، فهو دليل وراء الأدلة العملية على أن أبا بكر وعمر كانا يأخذان برأي الأمة فيما لم يرد به الكتاب ولم تمض به السنة، وتأمل قوله: (فيما لم تسنوا عن ملأ) ، والملأ: الجماعة من أهل الرأي والمكانة في الأمة، وهم بمعنى النواب. أما سيرة علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - فهي على تلك السنة، ما غَيِّر ولا بدَّل، ولا رغب في الدنيا، ولا جنح إلى زخرفها. ولكن نزا عليه بنو أمية أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام، وكان من أمرهم ما كان، ولا محل لشرحه في هذا التمهيد. وإنما غرضنا أن نقول: إنهم استبدوا عملا، وما عتموا أن جهروا بالخروج عن سنن الإسلام في حكمه قولا؛ إذ قال خطيبهم عبد الملك بن مروان على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه. فتحولت الحكومة إلى استبدادية، كانت على حسب سيرة الحاكم، إلا على الملقب بالخليفة أو الملك: فتارة يكون عادلاً كعمر بن عبد العزيز، وتارة يكون جائرًا، وتارة متوسطًا. وكان معظم ظلمهم وظلم من بعدهم لمن يأنسون منه سخطًا من سلطتهم أو مقاومة لها، وسائر الناس في راحة وأمان، يتقدم به العلم ويزهو العمران، حتى استدار الزمان، ورجع الشرق إلى نحو ما عليه كان. أخبار المماليك يقل في القارئين من لا يعرفها، وسيرة إسماعيل باشا لم يمت جميع من ذاقوا مرارتها، ومفاسد بايات تونس مأثورة، ومنكرات دايات الجزائر غير منكورة، كان من هؤلاء من يعاقب الناس الذين يحل عليهم غضبه، ولو لحفظ عرضهم من فسقه بإحدى ثلاث: الخازوق، أو ترديته من أعلى جبل قسنطينة، أو إغراء كلاب عاقرة به تنهشه وتمزق لحمه حتى يموت شر ميته. كان هذا قبيل إغارة فرنسا على الجزائر. ولا يجهل أحد من قراء الصحف حال بقية الممالك التي لما تؤثر فيها حالة الأوربيين، ولم تحملها على تغيير سلطتها الاستبدادية، إما لجهلها بها لعدم الاختلاط بهم، واقتباس علومهم، والوقوف على حال حكوماتهم كمراكش، وإما لأن السلطة الاستبدادية فيها لا تزال أقوى وأقدر على منع العلم عن الجاهلين، مع مطاردة طلاب الإصلاح من العارفين، كما هو شأن الحكومة العثمانية. إن محاربة الآستانة للعلم والدين، ومطاردتها للعقلاء والعارفين، لفوق ما يتخيل المتخيلون؛ لأنها أضعاف ما يروي الراوون، إن أكثر المطبوعات العربية الجديدة التي تعد في مصر من آيات الارتقاء التي استعدت أو تستعد بها الأمة لأن تحكم نفسها بنفسها هي في الولايات العثمانية من أشد الجنايات، وأعظم الجرائم تضطرب لذكرها القلوب، وترتعد الفرائص، حتى من أولئك الذين يسفكون الدماء بالأسواق في وقت الضحى؛ لأن سافك الدم كثيرًا ما يسلم بالرشوة أو المحاباة، وإذا حوكم لا تتبرأ منه المحاماة، وإذا حكم عليه يدركه العفو في أحد الأعياد بعد عشر سنين أو أقل، أما من يتهم باقتناء كتاب مما يعد منبهًا للأفكار أو بطلبه من مصر، فلا يتجرأ أحد على الدفاع عنه، ولا على الارتشاء منه، ولا يؤخذ منه عدل، ولا تنفعه شفاعة. كم من عالم عامل، ومن غيور فاضل، يئن في ظلمات السجن لا يتجرأ أحد على ذكره ولا السؤال عنه، وكم من عالم وغيور أُخرِج من داره، ونفي إلى حيث لا يسمع أهله وولده بذكره، وما كنت عازمًا على الإشارة إلى مثل هذا؛ لولا أن أُلْقِيَ إليِّ قبل هذه الكتابة رقيم من الحجاز فيه أن أمير مكة جلد بعض أهل العلم مائة جلدة على مشهد من الناس، ثم كبله في السلاسل والأغلال؛ لأنه كتب كتابًا في التوحيد، قال فيه: إن الأمر كله لله، لا ينبغي أن يطلب الخير، ودفع الضر من غيره - عز وجل - بعد العجز عن الأسباب التي سنها، واستعمال القوى التي وهبها فصار إظهار التوحيد الخالص ممنوعًا بهذه الحكومة في حرم الله، وقد كان أعظم مظهر له في أرض الله. هذا واليابان تفاخر أوربا بالحرية والعدل وحكم الشورى، وإيران تحاول مجاراتها في ذلك، ومصر لا حديث لها إلا المجلس النيابي، فمن أبنائها من يلح بطلبه الآن، ومنهم من يقول: يجب أن نعد له أولا عدته، ونكتفي الآن بتوسيع اختصاص مجلس الشورى ومجلس المديرات. وقد سبقهم العثمانيون إلى المطالبة بإعادة القانون الأساسي ومجلس (المبعوثان) (أي: النواب) ، وترى أهم حديث للجرائد التونسية في هذه الأيام حديث مجلس الشورى عندهم، والمطالبة بإنصاف التونسيين من الأوربيين. لكن الفرق بين المصري وأخيه العثماني؛ أن الأول يجهر بطلبه في بلده، ويناقش حكومته جهرًا، في المجالس الرسمية، وفي الجرائد، وفي المحافل العامة والخاصة، وقد يطعن عليها وعلى القوة المشرفة عليها، وهي تبيح له ذلك. والعثماني لا يتجرأ على الحديث بذلك في بلاده؛ وإن كان في كسر بيته قد أغلقت دونه الأبواب، وأرخيت عليها السجوف والأستار؛ لأنه أعلم الناس بالمثل القائل: للحيطان آذان، وهو لا يأمن على نفسه الأهل والجيران؛ لأن الاستبداد قد أفسد الناس أي إفساد، حتى صار الرجل الحر يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، وإنما يجهر بذلك في أوربا ومصر، وكل بلاد ليس فيها لأبناء جنسه سلطان ولا حكم. فأعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد بالشورى والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد، فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كاليابان، ومنهم من بدأ بذلك كإيران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان، كمصر وتركيا. ليست هذه الفائدة بالشيء التافه، ولا بالأمر اليسير، ولا هي بالمنفعة التي تقرن بالنظائر، بل هذه مرتبة البشرية العليا، في هذه الحياة الدنيا، فإن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم؛ يقبل فيهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، ينبغي أن يعدوا من الدواب الراعية، والأنعام السائمة إذن هذه الفائدة هي عبارة عن الارتقاء من حضيض البهيمية إلى أفق الإنسانية، فحسب الشرق إن استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها. لا تقل أيها المسلم: إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا، فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا معاشرة الأوربيين، والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس؛ لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين، في الآستانة، وفي مصر، ومراكش، وهم هم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية، ويعد من أكبر أعوانها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوربا والأوربيين، وقد سبقهم الوثنيون إلى ذلك. ألم تر إلى بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوربيين كيف يتخبط في ظلمات استبدادها؟ ولا تسمع من أحد كلمة شورى؛ مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشورى، ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة، وفوض حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي. فإن قلت: إن أول من نبه المصريين إلى حقوق الأمة على الحاكم، وإلى فضل حكومة الجمهورية، والملكية المقيدة على الحكومة الاستبدادية، شيخان من شيوخ الدين وإمامان من أئمة الإسلام، وهما: السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، وإنك أنت قد نشرت في (المنار) مقالات للسيد مقالات في (الحكومة الاستبدادية) ، كانت مما نشره هو في بعض الجرائد على عهد إسماعيل باشا، وهي تحرك الجماد، وصرحت في ترجمة الشيخ بأنه كان يدعو إلى ذلك، وأنه قال، بل كتب عن نفسه هذه الكلمة الجليلة: دعونا إلى هذا والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد، وقد كان مضى على المصرين أكثر من نصف قرن، وهم يتدارسون علوم أوربا، ويشتركون مع الأوربيين في كثير من الأعمال، ويتزاحمون معهم بالمناكب، ويتبادلون بالأموال ولم يخطر في بالهم أن يقلدوهم بإصلاح الحكومة والسيطرة عليها. إن قلت هذا؛ محتجًا على أننا نحن المسلمين، قد اقتبسنا فائدة مقاومة الاستبداد من الدين، فإن لي أن أجيبك عن ذلك؛ بأنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك كما رأيت في مقدمة هذا المقال. كيف؟ وإنني لم أطلع على كتابة لأحد في ذلك أوسع مما كتبته في (المنار) ، وإنني مطلع على سيرة هذين الإمامين الحكيمين وعالم بأنهما كانا قد عاهدا توفيق باشا؛ قبل أن يصير الأمر إليه على نصره وعاهدهما هو على إنشاء مجلس نيابي، وعلى تعميم التعليم في القطر المصري ومع هذا كله أقول: إننا لولا اختلاطنا بالأوربيين؛ لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحًا جليًّا في القرآن الحكيم، نعم إن أستاذينا الحكيمين - رحمهما الله تعالى - أهل لأن يفهما ذلك من القرآن؛ لأنهما أول من دعا في هذا العصر إلى جعله أساسًا للإصلاح، وبينا من حكمه وفضله، ما عجزت الأوائل عن الإتيان بمثله. ولكن كلامنا في تنبه الشعوب الشرقية على اختلاف مللها ونحلها، لا تنبه فيلسوفين من أهل ملة منها، على أن هذين الحكيمين قد استفادا من الاعتبار بحال أوربا، وعرفا حال أهلها قبل دعوتهما إلى هذا الإصلاح. لا ينبه الأمة إلى مثل هذا التغيير العظيم إلا الإحساس بالخطر، والخوف من سوء العاقبة، ورؤية العبر بأعينها، وسماع أخبار الذين صرعوا الاستبداد من قبلها ولذلك نقول: إننا ما عرفنا قيمة هذه الفائدة إلا بعد أن أحسسنا بالغائلة التي تقابلها وهي مواثبة استقلالنا، والاعتداء عليه، وهي ما سنبينه في قسم المضار، إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))