للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة الجاوية في سماع آلات اللهو

جاءتنا الأسئلة الآتية من جاوه فأرجأنا الجواب عنها حتى نسيناها بسقوط
صحيفتها بين الرسائل المهملة , ثم رأيناها الآن فنذكرها سردًا , ثم نجيب عنها ,
والظاهر أنها عُرضت على غيرنا ولكن لم نسمع لها صدى وهي:
(السؤال الأول)
ما قولكم متع الله بحياتكم وأحيا بكم معالم الدين وشريعة سيد المرسلين في
تصريح الأئمة المشهورين الذين هم من حملة الشريعة المطهرة بتحريم سماع
الأوتار التى هي من آلة الملاهي المحرمة كالعود المعبر عنه بالقنبوس , وتصريحهم
بأنها شعار شربة الخمر وبفسق مستمعها وتأثيمه وبرد شهادته (وذلك) كقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ما معناه: فحرم ما هو شعار أهل الشرب
وهي الأوتار والمزامير إلى قوله: فيحرم التشبه بهم لأن (مَن تشبه بقوم فهو
منهم) . انتهى (وقوله) فيه أيضًا ومنها - أي المنكرات - سماع الأوتار أو سماع
القينات إلى أن قال: فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره , ومن عجز عن تغييره
لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة
المنكرات. انتهى (وقوله) : أيضًا يحرم السماع بخمسة عوارض إلى قوله:
والثاني الآلة بأن تكون من شعار الشربة والمخنثين وهى المزامير والأوتار. انتهى.
(وكقول) الشيخ ابن حجر في التحفة ما ملخصه: ويحرم استعمال آلة من شعار
الشربة كطنبور وعود ورباب ومزمار وسائر أنواع الأوتار لأن اللذة الحاصلة منها
تدعو إلى فساد ولأنها شعار الفسقة والتشبه بهم حرام. انتهى (ومثله) في النهاية
للشيخ الرملي. (وقول) الشيخ ابن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ما
معناه: من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق ورُدت شهادته. انتهى.
(وقوله) فيه أيضًا: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها
وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون ,
وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. انتهى ملخصًا.
وقد أورد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد في كتابه النصائح الدينية عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر
من جملتها اتخاذ القَينات والمعازف يعني الملاهي من الأوتار والمزامير (وقول)
الحبيب عبد الله بن حسين في كتابه سلم التوفيق في عد كبائر الذنوب ما لفظه:
واللعب بآلات اللهو المحرمة كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار، وكتصريح
هؤلاء الأئمة تصريح غيرهم من حملة الشريعة المحمدية بالتحريم واتفاقهم عليه
حيث اتفقوا على تحريم العود وهو القنبوس وما ذكر معه وعلى تفسيق فاعله
وسماعه وعلى رد شهادتهم (فهل) قول هؤلاء الأئمة وتصريحهم بما ذكر معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو اجتناب هذا المحرم المتفق عليه
وعلى تفسيق فاعله أم لا؟ .
(السؤال الثاني)
وما قولكم متَّّع الله بحياتكم وحفظ بكم الشريعة المطهرة في تصريح هؤلاء
الأئمة وغيرهم من المحققين موافقة للمذاهب الأربعة في الرد الشنيع على من أباح
تلك الآلة المحرمة كتصريح الشيخ ابن حجر في التحفة بقوله: إني رأيت تهافت
كثيرين على كتاب لبعض مَن أدركناهم من صوفية الوقت تبع فيه خراف ابن حزم
وأباطيل ابن طاهر وكذبه الشنيع في تحليل الأوتار وغيرها , ولم ينظر لكونه
مذموم السيرة مردود القول عند الأئمة ووقع بعض ذلك للإدفوي في تأليف له في
السماع ولغيره وكل ذلك يجب الكف عنه واتباع ما عليه أئمة المذاهب الأربعة
وغيرهم. انتهى بالاختصار (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي وغيرها
(وكتصريح) الشيخ ابن حجر في الزواجر بقوله: وأما حكاية ابن طاهر عن
صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه ولم يكن من
علماء عصره من ينكر عليه وإن حله ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن
طاهر لأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها فمن ثم قال الأذرعي عقب
كلامه هذا: وهذه مجازفة , وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبة ذلك
إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتاب له في السماع نسبة باطلة قطعًا وقد صرح
في مهذبه بتحريم العود وهو قضية ما في تنبيهه ومن عرف حاله وشدة ورعه
ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه. انتهى. (وكتصريح) الشيخ
الباجوري في حاشيته على ابن قاسم بقوله:
فاجزم على التحريم أي جزم ... والرأي أن لا تتبع ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار ... والعود والطنبور والمزمار
(وتصريح) الشيخ ابن حجر أيضًا في الزواجر بقوله: ومن عجيب تساهل
ابن حزم واتِّباعه لهواه أنه بلغ من التعصب الى أن حكم على هذا الحديث وكل ما
ورد في الباب بالوضع وهو كذب صُراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء
من ذلك. انتهى (وقوله) أيضًا في موضع آخر: فقد حكيت آراء باطلة منها قول
ابن حزم: وقد سمعه - أي العود - ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهما وهو
من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة وما زعمه من هذين الإمامين ممنوع ولا
يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك لشدة ورعهما وبُعدهما من اللهو. انتهى ملخصًا،
وقول الشيخ الرملي في النهاية: وما حُكي عن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد
أنهما كانا يسمعان ذلك - فكذب. انتهى (فهل) تصريح هؤلاء الأئمة الذين هم
حملة الشريعة المطهرة بهذا الرد الشنيع على من أحل الأوتار وبتكذيب نُقُُولهم معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو عدم جواز التعويل ولا الالتفات
إلى من أحل الأوتار وعدم جواز نسبة سماعها إلى العلماء أو الصلحاء أم لا؟
(السؤال الثالث)
وما قولكم متع الله بكم وشيد بكم أركان الدين في شأن سيرة السلف الصالحين
من العلويين وغيرهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم في شدة مجاهدتهم واجتهادهم
واستغراق أوقاتهم في تحصيل العلوم بشرائطها وآدابها ثم اجتهادهم في العبادة من
دوام القيام وسرد الصيام بكمال المتابعة وشدة المجاهدة للنفس ومكابدتها والورع
والزهد كما لا يخفى على من اطلع على كتب تراجمهم ومناقبهم رضي الله عنهم
كالمشرع الروي والجوهر الشفاف والبرقة المشيقة وغير ذلك أن كثيرًا منهم من
يصلي الصبح بوضوء العشاء في عدة سنين كثيرة , وختم القرآن بعدد كثير من
زمن يسير وغير ذلك من الأعمال الصالحات مع غاية الزهد والورع وترك ملاذ
الدنيا المباحة فضلاً عن المحرمات وغير ذلك من أوصافهم الحميدة وشدة مجاهدتهم
ما يحير عقل من وقف على سيرتهم ومن مخالفتهم للنفس والهوى ما يقطع يقينًا
على بعد ساحتهم عن الملاهي ونظافة ساحتهم من المناهي (فهل) يسوغ للمؤمن
بالله أن ينسب إلى أحد منهم سماع العود الذى اتفق أئمة الشريعة على تحريمه
وتفسيق فاعله حتى يعتقد الغوغاء بسبب هذه النسبة والافتراء حل سماع العود وأنه
من شعار الصالحين أم لا يسوغ ذلك؟
(السؤال الرابع)
وما قولكم متع الله بكم وصان بكم شريعة سيد المرسلين فيما إذا سمع هذا
القنبوس أناس من المترسمين بالعلم أو من أهل البيت النبوي بحيث يقتدي بهم
الغوغاء , ويحتجون بسماعهم له على جواز سماع القنبوس (فهلا) يعظم وزر
المقتدى بهم ويدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أم لا؟
(السؤال الخامس)
وما قولكم متع الله بكم وذب بكم عن شريعة سيد المرسلين من دعاوى الكاذبين
فيما نص به العلامة السيد مصطفى العروسي في كتابه نتائج الأفكار وهو قوله:
(تنبيه) إن قال قائل: نحن لا نسمع بالطبع بل بالحق فنسمع بالله وفي الله لا
بحظوظ البشرية قلنا له: كذبتَ على طبعك وكذبت على الله في تركيبك وما وصفك
من حب الشهوات، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن فارق إلفه
وادعى العصمة فاجلدوه فإنه مفترٍ كذابٌ) . انتهى وفيما نص به الشيخ البجيرمي
على الإقناع وهو قوله: وما قيل عن بعض الصوفية من جواز استماع الآلات
المطربة لما فيها من النشاط على الذكر وغير ذلك فهو من تهورهم وضلالهم فلا
يعول عليه. انتهى (فهل) هذه النصوص صحيحة يجب العمل بمقتضاها وهو
عدم الاغترار بخرافات الأغيار أم لا؟
أفتونا في هذه الأسئلة فإن البلية الباعثة عليها قد عمت مصيبتها وطارت
شررها لعل الله بنور علمكم يطفيها، لا زلتم ناصرين لشريعة سيد المرسلين
وللمعاونة على البر والتقوى معاونين أحيا الله بكم الإسلام. آمين. اهـ بنصه.
(جواب المنار)
قد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا، وأكثروا القول
فيه بل كتبوا فيه المصنفات واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من
الأحاديث في هذا الباب ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما هو الحق الجدير
بالاتباع، ثم نتكلم على أسئلة السائل.
أحاديث الحظر
١- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِر
والحرير والخمر والمعازف) أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن
ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم ولفظه: (ليشربن ناس من أمتي
الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله
بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وأخرجه أبو داود وابن حبان وصححه.
٢- عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه
وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى
قلت: لا , فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال
أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.
٣- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر
والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ
لأحمد أنه قال بعد الميسر: (والمزر والكوبة والقنين) وفي إسناد الحديث الوليد
ابن عبدة راويه عن ابن عمر، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وقال ابن
يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري:
إن الحديث معلول ولكنه يشهد له حديث ابن عباس بنحوه وهو (عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل
مسكر حرام) .
وقد فسر بعضهم الكوبة بالطبل قال سفيان: عن علي بن بذيمة , وقال ابن
الأعرابى: الكوبة: النرد وقد اختلف في الغبيراء (بالضم) قال الحافظ في
التلخيص: فقيل: الطنبور، وقيل: العود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع
من الذرة أو من القمح، وبذلك فسره في النهاية. والمزر بالكسر نبيذ الشعير،
والمعتمد في الغبيراء ما قاله في النهاية من أنها من الأشربة , والقنين قيل لعبة
للروم يقامرون بها، وقيل: الطنبور بالحبشية فظهر بهذا أن الحديثين ليسا في
موضوع المعازف وآلات السماع اتفاقًا.
٤- عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في
هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول
الله؟ قال: (إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) رواه الترمذي وقال:
هذا حديث غريب، أقول: وقد أخرجه من طريق عبّاد بن يعقوب وكان من غلاة
الروافض ورؤوس البدع إلا أنه صادق الحديث، وقد روى له البخاري حديثًا
واحدًا مقرونًا بغيره، وقال ابن عدي: أنكروا عليه أحاديث وهو رواه عن عبد الله
بن عبد القدوس وهو رافضي مثله قال: قال يحيى بن معين: ليس بشيء،
والنسائي: ليس بثقة، وضعَّفه الدارقطني.
٥- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ
الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته
وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد
القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القيان
والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا
حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه
بعضًا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب أقول: إن راويه عن أبي هريرة
هو رميح الجذامي قال في الميزان: لا يعرف.
٦- عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبيت طائفة من
أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء
من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم
بالدفوف واتخاذهم القينات) رواه أحمد. قال في المنتقى: وفي إسناده فرقد السبخي
قال أحمد: ليس بقوي , وقال ابن معين: هو ثقة وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى
بن سعيد وقد روى عنه الناس.
٧- عن (أمامة) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعثني رحمة
وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعنى البرابط والمعازف
والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية) رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر عن علي
بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي
بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة،
وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف وقال مرة: ليس بشيء وقال ابن المديني: منكر
الحديث، وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، إذا روى عن علي بن
يزيد أتى بالطامات.
٨- وعنه بهذا السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا القينات
ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام. في مثل هذا
أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: ٦) الآية) رواه الترمذي وأحمد بالمعنى ولم يذكر الآية والحميدي في
مسنده بلفظ: (لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها) وهو
لا يصح كما تقدم.
٩- عن ابن مسعود: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه أبو داود مرفوعًا
والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا وفي إسناده شيخ لم يسمَّ وفي بعض طرقه ليث بن أبي
سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي. وقال الغزالي: رفعه لا يصح ,
ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.
وقد رأيتَ أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول وستعلم مع ذلك ما قيل في
إعلاله وما روي غيرها أوهَى منها إلا أثر عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد
صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.
(أحاديث الإباحة)
(١) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أيام مِنى) وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش
وحوَّل وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ ! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (دعهما يا
أبا بكر فإنها أيام عيد) وفي رواية: (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا) ،
فلما غفل غمزتهما فخرجتا، تقول: لما غفل أبو بكر، رواه البخاري في سنة العيد
وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عشرة النساء، وإنما أنكر أبو
بكر لظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائمًا لم يسمع.
(٢) وعنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) رواه
البخاري. قال الحافظ في الفتح عند شرح قوله: (ما كان معكم لهو) : في رواية
شريك (فقال: فهل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال:
تقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم
(٣) عن خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: دخل عليَّ النبي
صلى الله عليه وسلم غداة بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني،
وجويريات يضربن بالدف يندبن مَن قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا وقولي
كما كنتِ تقولين) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.
(٤) عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح) رواه أحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم.
(٥) عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود
الأنصاري في عُرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت: أي صاحِبَيْ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟ ! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن
شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس، أخرجه النسائي والحاكم
وصححه.
(٦) عن بُريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن
َرَدَّكَ الله صالحًا أن أضرب بين يديك الدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت
فاضربي وإلا لا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي
تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت
عليه! . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لَيخاف منك يا عمر؛
إني كنت جالسًا وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر
ألقت الدف!) رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.
خلاف العلماء في مسألة
سماع الغناء والمعازف وأدلتهم
في الباب أحاديث أخرى، وما أوردنا هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به،
وأحاديث الحظر التى تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو - والدف منها قطعًا
- وغناء القيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة
العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي
بكر وكلام عامر بن سعد يدل على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا
سيما أصوات النساء لولا النص الصريح بالرخصة وتكراره في الأوقات التى جرت
عادة الناس بتحري السرور فيها كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة
مرجحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته , وبكونها على الأصل في الأشياء وهو
الإباحة، وبموافقتها ليُسر الشريعة وسماحها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن
الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين،
ولهذا رأيت كثيرًا من أئمة العلماء الزهاد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر
وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها حتى
جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد حتى
حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا وسماع آلات اللهو جميعها إلا طبل الحرب ودف
العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يطرب وأنه غير دف أهل الطرب. وهاك
أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار وهو كلام
الشوكاني في نيل الأوطار قال بعد ما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:
قد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى
التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر
وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع، وقد حكى
الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان
لا يرى بالغناء بأسًا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره وكان ذلك
في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا
عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي.
وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن
عبد الله بن الزبير كان له جوارٍ عوَّادات وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود
فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ ! ، فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال: هذا
ميزان شامي قال ابن الزبير: يوزن به العقول.
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين
قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب
فجاء رجل فساومه فلم يهوَ منهن شيئًا قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من
هذا، قال: مَن هو، قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال
لها: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر.. إلى آخر القصة.
وروى صاحب العِقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل
على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر: هل ترى
بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا، وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص
أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت
سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو
ذلك (والمزهر عند أهل اللغة: العود) وذكر الإدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان
يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس ونقله
ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة
الماجَشَوْن مفتي المدينة. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة
الغناء بالمعازف. وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود
وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال
بن عمرو المحدث المشهور.
وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل
المدينة في إباحة العود قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل
المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة قال الإدفوي: لم يختلف
النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له
الجماعة كلهم [١] وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو
الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي وحكاه الإسنوي في المهمات في
الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور , وحكاه ابن
الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكاه الإدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد
السلام , وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي وجزم بالإباحة الإدفوي،
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء
من غير آلة فقال الإدفوي في الإمتاع: إن الغَزَالي في بعض تآليفه الفقهية نقل
الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج
الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز
يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر.
قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من
الصحابة والتابعين فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره وعثمان كما
نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن
أبى شيبة وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي وبلال وعبد الله بن الأرقم
وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضًا و (حمزة) كما في الصحيح وابن عمر كما
أخرجه ابن طاهر والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم وعبد الله بن جعفر كما
رواه ابن عبد البر وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه
أبو الفرج الأصبهاني وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار وقرظة بن كعب
كما رواه ابن قتيبة و (خوات) بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب
الأغاني والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي وعمرو بن العاص كما حكاه
الماوردي وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد
وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء
ابن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم
الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور
الشافعية. انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته , ومنهم من قال باستحبابه
قالوا: لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله , قال المجوزون: إنه
ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما
يقتضي تحريم مجرد الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات.
أما المانعون فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول
الباب وأجاب المجوزون بأجوبة:
(الأول) ما قاله ابن حزم وقد تقدم جوابه [*] .
(والثاني) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن
معين أنه ليس بشيء، وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم، ويجاب عنه أنه
من رجال الصحيح.
(والثالث) أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا.
أما الإسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم.
وأما متنًا فلأن في بعض الألفاظ (يستحلون) وفي بعضها بدونه، وعند أحمد
وابن أبى شيبة بلفظ (ليشربن أناس من أمتي الخمر) وفي رواية: الحر بمهملتين
وفي أخرى بمعجمتين كما سلف. ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد
رواه أحمد وابن أبى شيبة من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود من
حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن (داسة) عن أبي داود، ورواية ابن
حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعًا.
وأما الاضطراب في المتن فيجاب عنه بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال
لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى.
(والرابع) أن لفظة (المعازف) التى هي محل الاستدلال ليست عند أبي
داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره، وثبت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة.
وأجاب المجوزون على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم
دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه:
(أحدها) أن لفظة (يستحلون) ليست نصًّا في التحريم فقد ذكر أبو بكر بن
العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال، الثاني أن يكون
مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور , ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد
يشعر بتحريم الملابسة بنحو الخطاب , وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا
ملجئ إلى الخروج عنها.
(وثانيها) أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف , وإذا كان اللفظ محتملاً
لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركًا , والراجح
التوقف فيه أو حقيقةً ومجازًا ولا يتعين المعنى الحقيقي , ويجاب بأنه يدل على تحريم
استعمال ما صدق عليه الاسم , والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص
عليها من أهل اللغة، وليس من قبيل المشترك؛ لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد بل
وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم
التضاد كما تقرر في الأصول.
(وثالثها) أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي
المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر
تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن
المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند
شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله أيضًا يلزم في
مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الحاقة: ٣٣-٣٤) أنه لا يحرم عدم الإيمان إلا عند عدم الحض على طعام
المسكين فإن قيل: تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم منه دليل آخر
فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضًا كما سلف على أنه لا ملجئ
إلى ذلك حتى يصار إليه.
(ورابعها) أن يكون المراد (يستحلون) مجموع الأمور المذكورة فلا يدل
على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عند الأمور المتعددة أو
الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذى
قبله.
واستدلوا ثانيًا بالأحاديث المذكورة في الباب التى أوردها المصنف رحمه الله
تعالى , وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها ويجاب بأنها
تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها , فأقل أحوالها أن تكون من قسم
الحسن لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات والمغنيات فإنها ثابتة من
طرق كثيرة منها ما تقدم ومنها غيره , وقد استوفيت ذلك في رسالة وكذلك حديث (إن
الغناء ينبت النفاق) فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها , وبعضها لم يذكر، منه
عن ابن عباس عن ابن صصري في أماليه، ومنه عن جابر عند البيهقي ومنه عن
أنس عند الديلمي وفي الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن مردويه
وأبى نعيم والبيهقي بلفظ (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة
عند مصيبة) وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب
ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان)
وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعًا: (إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض
الغناء) والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم
وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الإربلي والذهبي وغيرهم.
وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية
والحنابلة والشافعية , وقد تقدم ما قاله ابن حزم , ووافقه على ذلك أبو بكر بن
العربي في كتابه الأحكام وقال: لم يصح في التحريم شيء، وكذلك قال الغزالي
وابن النحوي في العمدة، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح منها حرف واحد،
والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود - في تفسير قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: ٦) - قد
تقدم أنه صحيح , وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال: إنهم لو أسندوا حديثًا واحدًا
فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روي
عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى:] وَمِنَ النَّاسِ.. [الآية أنهما
فسرا اللهو بالغناء قال: ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ} (الحج: ٩) وهذه صفة مَن فعلها كان كافرًا ولو أن شخصًا اشترى
مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا؛ لكان كافرًا فهذا هو الذى ذم الله تعالى
وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروّح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله.
انتهى. قال الفاكهاني: إني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثًا صحيحًا صريحًا
في تحريم الملاهي وإنما هى ظواهر وعمومات يُسْتَأْنَسُ بها، لا أدلة قطعية.
واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص:
٥٥) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة
أقوال:
الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب
والشتم فيعرضون عنهم.
والثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيَّره اليهود من التوراة وبدلوا
من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.
الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا هودًا ولا نصارى وكانوا على
دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا به بمكة
أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم
اتبعتم غلامًا كرهه قومه وهم أعلم به منكم؟ ! وهذا الأخير قاله ابن العربي في
أحكامه. وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية؟ . انتهى.
ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللغو عام وهو في
اللغة: الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل
ذلك، وليس فيها دلالة على الوجوب.
ومن جملة ما استدلوا به حديث: (كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا
ثلاثة: ملاعبة الرجل أهلَه وتأديبه فرسَه ورميه عن قوسه) قال الغزالي: قلنا:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهو باطل) لا يدل على التحريم بل يدل على
عدم الفائدة. انتهى , وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح على أن
التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وسلم وآله وسلم
كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الأمور الثلاثة.
أجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من
أنه حديث منكر، وأيضًا لو كان سماعه حرامًا لما أباحه صلى الله عليه وآله وسلم
لابن عمر ولا ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة؛ لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز، وأما سده صلى الله عليه وسلم لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما
كان يتجنب كثيرًا من المباحات كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال
ذلك. لا يقال: يحتمل أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للإنكار على الراعي إنما
كان لعدم القدرة على التغيير لأنا نقول: ابن عمر إنما صاحَبَ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته فترك الإنكار فيه دليل على عدم
التحريم.
وقد استدل المجوزون بأدلة منها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِث} (الأعراف: ١٥٧) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلًّى باللام
فيشمل كل طيب , والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند
التجرد عن القرائن ويطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل
فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها ولو قصرنا العام على بعض
أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر , وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل
الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومما استدل به المجوزون ما
سيأتي في الباب الذى بعد هذا [٢] وسيأتي الكلام عليه.
ومن جملة ما قاله المجوزون أن لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوًا لكان جميع
ما في الدنيا محرمًا لأنه لهو لقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (محمد
: ٣٦) ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوًا بل
الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل
في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب.
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع
إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه , والمؤمنون وقَّافون عند
الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: (.. ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود
والخدود والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة العقار، وخلع العذار
والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات
الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول
وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
ومن أراد الاستيفاء للبحث فعليه بالرسالة التى سميتها (إبطال دعوى الإجماع
على تحريم مطلق السماع) اهـ كلام الإمام الشوكاني.
(للكلام بقية)
ومعلوم أن نَذْر الحرام أو المكروه لا ينعقد. وهذا يبطل ما قاله الشوكاني هنا
من أن أدلة المانعين تنهض شبهة وسيأتي التحقيق فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))