للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوهابيون والحجاز
عود على بدء

المقالة الأولى [*]
مقدمة
كنا كتبنا بضع مقالات في هذه المسألة في أول العهد بزحف الإخوان؛ لإنقاذ
الحجاز من إرهاق الطاغوت حسين بن علي , وما يرجى أن يتبع ذلك من إنقاذ
جزيرة العرب كلها من الاستعباد الأجنبي , فكان لها من التأثير فوق ما قدرناه لها ,
حتى إن حقها دحض أباطيل الدعاية الحجازية القديمة في الطعن بدين أهل نجد منذ
قرن وثلث قرن , باختلاق الشريف غالب أمير مكة في عهد ظهور الإصلاح الذي
قام به الشيخ محمد عبد الوهاب , وأخرس ألسنة الدعاية الجديدة التي اختلقها
الشريف حسين الذي ادعى أنه ملك العرب وخليفة المسلمين.
ثم عرضت لنا شواغل كثيرة عاقتنا عن مواصلة الكتابة , فيما فتح أمامنا من
أبواب المسائل الكثيرة في هذا الموضوع , فنشطت في هذه الفترة الدعاية , وبذل
في سبيلها المال بسخاء فوق المعتاد , وتجرأت حكومة الشريف علي بن حسين
المحصورة في ميناء جدة ودعائها على ضروب من الكذب والبهتان لم يتجرأ على
مثلها حسين بن علي ودعاته , حتى إنهم افتروا على كاتب هذا المقال وهو أول من
هتك أستارهم , وتتبع عوارهم , وقلم أظفارهم , فزعموا أن حكومة جدة عثرت
على كتاب منا أرسلناه إلى السلطان عبد العزيز بن السعود , آذناه فيه بانصراف
القلوب عنه , وتصويب سهام الإنكار إليه , وقد طال العهد على هذه الفرية , ولم
نجد فرصة نكذبها فيها ونفضحهم بمطالبتهم بنشر صورة هذا الكتاب مأخوذة عن
خطنا , وكثر إلحاح المطالبين لنا بالعودة إلى الكتابة لرد أمثال هذه المفتريات ,
وكشف ما يحوم حولها من الشبهات؛ لأن بعض المخلصين اغتروا بها , وصدقوا
أن علي بن حسين ألف ملكًا جديدًا في الحجاز مخالفًا لوالده في سياسته , وأن في
جدة حزبًا وطنيًّا مؤلفًا من زعماء الحجاز وأهل الرأي فيه , وأنه هو الذي خلع
حسينًا ونصب عليًّا , وأنه يتكلم باسم بدو الحجاز وحضره , وأن سلطان نجد
ضعيف لا جند عنده ولا سلاح , وأن ما أعده ملك جدة من آلات القتال الجنمية
العصرية كافٍ لتدويخه وسحق جيشها الضعيف , وطرده من الحجاز والاستيلاء على
نجد كلها , وأن إنقاذ الحجاز من هذه الأسرة الطاغية الباغية صار متعذرًا , فأهون
الشّرين إذا إصلاح ذات البين ببقاء علي بن حسين ملكًا للحجاز بشروط منها: أن
لا يعود والده حسين بن علي إلى الحجاز , إلى هذا الحد وصل تأثير أمثال هذه
الدعاوى الكاذبة التي سنبين الحق فيها.
كنا نقرأ تلك المفتريات في جريدة المقطم وبعض جرائد سورية فنضحك منها
ضحك السخرية متربصين بها تكذيب السيف لها , وهو أصدق من اللسان والقلم ولا
يتمارى في قوله ولا في حكمه أحد , على أننا جمعنا بعض الدلائل للرد عليها ,
ولكن قضى الله تعالى أن نضطر إلى استئناف الكتابة في وقت لا نملك فيه مراجعة
شيء مما جمعنا , وهو وقت نقل كتبنا وأوراقنا ومطبعتنا ومطبوعاتها الكثيرة وأثاثنا
من دار إلى دار , وقد بدأنا في الاستعداد لهذا في الشهر الماضي , وسيشغلنا شهرًا
أو شهرين آخرين؛ لأننا لا نجد من يقوم مقامنا في الإشراف على ذلك , ولكننا
سنجد ما نحتاج إليه من الأوراق المحفوظة في أقرب وقت.
بعد هذا التمهيد أقول: إن حسين بن علي وأولاده كانوا قد خدعوا السواد
الأعظم من عرب سورية والعراق وكثيرًا من غيرهم , بما بثوه من دعاية المملكة
العربية والوحدة العربية والخلافة العربية , حتى خيلوا إليهم أنهم سيعيدون إلى هذه
الأمة عصر هارون الرشيد , ثم ظهر أن غاية سعيهم تحقيق أمنية الإنكليز القديمة ,
وهي إدخال جزيرة العرب وما اتصل بها من بلادهم في دائرة الإمبراطورية
البريطانية المرنة , على أن تُسَوِّدَهُمْ فيها على قومهم وتسميهم ملوكًا وخلفاء , ومع
هذا الخزي يرون كثيرًا من وجهاء البلاد العربية يعظمهم ويقول بزعامتهم إما
لغباوتهم وجهلهم , وإما لأنهم يرضون مثلهم (أن تكون الأمة العربية كالقاصر في
حجر الدولة البريطانية) كما صرح به حسين بن علي رسميًّا في (مقررات نهضته)
التي هي أصول سياسته وسياسة أولاده , دع الذين يوالونهم للانتفاع منهم.
لهذا أصبح أهل هذا البيت الحجازي يعتقدون أن الدعاية تؤسس الممالك ,
وتوطد دعائم الملك , وتهزم الجيوش , وتفعل كل شيء , فكان اعتمادهم عليها
وعلى الدولة البريطانية في حماية الحجاز وعرش ملك العرب وخلافة الإسلام ,
فعادوا جميع أمراء جزيرة العرب والمستقلين المسلحين ولا سيما جارهم بالجنب
سلطان نجد , وهو أقواهم وأشدهم بأسًا , ولم يستعدوا لحماية عرشهم منه ولا من
غيره بالسلاح , فأهملوا ما تركه الترك أو العثمانيون من الأسلحة الكثيرة الجيدة من
كل نوع , واكتفى حسين بتأليف جند صغير يقصد به إظهار عظمة الملك في
الاحتفالات والمواسم , واتكل على الدولة البريطانية , والدعاية السياسية , فلما
ضاق العالم الإسلامي عامة وعرب نجد خاصة بفساده في الحجاز , وزحف جند
الإخوان الوهابيين لطرده وطرد أولاده منه , استغاث الدولة البريطانية , فلم تر من
مصلحتها إغضاب العالم الإسلامي الساخط عليه , والاصطلاء بنار حرب جديدة في
جزيرة العرب لأجله , فأعلنت الحياة , فلم يبق له إلا قوة الدعاية الخاطئة الكاذبة ,
فشرع فيها , فلم تغن عنه شيئًا , واضطر إلى الخروج من الحجاز مذؤمًا مدحورًا ,
وخلف فيها ولي عهده الذي يفخر به ويقول: (لا فتى إلا علي) , فكان أبرع منه
في هذه الدعاية , على أن والده هو الذي ربى له رجالها , واصطنع له صحفها ,
وهو الذي يفيض عليه المال للإنفاق في سبيلها , وسنذكر أنواع هذه الدعاية الجديدة
مع بيان بطلانها في مقال آخر , ونعجل بالنوع الوحيد الذي فيه شية من الحق ,
وشبهه من الصدق , ولكنه حق أريد به باطل , وصدق اتخذ ذريعة إلى الكذب
والتضليل , وهو:
الاتفاق النجدي البريطاني
سمعت خبر هذا الاتفاق أو المعاهدة من الملك فيصل في الشام أول مرة , وهو
الذي نشرها في بغداد في هذه المرة , وأُرْسِلَتْ إلينا وإلى الجرائد الشهيرة , وقد
صدقها الناس؛ لأن سلطان نجد لم يكذبها , والغرض من نشرها إيهام العالم
الإسلامي الذي يؤيد ابن سعود في طرد حسين وأهل بيته من الحجاز , أن مملكة
نجد نفسها غير مستقلة استقلالاً مطلقًا , بل قيدت الحكومة البريطانية سلطانها بما
هو حماية , وأن الحجاز هو المستقل وأنه إذا استولى عليه سلطان نجد يدخل تحت
حماية الإنجليز كنجد , وقد أطالت الدعاية الحجازية في المسألة , وأكثرت من
الإيهام , وتناقلت سائر الجرائد نص الإنفاق , كما أرسل من العراق , وتألم منه
المسلمون , فوجب أن نبين ما عندنا من رأي ورواية فيه على تقدير صحة نصه:
كان هَمُّ عبد العزيز ابن سعود بعد استرداد ما كان قد سلب من بلاد آبائه
وأجداده محصورًا في حفظ استقلالها بقوتها , وبث دعوة التدين فيما جاورها من
قبائل العرب , والقناعة بعيشة العزلة والتجافي عن السياسة الدولية وأهلها , ولم
يكن له خصم في تلك البلاد إلا آل رشيد في شمر , فهم الذين ألبوا على آل السعود
الدولة العثمانية حتى استولوا بمساعدتها على عاصمتهم (الرياض) , وقضوا على
إمارتهم , فلما انتزعها منهم السلطان عبد العزيز هذا بحزمه وعزمه , رأى أنه
سيكون معه في نزاع دائم وقتال مستمر , وأن قطرًا صغيرًا كنجد لا يصح أن يكون
فيه إمارتان تتوارثان الأحقاد والأضغان , وتنتهز كل منهما الفرصة للقضاء على
الأخرى , فدعا ابن الرشيد للاتفاق وتوحيد العلم (الراية) والحكم والتعاون على
حكم البلاد بصفة معقولة - كما نقل إلينا - فامتنع , فلم ير بدًّا من إزالة إمارته ,
ففعل , وقد اختار حصر منطقته على اقتحامها بالمناجزة وكان ذلك في أيام عسر
وغلاء فاحش , وكانت مؤنة الجيش كلها , بل مؤنة عامة بلاد نجد تأتيها من الهند ,
فكان هذا سببًا ملجئًا لابن سعود إلى الاتفاق مع الحكومة الإنكليزية , كما قال بعض
أهل العلم والخبرة بالبلاد العربية.
وهنالك سبب آخر لا يقل عنه ألجأه إلى ما دُعِيَ إليه من الاتفاق بما رآه
أهون الشرين , وهو أن الدولة العثمانية رأت بعد عقد الصلح مع الإمام يحيى أنها
كانت مخطئة في معادة حكومة نجد , كما كانت مخطئة في معاداة أئمة اليمن , وأن
الاتفاق ممكن وهو خير للدولة , فعقدت مع إمام نجد وهو عبد العزيز ابن السعود
اتفاقًا آخر , اعترفت له فيه بالاستقلال الوراثي في بلاد نجد كلها , حتى ما كان بيد
الدولة منها كالحسا وثغور البلاد بشروط ليس هذا محل بيانها , فلما وقعت الحرب
العامة , واصطلت الدولة العثمانية , خاف ابن السعود أن تحتل الدولة البريطانية
ثغور بلاد نجد وإقليم الأحساء , إذ كانت تعدها من أملاك الدولة العثمانية , فرضي
بأن يعقد معها اتفاق , تعترف له فيه بأن هذه البلاد بلاده , وأنه مستقل فيها , وأن
ترضى منه في مقابلة ذلك بأمور سلبية , كان يرى أنه لا يفقد بها شيئًا.
وجملة القول أن هذا الاتفاق قد عقد عقب إيذان دول الحلفاء الدولة العثمانية
بالحرب , وكانت الدولة البريطانية قد دعت ابن السعود أمير نجد إلى قتال الدولة ,
كما دعت أمير مكة حسين بن علي وإمام اليمن والسيد الإدريسي أمير تهامة
وعسير , وقد قلنا في المنار مرارًا إنه لم يوالها أحد منهم موالاة فعلية حربية إلا أمير
مكة , وإن إمام اليمن وَالَى الدولة عليها , وأعانها على قتالها , وأما الإدريسي وابن
السعود فقد اتفقا معها اتفاقًا سلبيًّا , ولم نكن قد اطلعنا على هذا الاتفاق ولكن أخبرنا
طالب بك النقيب أنه كان رسول الدولة البريطانية إلى أمير نجد , وأن هذا الأمير
أبى أن يحارب دولة إسلامية انتصارًا لدولة غير مسلمة , وأنه لم يكن يمكنه أن
يحارب الإنكليز انتصارًا للدولة العثمانية؛ لأنهم يمكنهم أن يقضوا على بلاده
بالحصر البحري , فإن عامة أقوات أهل نجد من الهند , فكانت المصلحة التي لا بد
منها أن يكون على الحياد.
نعم إننا نحن نظن الآن أنه كان في الإمكان أن ينال صاحب نجد ما لا غنى له
عنه من تموين بلاده والاعتراف باستقلاله فيها بدون أن يقيد نفسه بما ذكر في هذه
المعاهدة من القيود المنافية للاستقلال التام المطلق , وإن كانت قيودًا سلبية , وأنه لا
سبب لقبوله هذه القيود إلا عدم تمرسه بالسياسة الدولية , وعدم قوته على ما كان
لدى أعداء الإنكليز من القوات الحربية التي ترتعد منها فرائص دول أوربة كلها ,
ولكننا لا نجزم بأننا لو كنا في مكانه في ذلك الوقت لكنا نعتقد هذا الاعتقاد نفسه ,
ونتجرأ على رفض تلك المواد التي ننكرها , بعد ما علمنا من قوات الألمان
وأحلافهم ما لم يكن نعلمه في أول الحرب , ولا بأن الإنكليز كانوا يرضون منه دون
هذه الشروط ليكتفوا شر مساعدته للدولة العثمانية.
هذا ما عندنا من أسباب هذه المعاهدة , وأننا نتكلم في المقالة الآتية على كل
مادة من موادها التي نشرها الحجازيون , نتكلم عليها من الجهة العامة , ثم نبين أن
سلطان نجد نقضها منذ عزم على الخروج من عزلته السياسية والاجتماعية ,
وتصدى لزعامة النهضة العربية , وثبت عنده ما يجب عليه شرعًا من إنقاذ
الحرمين الشريفين من الظلم والإلحاد ومنع النفوذ الأجنبي أن يتغلغل فيهما وفي
سياجهما من جزيرة العرب , فمعاهدة سنة ١٩١٥ أمست قصاصة ورق لا قيمة لها
كما نبين ذلك فيما يأتي.
((يتبع بمقال تالٍ))