للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مباحث الربا والأحكام المالية
(تابع لما قبله)

الأصول والقواعد العامة
للحلال والحرام في المعاملات المالية
مقدمة في تلخيص إجمالي لما تقدم:
قد بيَّنا حقيقة الربا المحرم بنص القرآن القطعي، وهو ربا النسيئة أي ما
يأخذه الدائن من المديون المعسر عند استحقاق الدين المؤجل عليه وعجزه عن
قضائه لأجل تأخيره إلى أجل آخر، وهو زيادة لا مقابل لها، فهي ظلم قد يتضاعف
إذا عجز المديون عن القضاء كلما حل أجل جديد، فيكون أفحش أنواع الظلم
والقسوة، وبيَّنا حقيقة ما سمي ربا الفضل، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه
وسلم من بيع أحد النقدين أو أصول الأقوات التي عليها مدار معيشة الأمة بمثله من
جنسه مع زيادة أو تأخير، وبيَّنا أن حكمة النهي عنه سد ذريعة الربا القطعي
المحرم بنص كتاب الله تعالى، وبيَّنا أن الفقهاء توسعوا باجتهادهم في أحكام
المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيرًا من صور البيوع والقروض
والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي (النسيئة) ولا في ربا الحديث
الاحتياطي من باب ولا منفذ، إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة
والضوابط المذهبية والاجتهادية، وأن جمهور المسلمين يظنون أن كل ما حظره
الاجتهاد المذهبي وعدَّه من الربا فهو محرم، كالذي حرَّمه الله بالنص القطعي وتوعد
عليه بأعظم الوعيد لشدة ضرره، وظلم الأخ لأخيه فيه، والذي نهى عنه رسوله
صلى الله عليه وسلم احتياطًا لسد ذريعة الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على عباده كما
حرَّمه على نفسه.
ومن أجل هذا الفهم الباطل ضاعت عليهم سبل المعاملات، ووقعوا في مآزق
العسر والحرج الممنوع من شريعة الحنيفية السمحة بنص كتابها العزيز، واضطروا
إلى طرق أبواب الحيل لاستحلال ما حرَّمه الله لا ما حرَّمه هؤلاء الفقهاء برأيهم
فقط، ولم يضع لهم هؤلاء الفقهاء حدودًا وضوابط للاضطرار أو الحاجة إلى
المحظور في قاعدتهم: الضرورات تبيح المحظورات، وفي قولهم: إن المحرَّم لذاته
يباح للمضطر إليه، وإن المحرَّم لسد الذريعة يباح للحاجة إليه ورجحانها على
المفسدة.
إن هؤلاء المقلدين حرَّموا على أنفسهم وعلى عباد الله ما لم يحرِّمه عليهم ربهم،
فمنهم من حرَّم على نفسه منافع أحلها الله له، ومنهم من أقدم على ارتكاب ما
يعتقد أن الله تعالى حرَّمه عليه إما بحيلة يعلم أنها لا تخفى على الله ولا ترضيه،
وإما بغير حيلة، ودخل أدعياء الفقه منهم في عموم من قال الله تعالى فيهم: {أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (الشورى: ٢١) ومن قال فيهم:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} (التوبة: ٣١) ، وقد فسره النبي صلى الله
عليه وسلم بأنهم هم الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.
وآل أمر أكثر المسلمين إلى أن تغلب الإفرنج على أكثر بلادهم بالفتح
السياسي أو الحرب، أو بالنفوذ الاقتصادي والإداري، وصارت جميع أحكامها
المالية بالقوانين التي تبيح ما حرَّموا من الربا وغيره من ضروب الكسب، فصاروا
يؤكلونهم الربا ولا يأكلون منهم، ويكسبونهم أموالهم ولا يكسبون منهم، حتى إن
المسلم الغني يودع ماله في مصارفهم (بنوكهم) بدون فائدة له فيستغلونها لأنفسهم،
والمسلم المحتاج يستدين منهم بالربا، فازدادوا بهذا عسرًا وفقرًا، وفرت ثروة
بلادهم من أيديهم إلى أيدي مستعبديهم، وصار أكثرهم أجراء بل عبيدًا للإفرنج فيها،
وتبع ضياع الثروة والنفوذ ضياع العلم الديني والدنيوي، وبدأ يتبع ذلك ضياع
الدين التقليدي، ولا يمكن أن يجدوا مخرجًا من هذه المآزق إلا بمسابقة الإفرنج إلى
الثورة وتنظيمها وبذلها في المنافع والمصالح الملية، فمنهم من يلتمس هذا بترك
الإسلام نفسه سرًّا أو جهرًا، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك طوعًا أو كرهًا،
وأكثرهم كالناقة العشواء، تخبط في الظلماء، أو كالذي يتخبطه الشيطان من
المس.
هذه المسألة من أظهر المسائل التي يعبرون عنها بقولهم (عمت بها البلوى)
وعموم البلوى في الأمر والعامة مما يبيح المحظور للأمة، كما أن الضرورة
الشخصية تبيح المحظور للأفراد، وبناء عليها قال الإمام الغزالي في كتاب الحلال
والحرام من الإحياء: إن المال إذا حُرِّم كله حل كله فيستأنف فيه التعامل بالأحكام
الشرعية على أنه حلال.
إن جمهور المسلمين لفي حرج شديد في هذه المعاملات المالية العصرية،
وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجًا منه مع المحافظة على دينهم، وأنى يجدونه
وهم يطلبونه من أدعياء الفقه الديني الذين وصفهم شيخنا الأستاذ الإمام بحملة العمائم،
وسكنة الأثواب العباعب، وهم حماة التقاليد الفقهية التي أدخلتهم في جحر الضب
اتباعًا لسنن من قبلهم من أهل الكتاب، لكن بعد أن خرج هؤلاء منه، وهم الذين
قال فيهم قبيل وفاته:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ذلك بأنهم هم أئمة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن
سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
(رواه البخاري ومسلم) وبأنهم أجهل ممن قال فيهم أمير المؤمنين علي كرم الله
وجهه: (لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا) ، وإذ كانوا هم حماة التقاليد التي
حصرت الأمة في جحر الضب (أي الضيق) فوظيفتهم أن يقذفوا كل مصلح
يحاول إخراجها منه إلى فضاء الحنيفية السمحة بأنه خارج من الدين أو عليه
بمخالفته لأئمة المذاهب الواجب اتباع واحد منهم على كل واحد من المسلمين بنص
عقيدة جوهرة التوحيد للقاني:
ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم
ويعنون بوجوب تقليد حبر من هؤلاء الأئمة الفقهاء - وأبو القاسم: الجنيد من
أئمة الصوفية - تقليد ما في هذه الكتب الكثيرة المؤلفة فيما يسمونه مذاهبهم وفي
طرائق الصوفية، ولا عذر عندهم لمن يخالفهم فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أدلة هؤلاء الأئمة ونصوص كتبهم المروية عنهم
أيضًا، فالأخذ عن الأئمة والعمل بنصوصهم ممنوع عندهم أيضًا، وكذا اتباع
الطبقة العليا من أصحابهم كأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة،
وكذا من يليهم من طبقات مجتهدي المذهب وأصحاب التخريج والترجيح بين
الأقوال المختلفة والتصحيح فيه مباشرة؛ وإنما الواجب شرعًا في رأيهم العمل بما
يعتمده متأخرو المؤلفين من أقوال من قبلهم من المصححين، كما قال علامتهم ابن
عابدين في (رسم المفتي) وهم الذين سماهم أسرى النقل المحض من كتب
مخصوصة للمقلدين.
وإنني بعد أن حاربت هذه التقاليد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
مع اتباع هدي الأئمة من السلف الصالح كالذين ذكرهم اللقاني لا تقليدهم، أقدم بيان
ما أرى فيه المخرج للأمة من الجحر الضيق المظلم، إلى الفضاء المشرق بنور الله
تعالى مبتدئًا بالأصول الآتية:
الأول أصل الأصول
في منافع الكون الدنيوية: الإباحة
بمقتضى فطرة الله ودينه المكمل لها
الأصل في جميع منافع الكون الإباحة للخلق بدليل هداية الفطرة ودينها، وقد
بيَّن ذلك الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك: ١٥) ، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: ١٣) فهم يعرفون منافعها بالتجارب ويترقون فيها
بالتعاون حتى تكون معارفهم علومًا مدونة، وفنونًا متوارثة، وهداية الحواس
والعقل كافية في ذلك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنتم أعلم
بأمور دنياكم) وما في معناه رواه مسلم.
ثم إن الله شرع الدين لعباده ليعلمهم ما لا تستقل عقولهم بمعرفته بالدلائل
والتجارب وهو معرفته تعالى الصحيحة وعبادته التي ترضيه، وما يهذب أخلاقهم
ويزكي أنفسهم من الفضائل، ليعيشوا بالتعاون والتحاب والعدل والإحسان، ويجتنبوا
الرذائل الضارة بأفرادهم وجماعاتهم الكبيرة والصغيرة كالظلم والعدوان، وبمجموع
هذين الأمرين يكونون أهلاً لاجتناء ثمرة الدين في حياتهم الدنيا بقدر استعدادهم
المشوب بالشوائب الكثيرة، وأهلاً للسعادة الكاملة في الآخرة.
والدليل على ذلك أن الله تعالى قص علينا في كتابه دعوة أشهر رسله لأقوامهم
فلم نجد فيها ما يدل على أن مما بعثوا له تعليم أقوامهم الزراعة والتجارة والصناعة؛
وإنما وجدناها متفقة على عبادة الله وحده، والنهي عن الشرك والظلم والفساد في
الأرض، وعلى الامتنان على الناس بنعم الأرض واستعمارهم فيها، وكون الدين
يزيدهم فيها قوة ونعمًا، ووجدنا في قصة شعيب أنه نهى قومه عن نقص المكيال
والميزان، وعن بخس الناس أشياءهم، والفساد في الأرض؛ لأن هذه الرذائل قد
فشت فيهم.
ووجدنا في أخبار بني إسرائيل أن الله تعالى حرم على اليهود طيبات كانت
أحلت لهم بسبب ظلمهم؛ تربية لهم، وأن نبيه عيسى عليه السلام أحل لهم - بإذن
الله - بعض ما حُرِّم عليهم، ثم جاء محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه
وسلم فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم كلها، فعلمنا أن ذلك كان
تحريمًا عارضًا في شعب واحد معروف إلى أجل معلوم، وأن شريعة خاتم النبيين
السمحة هي الدائمة.

(الأصل الثاني)
ما أكمله الله من الدين فلا يقبل زيادة فيه
أكمل الله تعالى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم دينه لجميع الشعوب والقبائل
في جميع أقطار الأرض إلى آخر الزمان، فحدد لهم في كتابه وما بيَّنه من سنة
رسوله خاتم النبيين جميعَ ما يحتاجون إليه من أصول التشريع الديني العام الدائم،
وفوض إليهم ما وراء تلك الحدود، ووعدهم باستخلافهم في الأرض وتمكين دينهم
وسيادتهم وقوتهم فيها، وإظهار دينهم على الدين كله، وختم بذلك النبوة والتشريع
الديني، فليس لأحد بعد كتاب الله القرآن وبيان السنة المحمدية له أن يفرض على
البشر عقيدة، ولا عبادة، ولا تحريمًا دينيًّا لشيء من الأشياء، ولا لعمل من
الأعمال، فالدين قد كمل فلا يقبل زيادة ورد من الأوراد ولا العبادات ولا تحريم
شيء، وأسعد أتباعه من يقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من
بعده.
(الأصل الثالث)
ما فوضه الله إلى عباده من أحكام الدنيا
وأما مصالح الدنيا ومعاملاتها المدنية والاقتصادية والسياسية، فقد ترك الشرع
ما لم يبينه منها إلى اجتهاد هذه الأمة الكبيرة؛ لأنها لا يمكن حصرها، وهي
تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما أدى إليه اجتهاد أحد من الأفراد عمل به ولا
يكون دينًا لغيره، وما أدى إليه اجتهاد أولي الأمر من المصالح العامة من سياسة
وقضاء عملوا به على أنه ضبط للمعاملات للفصل في الخصومات، وإقامة العدل؛
ولكن ليس لأحد منهم أن يجعل شيئًا منه دينًا يكلف الناس أن يدينوا الله تعالى به،
فكل ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينًا لا يكون بعده دينًا كما
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وقد كان مما يوصي به النبي صلى الله
عليه وسلم أمراء الجيش أو السرايا قوله: (إذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن
تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا
تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة
رضي الله عنه، وهو من الدلائل على تفويض مصالح الأمة إلى أولي الأمر منها
كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩)
(الأصل الرابع)
اجتهاد الفقهاء لا يشرِّع عقيدة ولا فريضة ولا تحريمًا
والغرض من هذا أن آراء الفقهاء، وأحكام الأمراء والقضاة في المسائل
الاجتهادية ليس من أحكام الله تعالى في عباده، ولا حلال ولا حرام، فأما في
العبادات فقد بيَّنا حكمه، وأما في المعاملات المالية ونحوها فاجتهاد الأفراد لهم
وعليهم، واجتهاد أولي الأمر بشرطه تجب طاعتهم فيه إذا حكموا به ولم يكن مخالفًا
لكتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما تجب لأجل منع الفوضى وحفظ
الحقوق ومنع العدوان، وإقامة النظام؛ ولكن لا يجوز لهم أن يسموه حكم الله تعالى،
ويدَّعوا أن الله تعبد عباده به؛ وإن المخالف له عاصٍ لله تعالى فاسق عن أمره،
خارج عن هداية دينه، يستحق عذابه في الآخرة، فضلاً عن كونه يخرج من الملة
بإنكاره أو استحلال مخالفته، كما يتوهم أكثر المسلمين في مخالفة اجتهاد الفقهاء،
ومنها ما نحن فيه من الكلام في أحكام الربا الاجتهادية يتوهمون أن كل من خالف
الصحيح المعتمد في المذهب الذي ينسب إليه في مسألة منه - ككون كل نفع
للمقرض من المقترض ربا - أنه واقع في الوعيد الشديد في آيات سورة البقرة بأنه
محارب لله ولرسوله في الدنيا، وأنه يقوم من قبره يوم القيامة كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس، وأنه حقت عليه لعنة الله في حديث (لعن الله آكل
الربا وموكله وشاهديه وكاتبه هم فيه سواء) رواه أحمد ومسلم بهذا اللفظ من حديث
جابر وأحمد وأصحاب السنن عن غيره.
بل أقول: إن أصول علم الحديث تمنع أن يدخل في عموم هذا الوعيد الإلهي
الخاص بالكبائر من يأكل ربا الفضل - الذي جعله بعض الحنفية كمفتي الهند الذي
رددنا عليه في كتابنا هذا بيانًا لربا القرآن - في مثل صرف ريال مصري بأربعة
أرباع الريال المعروفة مع تأخير في القبض أو اختلاف في المجلس مثلاً، كما أن
الوعيد على الزنا لا يعم ما سمي باسمه من ذرائعه كالنظر واللمس ولو بشهوة.
وما قررته في هذه المسألة موافق لأصول الأئمة المجتهدين كما أنه هو
المتبادر من النصوص؛ ولكن أكثر المسلمين يجهلونه، وفي بعض كتب الفقه ولا
سيما كتب الحنفية نصوص فقهية في تكفير من يقول أو يفعل ما يدل على عدم
إذعانه واحترامه لهذه الكتب وما فيها من الفتاوى، أو الطعن على مؤلفيها أو غيرهم
من الفقهاء، بشبهة أن ذلك يستلزم الطعن في شرع الله ودينه، ثم في الله عز وجل
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولو جاز لأحد التكفير بمثل هذه اللوازم لكان
من يكفر أحدًا من المسلمين بهذه الآراء أولى بأن يحكم بكفره، بل يمكن الاستدلال
على كفره ابتداء بأنه افترى على الله وشرَّع لعباده ما لم يأذن به.
بل أقول: إن جميع هؤلاء الأئمة مجمعون على أن آراءهم الاجتهادية ليست
شرعًا دينيًّا يجب اتباعهم فيه، وأنهم ليسوا إلا باحثين فيما شرعه الله تعالى لعباده
مبينين لما يفهمونه منه، وأنه لا يجوز لأحد العمل به إلا من ظهر له صحة دليله
واقتنع به، وقد فصلنا هذا بدلائله وبالنقل عنهم رضي الله عنهم في مواضع من
مجلة المنار، ومنها ما جمع في كتاب (الوحدة الإسلامية) وكتاب (يسر الإسلام،
وأصول التشريع العام) .
أطلت في هذه المسألة على ما سبق في معناها لفشو الجهل بها على عظم
شأنها، وأنتقل منها إلى بيان ما جاء في الكتاب العزيز في مسألة التحريم والتحليل
والحرام والحلال في المعاملات المالية، ثم إلى مجمل ما ورد في الأحاديث النبوية
الصحيحة من النهي عن بعض المعاملات المالية، وحكم هذه المناهي ومذاهب
الفقهاء فيها، ثم أقفي على ذلك بما عليه أهل هذا العصر في الأقطار الإسلامية التي
تعامل شعوب الحضارة ودولها من المعاملات التجارية والشركات المالية، وما هو
محرم منها في دين الإسلام، وما هو غير محرم، وأستغني بهذا عن إفتاء من
يستفتونني في هذه المسائل من الشرق والغرب، وأبدأ ببيان الدلائل على أن
التحريم الديني حق الله تعالى فأقول:
نصوص القرآن في التحريم الديني
(وكونه لله تعالى وحده)
إن التحريم الديني هو حق الله تعالى على عباده، فليس لأحد من خلقه حق أن
يحرم عليهم شيئًا إلا بإذنه في وحي منه، فكل ما قاله ويقوله الفقهاء في التحريم
الديني باجتهادهم غير مستند إلى نص صريح من الشارع فهو باطل كالقول في
أصول العقائد والعبادات، دون صفة الأداء كالقبلة، ومن أدلة هذه القاعدة ما يأتي:
(١) قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) .
(٢) قوله تعالى:] وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [الآية (النحل: ١١٦) .
(٣) قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: ٥٩) ويدخل في هذا ما
أنكره على المشركين، وذمهم عليه من تحريم بعض الحرث والأنعام عامًّا أو خاصًّا
في آيات معروفة.
(٤) قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) وفي تحريم الطيبات وتحريم الأطعمة آيات أخرى
ليس هذا محلها.
وقد اشترط أئمة العلم من السلف كالحنفية أن التحريم لا يثبت إلا بنص قطعي
من الشارع، بل قال بعضهم من القرآن دون الدليل الظني وسيأتي بيانه.