للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المعاهدة الجديدة
بين إنكلترة والعراق

إن في العراق حزبًا عراقيًّا إنكليزيًّا، وأعني بكونه إنكليزيًّا أن ساسة الإنكليز
يثقون بزعمائه ويعدونهم أصدقاء أو غير أعداء لهم. وإن من أركان الحزب
العراقي الإنكليزي: نوري باشا السعيد، وجعفر باشا العسكري. ولما تعذر الاتفاق
بين الإنكليز في العراق وبين الوزارات كلها، عَهِد جلالة الملك فيصل برياسة
الوزارة إلى نوري باشا السعيد فلم يلبث أن اتفق مع الإنكليز على عقد معاهدة
سياسية عسكرية يلغي بها ما يسمى الانتداب وتجعل شؤون العراق بين الدولتين
بدون وساطة جمعية الأمم، بل تساعد الدولة الإنكليزية العراق بمقتضاها على
أن تكون عضوًا في جمعية الأمم كسائر الممالك الداخلة في دائرة الإمبراطورية
البريطانية المرنة التي يسعى ساسة لندن لجعْل الشرق كله في جوفها.
وقد كانت الدعاية التي تقدمت هذه المعاهدة والتي أعلنت فيها بالإجمال قبل
التفصيل، متقنة كل الإتقان، فلم يعلم الناس بما فيها من الخطر على العراق بل
على الأمة العربية كلها إلا بعد نشرها برمتها. وقد كنت ممن ظنوا أن أكبر غوائلها
بقاء حظائر الطيارات البريطانية فيها. ثم ظهر أنها معاهدة عسكرية تقرر فيها جعل
بلاد العراق وكل ما فيها من القوى وطرق المواصلات تحت تصرف الإنكليز
العسكري إذا وقع بينهم وبين أحد حرب، كما تقرر فيها مساعدة الإنكليز للعراق
بقواها العسكرية حالة وقوع حرب بينها وبين دولة أخرى، بل تقرر فيها أن تكون قوة
العراق العسكرية وأسلحتها في تصرف الإنكليز!
ومن المعلوم بالبداهة عند جميع المشتغلين بالسياسة أن الدولة البريطانية
موجهة براعتها السياسية إلى استعباد الأمة العربية وجعل جميع بلادها العامرة تحت
سلطانها، من مصر الرازحة تحت نير احتلالها العسكري إلى العراق فالكويت
فعُمان أي إلى آخر حدود جزيرة العرب والتمهيد بذلك إلى جعل الحجاز ونجد تحت
سيطرتها، وبهذا تقطع الطريق على الشعوب العربية دون الاتفاق والاتحاد
والاستقلال.
ومن المعلوم بالاختبار الصحيح وتاريخ الفتح أو الاستعمار الإنكليزي في الهند
ثم في مصر والسودان أن الإنكليز يضربون الأمم الجاهلة أو المتخاذلة بعضها
ببعض، فيفتحونها بأيدي أهلها وبأموالها، فإن ما ينفقونه من المال في أول الأمر
يستوفونه بعد ذلك مع ربح فاحش جدًّا، هكذا فعلوا في الهند وهكذا فعلوا في مصر
والسودان، وهكذا يفعلون اليوم في البلاد العربية بِدَارًا أن تجمع كلمتها وتوحد
نهضتها وتؤلف الدولة أو الدول المتحدة أو المتحالفة التي يسعى إليها أهل اليقظة
والرأي من أبنائها.
نصبوا أولاد الشريف حسين ملوكًا وأمراءَ على حدود الحجاز ونجد لعلمهم بما
تأرَّث بينهم وبين ابن السعود من سعير العداوة والبغضاء، فهم يخوفون به ملك
العراق وأمير شرق الأردن ويستعينون بنفوذهما وبرجال البلاد ومالها على إقامة
الحصون والمعاقل تجاه نجد والحجاز، ويخوفون ملك الحجاز ونجد بأنه إذا شذ عن
رغبتهم فإنهم يقاتلونه بأيدي أمته العربية وبما وراءها من قوتهم، لعلمهم أن قوة
العراق وشرق الأردن دون قوته الآن، على أنهم يُظهرون الصداقة له ولجيرانه معًا
كما كانوا يفعلون في الهند سواء، وسنأتي بالشواهد التاريخية على هذا في الجزء
التالي إن شاء الله تعالى.
عبد العزيز آل سعود رجل مسلم قوي الإيمان، عربي صادق العربية، لا
مطمع له في بلاد شرق الأردن ولا العراق، وهو لم يزحف على الحجاز ويستولي
عليه إلا مضطرًا إلى ذلك بما أحرجه الملك حسين حتى جعل مقاتلته ضربة لازب
يوجبها الشرع الإسلامي ومصلحة نجد والعرب والمسلمين، وهو يرى حمل الحجاز
ثقيلاً عليه لما يحتاج إليه من أنواع الإصلاح الكثيرة من دينية ومدنية، وناهيك
بتقريب مسافة الخلف بين تربية أهله وشؤونهم الدينية والمعاشية وتربية أهل نجد
وشؤونهم، فهو لا مطمع له فيما وراء ذلك ولا ينوي أن يعتدي على أحد من جيرانه
في الجنوب ولا في الشمال وكلهم من قومه وأهل ملته.
فأي حاجة مع هذا إلى إقامة الحصون والمعاقل على حدوده إذا لم تكن
استعدادًا لما ذكرنا من قطع الطريق على الوحدة العربية قبل أن تتمهد سبيلها؟
وأي حاجة بالعراق إلى مجاراة الإنكليز على هذه السياسة بمعاهدة حربية وهم
يعلمون أن جيرانها الآخرين من الترك والإيرانيين لا يمكن أن يتصدوا لفتحه لأن
لهم في أنفسهم شغلاً عن ذلك، على علمهم بأن الدولة البريطانية لا تنوي ترك
العراق لأهله، وأن أعمالها العسكرية ولا سيما المطارات والمعاقل والحصون
والسكك الحديدية التي تصل العراق بحيفا قبل انتهاء الخمس السنين التي ضربتها
المعاهدة أمدًا لخروج الجيوش الإنكليزية من العراق - وما في النية إحداثه من
السكة الحديدية العسكرية التي تصل العراق بالبحر الأحمر - كل ذلك وسائل
لرسوخ قدمها في هذه البلاد وتأسيس إمبراطورية بريطانية جديدة فيها في هذا
الوقت الذي تتداعى فيه أركان إمبراطورية الهند الكبرى التي لولاها لم تكن إنجلترة
من الدول العظمى، وستستقل الهند بيقظة زعمائها وعلمهم وإخلاصهم، بل في الوقت
الذي يتحدث فيه بعض ساسة أوربة بقرب أجل هذه الدولة ويتوقع فيه سقوطها في
الحرب الآتية التي لا بد منها.
إن أعظم ضباط العراق وطنية عربية ومعرفة بقيمة الاستقلال قد أقسموا أغلظ
الأيمان لجمعية عربية غايتها استقلال البلاد العربية استقلالاً تامًّا بجميع معانيه
الحقوقية والسياسية، وجعل الأمة العربية في مصاف الأمم الحية، فماذا فعلوا
بيمينهم هذه؟ ومنهم بعض أعضاء هذه الوزارة التي عقدت هذه المحالفة وهي الآن
تبذل نفوذها لتأليف مجلس نيابي يجعل استعباد إنكلترة العسكري للعراق شرعًا
بالاعتراف لها بأنه من طرق مواصلاتها الإمبراطورية! وبأن لها الحق في
استخدام جميع قواته لمصلحتها العسكرية، وفي جعْل تأليف قواته العسكرية وسلاحه
وسائر شؤونه بيد الإنكليز يتصرفون فيها كما تصرفوا في قوات مصر، ولم يكن
لهم من الأمة المصرية مثل هذه المعاهدة ولا هذا الاعتراف.
إن تأليف مجلس نيابي يبرم هذه المعاهدة على علاتها ليس له معنى إلا بيع
العراق للإنكليز بيعًا شرعيًّا لا يمكن الرجوع فيه، وإنما يبقى أمام العراق طريق
واحد للحرية والاستقلال وهو الثورة العامة لإخراجهم بالقوة، ولكنها ستقطع هذا
الطريق عليهم بأيديهم. وقد شرعت في ذلك ببثّ الأحقاد المذهبية بين أهل السنة
والشيعة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، والعصبيات الجنسية بين العرب
والكرد والآشوريين، وبإلقاء جراثيم الإلحاد والإباحة وحرية الفسق التي لا يمكن أن
تقوم لأمة معها قائمة، وستنزع السلاح من جميع القبائل بقوة الجيش العراقي الذي
ستنظمه لخدمتها. وللعراقيين كبير عبرة بسيرتهم في مصر والسودان، ومَن لم
تؤدبْه الحوادث أدبتْه الكوارث!