وصف بعض المحررين في إحدى الجرائد اليومية فريد أفندي وجدي بأنه من عشاق الانتقاد عليه، وكنا نحن على علم يقيني بأنه يمقت الانتقاد أشد المقت؛ لأنه من أصحاب الدعوى العريضة والغرور، ولأنه لما طبع كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) ، وأهداه إلينا تصفحنا بعض صفحاته، فألفينا فيه من الخطأ في المسائل الدينية والدعوى ما لا يجوز السكوت عليه، وكنا قد عرفنا الرجل معرفة شخصية وأحسنا الظن به؛ لما حدثنا به عنه بعض محبيه من انقطاعه للمطالعة والكتابة، فكرهنا أن ننتقد الكتاب بدون استشارته واستئذانه، فكتبنا إليه - وكان في دمياط - نتلطف في الاستئذان، ونلبسه من حلل الثناء ما يكون به حسنًا جميلاً، فكتب إلينا راجيًا أن لا ننتقد الكتاب، وقال: إن الانتقاد يصرف الناس عن المنتقد؛ لأن الأمة لم تتعود ذلك أو ما هذا معناه. فاكتفينا يومئذ بإطرائه وإطراء كتابه؛ تنشيطًا له. إلا أننا انتقدنا عليه شيئًا واحدًا؛ وهو دعوى أن أحدًا لم يقم بالبحث عن أسباب ما حل بالمسلمين؛ لما فيه من هضم المنار [١] . لما كتب ذلك الكاتب في تلك الجريدة ما كتب، قلنا: لعل الزمان غَيَّر منه فحبب إليه الانتقاد، أو لعله صار يحسن الظن بالأمة، فلا يخاف أن تصرفها كلمة نقد عن الشيء الذي تنتقده إذا كان حسنًا في نفسه. فكتبنا في جزء الشهر الماضي ما كتبنا، ولم يكد ينتشر الجزء، حتى بادر فريد أفندي وجدي إلى كتابة أربع مقالات في جريدة اللواء؛ تمثل كل كلمة منها للقارئ اضطراب مجموعه العصبي - وهو عصبي المزاج - وبلوغ الغيظ والغضب والامتعاض منه منتهى ما تبلغ من أمثاله العصبيين. على أنه يقرر ويكرر في كتاباته ما اقتبسه من المنار أو غيره من قول الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. (يشير إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم) ، بل يصرح بأن هذا أصل من أصول الإسلام العمرانية التي يفضل بها غيره. فلماذا عظم عليه الانتقاد عليه وأخذته العزة بالإثم، حتى استفرغ كل هاتيك الغميزة والإزراء بالمنتقد، والتعظيم والتبجيل لنفسه، وكلاهما منكر عظيم؟ ذكرنا في نبذة الجزء الماضي: أن الأستاذ المرحوم - رحمه الله تعالى - قال في وصف ما يكتب فريد أفندي وجدي: إنه مقدمات ووعود. وكان يرجى أن تفيده هذه الموعظة الدُّرية من إمام العصر، وحكيم الشرق ومفخر مصر، فيترك تلك المقدمات والوعود التي كلها دعاوى وتبجح، ويتكلم في المقاصد من غير أن يدخل نفسه فيها. ولكنه كان بعد العلم بها أوغل في ذلك منه قبله، وزاد على الوعود فتوعدنا إذا عدنا للانتقاد عليه بما يأتي: قال في آخر المقالة الأولى بعد دعوى أن الناس يعهدون منه إلى اليوم دفع السيئة بالحسنة، ما نصه: (فإن لم يعد الشيخ رشيد رضا إلى صوابه، ويحترم الأمة التي يعيش بين أظهرها، ويعرف مقامه من العلم والعمل، اضطررنا لتعقب سقطاته في مجلة الحياة، وشننا عليه غارة لا يقيم بعدها رأسًا، فيأخذ عنا درسًا ينفعه هو وأمثاله؛ ممن يريدون أن يعيشوا بين ظهراني هذه الأمة باحتقارها، وتسفيه أحلام قادتها) . مهلاً يا أخي فريد أفندي، ولا تبطش البطشة الكبرى، فإني معذور بما كتبت؛ لأنه اعتقادي، وأنت تدعي احترام حرية الاعتقاد، حتى إنك تدعي تصحيح عقائد المارقين من النابتة الجديدة. مهلاً يا أخي، ولا تستعمل قدرتك كلها في الانتقام، فإنني لا أعتقد أن بيان غلطك - وأنت غير معصوم - إهانة للأمة، وترك لاحترامها. مهلاً يا أخي، واستعمل الحلم، فإنني ما علمت ولا سمعت بأنك من قواد الأمة، ولا أعتقد أن انتقاد القائد إذا أخطأ في قيادته يكون احتقارًا للأمة. بعيشك يا أخي، قلِّد صاحب جريدة اللواء في الفخر والدعوى ومدح النفس، ولا تقلده في دعوى أن الأمة تبع لك وأنها وراءك، فإن هذا هو الاحتقار لها، لا بيان خطئك في فهم الشرع، وتعريف الوحي وإنكار نبوة آدم عليه السلام، ولا في تحريك العصبية الجنسية الجاهلية. ثم قال في آخر المقالة الرابعة: (وإني قد تسامحت هذه المرة مع الشيخ رشيد؛ دفاعًا عن مدرسة العلوم العالية، ولو عاد للحط من كرامتي وكرامة مدرستي، ولم يلتزم جادة المحاسنة في الكلام على القوم الذين يعيش بين أظهرهم، بدأت له في الدرس الذي وعدته به، وكنت أنا صوت السخط العام عليه، والعاقل من اختار السلام. والسلام) اهـ. رفقًا يا أخي فريد أفندي، واجعل الانتقام خاصًّا لا عامًّا، ولا تسلط عليَّ الأمة التي ترى أنك أنت قائدها، فإنك ربما جربت ذلك فقضيت عليَّ ثم ندمت. وربما كشفت لك التجربة أنك لست قائدًا للأمة إلا في خيالك ووهمك، وأن مكانة أخيك أثبت فيها من مكانتك، فبؤت بالخيبة. الانتقام الخاص الذي أذنت لك فيه؛ هو أن تتبع سقطات المنار وتثبتها في الحياة، فإني لا أبرئ المنار من السقطات، ولا أدعي العصمة، وأتمنى لو أجد وقتًا أقرأ فيه مجلدات المنار التسعة أو العشرة؛ لأستخرج منها ما لعلي أهتدي إليه من السقطات، وأبينها للناس. وإنني في كل سنة أحث العلماء على نقد المنار، وأنشر كل ما يرد إلي من ذلك، ولا أسخط على الناقد، ولا أهينه، ولا أتكبر عليه، وإنني أتمنى أن تستعين على نقد المنار بغيرك، فما أراك وحدك أهلاً له؛ لعدم اطلاعك على العلوم الدينية، وأتمنى أن يكون من تستعين به من غير المحبين لي، وأنصح لك أن تترك في ذلك مدح نفسك وذم غيرك، وما اعتدته من المقدمات والوعود، فإنك إن تفعل هذا، أنقل كلامك في انتقاد المنار، وإلا أهملته ولم أحفل به. وأما الانتقام العام الذي نهيتك عنه مع علمي بعجزك، فهو تحريك العصبية الجاهلية عليَّ؛ أعني: عصبية الجنسية؛ لأني لست مصرًّيا. العصبية الجاهلية والإسلام لم تكتف يا أخي بالغميزة والإزراء في مقالاتك، حتى قلدت جريدة اللواء في شر ما جنت به على الإسلام من تحريك عصبية الجاهلية بتفريق المسلمين إلى جنسيات مناطها الوطنية، فأخذت ترجف بأن الحامل لي على انتقاد كلامك كراهة؛ أن ينجح للمصريين عمل عظيم (كمدرسة العلوم العليا) ولماذا يا ترى أكره أن ينجح للمصريين عمل عظيم؟ هل أنا على مذهب مصطفى كامل في العصبية الجنسية الجاهلية التي محاها الإسلام؟ فقام هو يثبتها، وجئت أنت اليوم تؤيده من حيث أيَّدك في نشر طعنك على أخيك. ألست قد حاربت هذه النزعة الجاهلية، وبينت فسادها مرارًا كثيرة؟ على أنني باذل كل حياتي لنصيحة المصريين وخدمتهم، قبل غيرهم من الشعوب الإسلامية التي هي عندي في مرتبة واحدة من حيث هم مسلمون، لا أُفَضِّلُ سوريًّا على صيني، ولا تونسيًّا على مصري. قلت بعد الإرجاف بما ذكر، والتصريح بأنه ربما كان لطف أخلاق المصريين ومجاملتهم؛ سببًا في جرأتي على الافتيات عليك ما نصه: (لم يكتف هذا الرجل أن يتحكك في مجلته بملوكنا وأمرائنا، وعلمائنا وكتابنا، ورجال صحافتنا على طريقة أصحاب الجرائد الساقطة، حتى قام اليوم يفتات على أئمة الدين) .. إلخ. أقول: لو أنك قلت هذا القول قبل سنتين أو أكثرلأحسنت فيك الظن، وقلت: لعله لا يدري ماذا جنى هؤلاء الرؤساء على الإسلام والمسلمين، فهو يعتقد أن ما ننسبه إليهم خطأ يضر. ولكنك في هذه المدة الأخيرة قلدتني في ذلك، حتى غلوت في ذم هؤلاء الرؤساء غلوًّا كبيرًا، وحكمت بمروقهم مع معظم الأمة من الإسلام، وخصصت منهم أهل الأزهر بأشد الطعن لا سيما في مقالاتك التي نُشِرت في المنبر، وادعيت أنه لم يبق أحد من أصحاب العمائم يرجع إليه في فهم الدين، وإنما انحصر علم الدين في بعض أصحاب الطرابيش، وإنما تعني طربوشك وحده فإنه يرجح بعدة طرابيش، كما رجح بالعمائم كلها. فكيف جاز لك هذا الغلو، ولم يجز لي أن أبيِّن الحقائق بالاعتدال؟ لعل السبب في ذلك؛ أنك ولدت في مصر وإن لم تكن مصري الأصل، وأنا لم أتشرف بمثل هذا المولد. إن هذه الأمة أمة واحدة، كما جاء في الكتاب العزيز. فكيف يفرقها فريد أفندي تبعًا لصاحب جريدة اللواء، ويجعلها أممًا وتلك هي العصبية الجاهلية التي أزالها الإسلام، وجعل المؤمنين أخوة أينما كانوا ومن أي جنس كانوا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل تحت راية عمية، ينصر العصبية ويغضب للعصبية، فقتلته جاهلية) . رواه مسلم والترمذي عن جندب، وفي حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر - وناهيك بمكانه من الدين -: (إنك امرؤ فيك جاهلية) . أتدري لماذا قال له ذلك؟ قاله لما عيَّر بلالاً الحبشي بأمه الحبشية، أتدري ماذا فعل أبو ذر عند ذلك؟ إنه وضع خده على التراب، وآلى أن لا يرفعه، حتى يطأ عليه بلال. فهل كنت وأنا عربي من سلالة الرسول أبعد عن مسلمي مصر في الجنس من بلال الحبشي عن أبي ذر؟ فإذا كان صاحب ورقة اللواء يدعو إلى العصبية الجنسية؛ لأنه سياسي لا يبالي وافق الإسلام في سياسته أم خالفه، فأنت يا فريد أفندي لست سياسيًّا، بل تتنفج دائمًا بالدعوة إلى الإسلام. فما معنى إخراجك إياي من هذه الأمة، وتحريض مَنْ فتنتهم جريدة اللواء بالعصبية الجاهلية عن هدي الإسلام، وإخوة الإيمان عليَّ، وتبغيضي إليهم؛ بإيهامك إياهم أنني أحتقر المصريين كافةً ولا أحب لهم الخير؛ لأنني لست منهم. إن أمثال هؤلاء المفتونين لا قيمة لرضاهم ولا لسخطهم، فحسبي أن المؤمنين الصادقين من المصريين، يروني أخًا لهم وأراهم إخوة لي، وإن زعمت أنهم قليل؛ لتصريحك بأن أكثر الأمة عوامها، وخواصها ليسوا على الإسلام الصحيح، فإن هذا القليل عندي خير من كثير أهل العصبية الجاهلية. على أنني أحب الخير لجميع الناس من كل الشعوب والأجناس، ويعرف لي هذا كثير من الموافقين والمخالفين. ظن فريد أفندي وجدي كما يظن صاحب جريدة اللواء أن العصبية الجاهلية أصبحت سلاحًا قاتلاً في أيديهما، لا يجردانها على (دخيل) إلا ويجدلانه، حتى لا يرتفع له رأس، ولا تقوم له قائمة (ياللغرور) . وظن فريد أفندي وجدي أنني لشدة رعبي من هذا السلاح، لم أرد على إبراهيم بك المويلحي إذ تحرش بي من نحو سنتين ونصف، فكتب في المؤيد يقول: إنني جئت مصر فقيرًا، ثم بعد أن صرت غنيًّا طعنت على أهلها. ونسي فريد أفندي أو تناسى أن المسألة كانت أكبر من ذلك، وأن المويلحي لم يكن هو الذي طعن فيَّ وحده، بل انبرى لي يومئذ المؤيد واللواء والجوائب وجرائد أخرى، ولم أكن أنا المقصود وحدي يومئذ بحملة هذه الجرائد، ومن كتب فيها، وإنما كان الغرض الأول الذي تسدد سهامها إليه هو المرحوم الأستاذ الإمام فخر المصريين، وأعظم نابغ في مصر. وليعلم فريد أفندي أن تلك الغارة الشعواء التي يعجز هو عن عشر معشارها، ما زادت المنار إلا انتشارًا، ولعله لا يجهل مصدرها العالي، وما أنفق فيها من بدر الذهب. فاكفف يا أخي غربك، واستوقف سربك، واعلم أن الأمر ليس في يديك، وأن سهمك ربما عاد عليك، فهذه نصيحتي إليك، ثم إلى سائر المغرورين، الذين يفرقون بالجنسية جماعة هذا الدين، ولولا هذه النصيحة، لما ذكرت عنك هذه الفضيحة، فلا يغرنَّك اعتقادك بجهل الأمة التي قلت بمروقها من الدين، وبعدم استعدادها للحكم النيابي، فتظن أنك تعبث بها كما تشاء لا سيما إذا وازرك اللواء، فإن الأمة صارت تميز بين النافع والضار أكثر مما تظن ولذلك كانت مجلات أكثر السوريين تفوق مجلتك انتشارًا، لم يصدها عن ذلك هذيان اللواء بالعصبية الجاهلية؛ لأن العلم لا وطنية فيه، فما بالك بالدين؟ ثم أتكلم في المقصد. مدرسة العلوم العالية قال بعض المعتدلين: إن كل ما انتقد به المنارعلى فريد أفندي صواب، ولا مندوحة عنه إلا تلك الكلمة في تصغير شأن مدرسته، فإنها ليست جوهرية، ولولاها لم يكن له في الرد على صاحب المنار كلمة تسمع. ومن نظر إلى المسألة في ذاتها كان له أن يقول ذلك؛ إذ ليست إلا أن امرءًا يكبِّر عمله الصغير؛ ليعظم في أعين الناس، فيقبل عليه قوم، ويساعده آخرون؛ ولذلك قال بعض الناس، بل نقلوا عنه: إنه ما ادعى إنشاء مدرسة عالية إسلامية تدرس فيها جميع العلوم العالية مع تطبيقها على الدين؛ إلا لأجل تحويل أريحية الأغنياء عن الجامعة المصرية إليه هو؛ لأن مدرسته تحتوي (بحسب دعواه) على جميع العلوم التي تنشأ الجامعة لأجلها، وتزيد عليها علوم الدين. فإذا حولت إليها التبرعات والأوقاف، كانت أولى بها وأجدر. ويقال: إنه تعجب بعد أن مر على كتابة تلك المقالة بشأن المدرسة العليا في المؤيد واللواء شهران، ولم تنهل عليه الجنيهات، وتكتب لمدرسته الوقفيات، ولعله هذا هو سبب قوله في الجزء الأخير من مجلته: إن الأمة المصرية غير مستعدة لأن تحكم نفسها بحكومة نيابية. مهلاً أيها المعتدلون، لا تعجِّلوا بالاعتراض على هذه الجملة، ولا على أصل المسألة، حتى أبين لكم المراد منها، وهو ليس بيان الخطأ في تسمية حجرة من مدرسة ابتدائية مدرسة عالية كما ادعى، فقام يشبه نفسه بفلاسفة اليونان، ومدرسته بالأماكن التي كانوا يلقون فيها فلسفتهم؛ إذ لو كان هذا هو المراد لاعترفت بالخطأ، وإن كنت مصيبًا يمكنني أن أقول: إنه يتكلم بعرف هذا العصر، لا بعرف تلك العصور. والمدارس العالية في هذا العصر مباني عظيمة فيها كثير من الآلات والآثار، والتحف المعدنية والنباتية والحيوانية التي يحتاج إليها في تدريس تلك العلوم، ولها كثير من المدرسين؛ إذ يستحيل أن يتقن العلوم العالية كلها، ويستطيع تدريسها رجل واحد من المتخرجين في تلك المدارس، بل فريد أفندي وجدي الذي لم يبرع في العلوم الأولى فيرتقي إلى الوسطى، كما يدل على ذلك سقوطه في امتحان شهادة البكلوريا التي ينالها الجم الغفير من الأحداث كل سنة. ليس هذا ما نعني، فإنه من الأمور الجزئية، وإنما نعني أمرًا كليًّا أومأنا إليه في الجزء الماضي إيماءً ولم نشرحه؛ لأن في الشرح جرحًا، واللبيب تكفيه الإشارة، وإذا كان لبيبنا لم يكتف بالإشارة، فها نحن أولاء نشرح ذلك. المسألة ذات بال من جهة فريد أفندي نفسه ومن جهة الأمة. أما من جهته نفسه؛ فإن ما ادعاه من إنشاء مدرسة عالية، ليس هفوة عارضة لا يترتب عليها شيء فيغضى عنها، وإنما ذلك شيء صار خُلُقًا له وملكة فيه، وقد أضر به ذلك الخلق كما أضر بالناس، ونعبر عن هذا الخلق بالتشيع بما لم يعط، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) . متفق من حديث الشيخين. كتابه كنز العلوم واللغة مثال ذلك كتابه (كنز العلوم واللغة) . كتب في بعض الجرائد اليومية أنه شرع في تأليف دائرة معارف كاملة في مجلد واحد، يجمع فيها خلاصة ما انتهى إليه البشر في جميع العلوم والمعارف اللغوية والدينية والعربية بجميع فنونها، والفلكية والطبيعية والكيماوية، والتشريحية والطبية والصحية، والمعدنية والنباتية والحيوانية، والجغرافية والعمرانية والتاريخية والرياضية ... إلخ. وأتذكر أنه وعد بأن يودعه رسوم (خرط) جميع البلاد والممالك، وصور أشهر الرجال المتقدمين والمتأخرين. فهل في استطاعة أحد من البشر أن يؤلف كتابًا كهذا؟ كلا إنه لم يوجد في البشر من يتقن هذه العلوم كلها إتقانًا يستطيع به تلخيصها في دائرة معارف، وإنما يؤلف دوائر المعارف في أوربا الجمعيات، لا الأفراد. ولو فرضنا أن فريد أفندي وجدي أتقن علوم البشر كلها، وإن لم يتلق علوم الدين ولا طالع جميع علومه، ولم يتلق من علوم الدنيا ما يؤهله لشهادة البكلوريا. فهل في استطاعته أن يجمعها كلها في مجلد واحد مع الخرط والصور أو بدونها. أليس إذا قيل: إن هذا من المحال الذي لا تتعلق قدرة الله به، يكون القول معقولاً. ظهر الكتاب فإذا في مقدمته أنه يحتوي تلك العلوم والفنون كلها. ولكنه لم يذكر الصور والخرط. ولكنك تراجع أهم مسائل هذه العلوم فلا تجدها بالطبع، وما عساك تجده منها فكثير الخطأ قليل الفائدة، حتى قال أحد العلماء عندما اطَّلع عليه: إن هذا الكتاب سيقضي على هذا الرجل، ويذهب بغرور المغترين به. وكان يسهل عليه أن يغير تلك المقدمة التي يكذبها الكتاب في مجموع مواده، ويعتذر عن وعوده في الجرائد. وإننا نورد لك بعض الأمثلة على تكذيب الكتاب لها، ثم نبين وجه تمثيل هذا الكتاب بالمدرسة العالية، ووجه كون الانتقاد عليهما واجب مفيد لفريد أفندي وللأمة، وليس من المسائل الشخصية أو الجزئية. جعل فريد أفندي أنواع علوم دائرة معارفه عشرة قال: (أولاً) العلوم الدينية: كعلم التوحيد مما يجب أن يعلمه كل إنسان في حق الله - تعالى - وحق الرسل من عقائد أهل السنة. وفي هذا القسم أسماء الرسل وتواريخهم الصحيحة، وتراجم الصوفية واصطلاحاتهم، وفيه تفصيل شاف لجميع مذاهب المعتزلة والمتكلمين، وسائر العقائد التي ظهر بها فلاسفة المسلمين في عصر المدنية العربية. وفيه تنبيه على البدع التي طرأت على المسلمين، وتوجيه الأفكار للتوقي منها. وفيه كل المسائل الفقهية التي يحتاج إليها كل مكلف تفصيلاً: كمسائل الطهارة والوضوء والاغتسال، والصلاة والصيام والحج، وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، بحيث يستغني به عن السؤال. ولم نقتصر على مذهب واحد، بل جئنا فيه بالمذاهب الأربعة؛ ليأخذ منه كل أحد ما يوافق طريقة إمامه. اهـ هذا النوع. أقول: إنه جعل العلوم الدينية عدة أنواع، ووعد بما سمعت في كل نوع، ولم يف به، وكيف يفي به وهو لا يعرفه؟ وإليك الأمثلة: (١) أهم مسائل علم التوحيد الإلهية؛ مسألة وحدانية الله - تعالى - التي جعلت كلمة التوحيد عنوانًا على الإسلام لأجلها، ومسألة صفات الله - تعالى - التي يثبتها السلف دون المعتزلة ومن على شاكلتهم، وهو لم يبينهما بل لم يذكرهما في موادهما كما وعد، ومسألة القدر وقد ذكرها، ولم يبين معناها، بل اعترف بالعجز عن بيانها. (٢) أهم مسائل علم التوحيد في النبوات مسائل الوحي، وتكليم الله الأنبياء وعصمة الرسل، والتبليغ والمتشابهات في القرآن، ولم يشرح شيئًا منها. ولم يذكر أسماء الرسل المذكورين في القرآن الذين ذكروا في كتب العقائد أنه يجب الإيمان بهم تفصيلاً، حتى إنه ذكر داود، ولم يذكر سليمان - عليهما السلام -، والنصارى لا يقولون بنبوته، ولم يبين تواريخهم الصحيحة كما وعد. بل اكتفى في موسى - عليه السلام - وهو أكثرهم ذكرًا في القرآن وأوسعهم تاريخًا، بقوله: (هو رسول كريم أرسله الله إلى بني إسرائيل؛ لإنجائهم من ظلم فرعون مصر أحد خلفاء منفتاح من ملوك العائلة التاسعة عشر (كذا) المصرية قبل المسيح بنحو ألف عام) ولم يذكر أنه أرسل إلى فرعون وملإه أيضًا، وإن كان ذلك صريحًا في القرآن. وفي يعقوب عليه السلام بقوله: (نبي من أنبياء بني إسرائيل هو أبو يوسف عليه السلام) ولم يذكر أنه رسول. وفي يوسف عليه السلام بقوله: (هو ابن يعقوب كلاهما من أنبياء بني إسرائيل) ولم يذكر أنه رسول. وفي يونس عليه السلام بقوله: (هو أحد رسل الله عليهم السلام) . أفلا يعلم (ناصر الإسلام) معنى النبي والرسول؟ (٣) وذكر أن في هذا القسم تراجم الصوفي واصطلاحتهم، ولا ندري ما معنى ذكر هؤلاء في قسم التوحيد دون قسم التاريخ، وذلك غير صحيح، وإنما ذكر بعضهم وترك كثيرًا من أشهرهم، ومن ذكرهم لم يترجمهم، وقد راجعنا مادة الوحدة والوجود، والحال والمقام، والسكر والوجد والشطح، وهي أشهر اصطلاحتهم فلم نجده قد بين شيئًا منها. (٤) وقال: (وفيه تفصيل شاف لجميع مذاهب المعتزلة والمتكلمين) ، وهذا غير صحيح أيضًا، فهو لم يذكر الواصلية ولا العمرية، ولا الهذلية ولا النظامية، ولا الإسوارية ولا الإسكافية، ولا الجعفرية أصحاب جعفر بن مبشر، ولا الحائطية ولا المعمرية، ولا الصالحية ولا المردارية ولا الهاشمية، وهؤلاء أكثر فرق المعتزلة ومن ذكره من غيرهم وهم الأقل، لم يبين مذاهبهم كلهم، مثال ذلك قوله في البشرية: (فرقة من المعتزلة تنسب لبشر بن المعتمر من أفاضل علماء المعتزلة) . فهل هذا هو التفصيل الشافي لمذاهبهم كما قال؟ ولك أن تقيس على هذا زعم الإتيان بمذاهب المتكلمين وفلاسفة المسلمين. (٥) وقال: (وفي تنبيه على البدع التي طرأت على المسلمين وتوجيه الأفكار للتوقي منها) . وهذا غير صحيح أيضًا، فإنه ترك الكلام على البدع وأصلها، وحسبك أنه لم يبين بدعة القدر، وهي أول بدعة ظهرت في الإسلام. وتليها بدعة الإرجاء، وقد ذكر المرجئة، ولم يوجه الأفكار إلى التوقي من بدعتهم، كما قال. (٦) قال: (وفيه المسائل الفقهية التي يحتاج إليها كل مكلف تفصيلاً، وجميع ما يحتاج إليه الإنسان بحيث يستغني به عن السؤال) . وهذا غير صحيح أيضًا، ففي كلمة طهارة لم يذكر جميع المطهرات عند جميع أرباب المذاهب. وفي مادة نجس لم يذكر جميع النجاسات، وما ذكره فيه ما فيه مما لا محل لبيانه هنا. ولم يبين الوضوء تمام البيان، حتى إنه لم يذكر النية فيه، ولا غسل اليدين إلى المرفقين، ولم يذكر موجبات الوضوء أو نواقضه، ولا التيمم. وكذلك الغسل لم يذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف، لم يذكر كيفيته، ولا وجوب النية وعدمه فيه، ولا أن الاحتلام موجب له. وفي كلامه عن الصلاة لم يبين الأركان والواجبات عند جميع الأئمة، كالاعتدال من الركوع والطمأنينة فيه فهما ركنان عند بعضهم. وكذلك الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه. فمن ترك شيئًا من ذلك بطلت صلاته، والطمأنينة عند أبي حنيفة واجبة لا ركن، فمن تركها وجبت عليه إعادة الصلاة في الوقت. وكذلك فعل في الزكاة والصيام والحج. فإذا كابر في شيء مما قلنا، فإننا نعود ونبين خطأه فيما ذكر، كما بينا عدم صدقه فيما قال إنه بَيَّنَهُ، وهو لم يبينه. والنوع الثاني من علوم الكتاب الفنون العربية كلها، وهو فيها أشد تقصيرًا وخطأ وإخلافًا من العلوم الشرعية. مثال ذلك علم المنطق، راجعنا فيه الكليات والحد والرسم والقضية، والقياس والشكل والبرهان، والعكس والنقيض، فلم نجد لشيء من ذلك ذكرًا، فهذه أشهر اصطلاحات المنطق. نعم، قال في مادة (شرح) : القول الشارح في الاصطلاح المنطقي ما يدل على معنى الاسم في اللغة أو ذات المسمى في الحقيقة، وهذا خطأ ظاهر، وأَنَّى لمثل فريد أفندي أن يعرف شيئًا ما من اصطلاحات المنطق الذي يذمه دائمًا، (ومن جهل شيئًا عاداه) . فهذا نموذج يريك أن المؤلف لم يصدق في معظم ما ادعى أنه أودعه كتابه، وأنه لم يوفق للصواب في كثير مما ذكره، وقس عليه سائر ما ذكره من العلوم التي جعلها عشرة أنواع، تحت كل نوع أفراد كثيرة، لا يعرف هو من مجموعها إلا أسماءها. وسنبين في جزء آخر نموذجًا من خطئه في أشهرها. قد ارتكب فريد أفندي بهذا الكتاب أنواعًا من المنكرات تزيد على أنواع العلوم التي ادعاها، نعد منها ما يخطر في البال الآن، ولا نقول: إنه تعمدها، فإن بعض من يغلب عليهم المزاج العصبي يعتقدون في أنفسهم وفي علمهم ما يباين الحقيقة، كما يعتقد بعضهم أنه المهدي المنتظر، فهو في الغالب يعتقد أن كتابه حوى جميع تلك العلوم. ولكن الكتاب في نفسه يمثل هذا المنكرات وهي: (١) القول في الدين بغير علم: وهو من أصول الكبائر التي قرنها الله تعالى بالشرك في: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) . (٢) الكذب وناهيك به وبما ورد فيه. (٣، ٤) إخلاف الوعود وعدم الوفاء بالعهود والعقود، فهو بما يكتب في الجرائد من الدعوة إلى الاشتراك، قد عاهد المشتركين على أن يوافيهم بكتاب فيه كذا وكذا. (٥) عدم الأمانة في نقل العلم؛ فإنه ينقل المسألة ويتصرف فيها بما يغير المعنى، وما ورد في هذه الخصال معروف. (٦) أكل أموال الناس بالباطل، فإن الذين اشتركوا في الكتاب؛ لقراءة تلك المقالة الطويلة ذات الوعود العريضة، لم يشتركوا إلا في كتاب مشتمل على كذا وكذا من العلوم والمسائل، وكنز العلوم واللغة الذي أرسل إليهم غير مشتمل على ما ذكر، كما بينا في الأمثلة السابقة، فكان شأن المؤلف معهم شأن الصانع، يعاقد على عمل شيء موصوف بصفات معينة بثمن معين، فيأتي به غير واف بها، فهو لا يستحق ذلك المال، فهذا الاشتراك في الكتب والجرائد من قبيل ما يعرف في الفقه بالاستصناع. وكذلك من يشتري الكتاب بعد تمام طبعه؛ لاطلاعه على مقدمته. فمثل هؤلاء المشتركين والمبتاعين، كمثل من يعرض عليه رسم دار فيها كذا وكذا من الحجرات والغرفات، والمرافق المتصفة بكذا. وكذا الصفات كالحسن والاتساع. فيبذل المال، ويأخذ دارًا تخالف ذلك الرسم في عدد ما فيها وفي صفاته. وإنني أعتقد أنه إذا تاب فريد أفندي وجدي من هذه المنكرات بعد أن نبهناه عليها، وكتب إلى من اشتركوا في كتابه إنكم قد اشتركتم في هذا الكتاب؛ لما وعدتكم به من استيفائه لكذا وكذا من العلوم اللغوية والدينية ... إلخ، وقد جاء ناقصًا معظم ذلك، فكان الاشتراك باطلاً، فمن شاء أن يقبله على علاته فذاك، ومن شاء أن يرده ويسترد دراهمه فله ذلك، أعتقد أنه إذا فعل هذا فإن الكثيرين أو الأكثرين يردون له الكتاب. وقد رأينا في جريدتي الظاهر والمقطم كتابة لبعض الفضلاء، يطلب منه فيها أن يرد له دراهمه، ويسترد كتبه وحياته. (٧، ٨) الغش في المعاملة كما علم مما بينا آنفًا، وفي العلم والدين كما علم مما قبله، وفي الحديث: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم وغيره من أصحاب السنن والمسانيد، وفي رواية للترمذي: (من غش فليس منا) وفي رواية لأبي داود: (ليس منا من غش) . (٩) التغرير وهو غير الغش، وقد يجامعه ويترتب عليه مفاسد كثيرة، فمن صدق المؤلف في زعمه أن هذا الكتاب يحوي كل ما يحتاج إليه في النحو واللغة ... إلخ، وكان عنده كتب في هذه العلوم يستعين بها، فربما باعها واشترى بثمنها الكتاب، وهو لا يغنيه عن شيء منها، حتى مختار الصحاح أصغر كتاب في اللغة، وقس على هذا سائر العلوم التي وعد بها. (١٠) التشبع بما لم يعط والدعوى العريضة، وقد عرفت حديث الصحيحين في ذلك. مدرسة العلوم العالية واعلم أن مجموع هذه المخازي التي يمثلها كتاب كنز العلوم واللغة ماثلة في مدرسة العلوم العالية، وتفارقه في أنه لم يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل، والجامع بينهما دعوى فريد أفندي أن كلا منهما جامع لكذا وكذا من العلوم التي لا يعرفها، وربما كان الغش والتغرير بالمدرسة أعظم؛ لما لا يجوز أن يغتر بعض قراء المؤيد واللواء من أهل الأقطار البعيدة بما كتب فيها فريد أفندي عن هذه المدرسة الموهومة، فيرسل ولده إلى مصر؛ ليتلقى فيها علوم الدنيا مطبقة على الدين بعد أن تعلم في المدارس الابتدائية والثانوية، حتى إذا جاءها لم يجدها شيئا، وإنما وجد فريد أفندي يتبجح بالدعوى ويفيض بالوعود، وإذا ذكر بعض المسائل خبط فيها على غير هدى، كما خبط في المسائل التي انتقدناها في الجزء الماضي. أيجوز لنا أن نسكت على هذا كله، ونحن نرى الرجل يجعل عدم الإنكار عليه حجة على أنه مصيب. بل غره هذا السكوت، فقال في أواخر مقالته الرابعة في اللواء: (وإني لأعجب للشيخ رشيد في إثارته أئمة الدين عليَّ، مع أنهم قرروا كنز العلوم واللغة في الأزهر وملحقاته رسميًّا، وهم على وشك تقرير مؤلفاتي الأخرى) . والذي يفهم من هذه العبارة أنهم قرروا تدريس هذا الكتاب، وهذا غير صحيح. وكيف يقررون تدريس كتاب هو عبارة عن أمشاج من فنون قديمة وحديثة، يكثر فيها الخطأ، وتقل الفائدة، وفيه التشنيع على التقليد، والقول بالاجتهاد، وبإثبات مذهب الوهابية، والتشنيع على مذهب المتكلمين، وبإنكار الشفاعة، والخلط في مسائل الشريعة، كما سنبينه في جزء آخر. على أنه ليس من الكتب التي يدرس مثلها. وقس على هذه الدعوى دعواه؛ أن الدولة التركية قررت تدريس بعض كتبه في مدارسها. إنه لم يُقرر تدريس الكتاب، ولا مطالعته في الأزهر ولا في ملحقاته، وإنما بلغنا أنه اشترى منه بعض نسخ لدار الكتب (الكتبخانة) الأزهرية. فهل يعد هذا تقريرًا من أئمة الدين لكتابه؟ وهل صار أهل الأزهر اليوم أئمة، ولم تمض سنة على تلك السهام التي سددها إليهم، حتى جردهم من العلم والدين، وجعلهم أكبر بلاء على المسلمين؟ ؟ لعلهم إذا اشتروا منه كتابًا آخر، يمنحهم شهادة بأنهم أئمة في العلوم العمرانية والكونية.. إلخ إلخ، هكذا يكون الإصلاح. وجملة القول في هذا الجزء أن هذا الرجل ادعى دعوة كبيرة، وجعل السكوت عليها دليلاً على صحتها وهي غير صحيحة، فنقده يعرِّفه حده، وينبهه على ما هو غافل عنه من المنكرات في عمله، ويخرج العارفين به من معصية السكوت على المنكر. ولسنا في حاجة إلى إيراد ما ورد في الكتاب الإلهي والأحاديث النبوية من: إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعيد على تركهما، وناهيك بلعن الله - تعالى- للذين لا يتناهون عن منكر فعلوه. أجوبته على ما انتقدنا عليه جعل فريد أفندي وجدي مقالته الأولى مقدمةً في شتمنا، وإطراء نفسه بالمدح والفخر، وقال في أول الثانية ما نصه: أتيت أول أمس على مقدمة في موضوع الشغب الذي أثاره على مدرسة العلوم العالية الشيخ رشيد رضا، وأريد اليوم أن أناقشه في جزئيات هذا الشغب؛ ردعًا له ولأمثاله عن التطاول إلى ما لا يعنيهم من أمورنا، حتى نفرغ لأداء واجباتنا، والقيام بأعباء أعمالنا المفروضة علينا لأمتنا وملتنا. وإني أرجو من وراء مناقشته في جزئيات كلامه أن يعرف مكانه من هذه العلوم فيثوب إلى صوابه، وينخرط في سلك طلبة هذه المدرسة التي ما أسستها إلا له ولأمثاله ممن لا يعرفون اللغات الأجنبية، وهم في أشد الحاجة إلى الإلمام بأصول العلوم الأوربية العالية التي لا كتب لها باللغة العربية. أقول له (أولاً) : كيف لا يعنيني أموركم لأمتكم وملتكم؟ ألست أنا من أبناء هذه الأمة ومتبعي هذه الملة؟ إذا كانت أمتك هي المصرية لا الإسلامية، فهل ملتك يا فريد أفندي هي الملة المصرية القديمة دون الإسلامية، حتى نضيفها إليك وإلى قومك، إن كان لك قوم يرضون ذلك، وتجعلني ممن لا يعنيهم أمرها؟ ؟ (وثانيا) كيف تقول: إنه لا يوجد كتب عربية في العلوم الأوربية، حتى كأنك بمعزل عن النهضة العلمية العربية في سوريا ومصر. ألم تعلم أن جميع العلوم كانت تدرس باللغة العربية في المدرسة الكلية الأمريكانية بيروت، وفي مدارس أخرى عالية وابتدائية فيها، وفي غيرها، منها مدرسة كفتين بجوار طرابلس (بندرنا) ، والمدرسة الوطنية الإسلامية في نفس طرابلس، ألم تطلع على دائرة المعارف العربية وعلى المجلات العلمية، كالمقتطف، ومعظمها مترجم عن أحسن المجلات والكتب الإفرنجية، وعلى الكتب الكثيرة المترجمة في مصر وسوريا، ومنها في فلسفة التشريع كتاب بنتام وكتاب مونتسكيو؟ فهل كنت أوسع علمًا وفهمًا في اللغات الإفرنجية من مؤلفي ومترجمي هذه الكتب والمجلات من العلماء والدكاترة، وأنت لم تحصِّل من الإلمام باللغة الفرنسية وعلومها ما يرتقي بك إلى شهادة البكلوريا التي يحملها الألوف من الأحداث في بلاد مصر وسوريا؟ فكيف ساغ لك أن ترفع نفسك بقولك على جميع هؤلاء العلماء، وأنت تعلم أن أعراب الأهرام وبحارة الإسكندرية، يعرفون من اللغات الإفرنجية ما لا تعرف، وما كل من عرف لغة عرف علومها. إنني ما وجهت إليك هذه التذكرة؛ إلا لأنك أفرطت جدًّا في التبجح بإلمامك الضعيف باللغة الفرنسية، حتى جعلت نفسك في مرتبة الأستاذ الإمام زاعمًا أنه ما كانت له تلك المكانة العليا في القلوب إلا باللغة الفرنسية التي تدعي أنك تساويه في معرفتها، وتجرأت على كتابة ذلك، فلم تكتف بما ينقل عنك من ادعائه باللسان. يوجد ألوف ممن أتقنوا هذه اللغة إتقانًا لا تطمع بالدنو منه، ولم يخطر على بال أحد منهم ولا من الناس، أنهم على مقربة من الأستاذ الإمام في الحكمة والعلم، ولا في المزايا والأعمال، ولم يقل في أحد منهم علماء أوربا كالدكتور براون الأستاذ المدرس في أعظم مدرسة جامعة في إنكلترا تفوق مدرسة العلوم الوجدية مثل ما قالوا في الأستاذ الإمام، إذ قال هذا العلامة الإنكليزي: إنه لم ير مثله في الشرق ولا في الغرب. بل كان للأستاذ الإمام من المكانة في الفلسفة والعلوم، والاستيلاء على العقول والقلوب قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية، ما يسهل عليك أن تعرف بعضه من مراجعة تاريخه. الانتقاد الأول وجوابه أجاب فريد أفندي عن انتقادنا عليه، جعله المحدثين والفقهاء شارعين بقوله: (ونحن نرد هذه السفسطة الغريبة بقولنا: إن لفظة المشرع والمتشرع والشارع: كلمات تطلق اليوم على المشتغلين بالبحث في الشرائع، ولكل جيل اصطلاحه، واللغة تابعة لأذواق أهلها في كل عصر) . وهذا الجواب يدل على أنه لا يفهم المسائل الأولية البديهية من فلسفة التشريع التي تصدر لتدريسها، فإنه لا يقول أحد من أهل العصر بأن الباحث في الشرائع يسمى شارعًا ومشرعًا، وإنما يطلقون لفظ الشارع والمشترع على واضع القانون برأيه وعلمه؛ إذ يسمون القانون شريعة، ولو كان كل باحث في الشرائع شارعًا، لكان جميع التلاميذ في مدرسة الحقوق شارعين. فليسأل فريد أفندي شقيقه هل يطلق عليه وعلى إخوانه من الطلاب أو المتخرجين لقب الشارع أو المشرع؟ فإذا أجابه بالسلب فليترك تدريس فلسفة التشريع حتى يتعلم بعض اصطلاحاته الأولية، ولو ممن يجهلون اللغة الفرنسية!!! على أن كلامنا كان في الاصطلاحات الإسلامية الدينية، وليس لفريد أفندي أن يغيرها؛ تبعا لعرف العصر، ومن هنا يعلم أنه لا وجه لقياس أحد من الصحابة والفقهاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسميته شارعًا مثله؛ لأن ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعرف من غيره، وهو مما يجب اتباعه فيه، وليس لأحد غيره هذه المزية في الإسلام، فسقط الإلزام الذي وجهه إلينا فريد أفندي؛ إذ قال بعد ما تقدم عنه: وإذ صح تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - الشارع مع أنه ليس بواضع الشريعة، بل مفسرها ومبينها فقط، فلم لا يصح تسمية أصحابه متشرعين باعتبار أنهم مبينوا الشريعة ومفسروها للناس. فتأمل كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة سواء، ونسي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مبلغ عن الله تعالى، على أن بعض العلماء صرحوا بأن الله - تعالى - أذن له أن يشرع من قبل نفسه، واستدلوا بمثل حديث (إلا الإذخر) ولا محل هنا لشرح ذلك. الانتقاد الثاني لم يستطع فريد أفندي أن يكابر فيما انتقدناه على ما زعمه من تدوين الشريعة عند اتساع العمران، وكمالها في عهد الشورى، وانحطاطها عندما صارت الحكومة الإسلامية استبدادية. فزعم أن ما قلناه لا يفهم من كلامه. ولعله لا يفهم هو من كلامه وكلام الناس ما يفهم الناس، كما تعلم مما يأتي. الانتقاد الثالث زعم فريد أفندي أنه لما جاء القرن الثالث استحال أمر المتشرعين الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين، وبطل الاجتهاد لعدم نبوغ العلماء الضليعين إلخ ما عرفه القراء. فرددنا عليه بقولنا: إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر، ولا القرن الرابع، ولا القرن الخامس فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون، أي: الثالث والرابع والخامس. فنقل عنا هذه العبارة بنصها في آخر مقالته الثانية، ورد عليها بقوله: (نقول: هكذا فهم الشيخ رشيد رضا تاريخ الفقه الإسلامي، فهو يرى الفقه في القرون الخمسة الأولى، أيام نبوغ الأئمة المجتهدين، والمشرعين الأولين، والمؤلفين السابقين الذين ملؤوا مكتبات الدنيا فقهًا وتشريعًا، لم يبلغوا درجة الفقهاء في هذه القرون التي قد يمر القرن، ولا يظهر فيه مؤلف ... إلخ) . إن هذا لهو جوابه بحروفه ونقطه، فهل يفهم هذا الرجل اللغة العربية؟ كيف يفهمها وهو ينقل عني إنكاري عليه، زعمه أن الفقه قد انحط في القرن الثالث، وتعليمي إياه أنه ما اتسع نطاقه إلا فيه، وفي القرنين الرابع والخامس. ويقول بعد ذلك من غير فصل: إنني أقول: إن علماء القرون الخمسة لم يبلغوا درجة الفقهاء في هذا العصر! ! إن كان يفهم اللغة العربية فلا شك أنه ما أوقعه في هذه الهوة إلا التهيج العصبي الذي غلب عليه. ولكن ما بال أصحاب جريدة اللواء، لم يحذفوا له هذه العبارة الفاضحة؟ لعلهم لم يفهموها، وإلا فهم غير ناصحين له.
الانتقاد الرابع انتقدنا عليه أنه وعد ببيان بضع مسائل في ذلك الدرس ولم يبينها. فأجاب بما حاصله؛ أنه يريد بالدرس جنس الدرس، لا هذا الدرس الأول. وله في هذا الجواب وجه، وكان خطر ذلك ببالي عند الانتقاد. لكن العبارة والقرينة وما اعتاده من الوعود وعدم الوفاء، كل ذلك رجح عندي أنه يعني بالدرس ذلك الدرس الأول والخطب سهل، وقد كثرت الدروس بعد الأول. فهل بيَّن تلك المسائل، وَوَفَّى بتلك الوعود؟ ؟ الانتقاد الخامس انتقدت عليه تعريفه العدل: بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام؛ لأن هذه الأحكام منها العادل ومنها الجائر، فنقل عني ذلك، وقال في الجواب عنه: (وإني بريء مما نسبه إليَّ الشيخ رشيد، فقد قلت بالحرف الواحد ... ) . ونقل عبارته في تحكيم الحكومة للعقل عند الحاجة إليه، ونتيجتها قوله: فحكَّمت الحكومة (العقل) ، وما أدّاها إليه هذا العقل من الأحكام سمته (عدلاً) . فالعدل إذن مظهر من مظاهر العقل. اهـ. ومنه يعلم القارئ أن فريد أفندي لم يفهم ما كتبت، ولا ما كتب هو، فإنه لا معنى لعبارته إلا ما قلت. وبيانه أن قوله: (ما أداها إليه العقل) مبتدأ، وقوله: (من الأحكام) بيان لـ (ما) ، وقوله (سمته عدلاً) خبر المبتدأ، فصار المعنى والأحكام التي أداها إليها العقل هي التي سمتها عدلا. فثبت أنه جعل الأحكام التي استنبطها العقل عين العدل. فإذا كان لا يعرف النحو، فليراجع كنز العلوم واللغة لعله يجد هذا الحل صحيحًا. الانتقاد السادس وما يتبعه انتقدت عليه ما تقوله على علماء المسلمين من أنهم يقولون: إن أصول الشرائع كلها من الله، وأنكرت عليه ما قاله في الجواب من تفسير الوحي إلى آخر ما عرفه القراء، فأجاب عن ذلك بكلام يتلخص في أجوبة: (أولها) أَنَّ الخاص والعام يعلمون أنه أَسَّسَ هذه المدرسة؛ لتمرين حملة الدين على الدفاع عن حوزة الإسلام. (وثانيها) أَنَّ غرضه تأييد الدين. (وثالثها) اَنَّه وقف جزء كبيرًا من أوقاته على المدرسة. (ورابعها) أَنَّ الشيخ رشيدًا آلمه وجود هذه المدرسة، حتى أخرجه الألم عن حده. (وخامسها) أَنَّ الشيخ رشيدًا يوهم الناس أنه عالم بفلسفة التشريع، وأنه مطلع على أقوال الأوربيين كافة. (وسادسها) أَنَّ الشيخ رشيدًا لا يعرف من لسان الأوربيين كلمة. (وسابعها) أنه يعني بقوله: إن علماءنا يعتقدون أن أصول الشرائع كلها من الله أنهم يقرون بأن الإنسان لم يوهب من العقل في مبدأ وجوده ما يكفي لإقامة حياته، فكان الوحي الإلهي مرشده في كل أموره في بناء شريعته، وفي إقامة صنائعه، وفي هدايته إلى وجوه معيشته، حتى تلقينه لغته. (وثامنها) أَنَّ كلامه (في أصول الشرائع الأولى في عهد طفولية الإنسان، لا في عهد شبوبيته أيام الرسل والأنبياء) . (وتاسعها) أَنَّه لو كان الشيخ رشيد يستطيع أن يطلع على تحقيقات العلماء في شأن الإنسان في هذين العهدين، لحولته على كتب فلان وفلان، وختم الأجوبة بشيء من الطعن والتضليل للشيخ رشيد. وأقول: لا شيء من هذه الأجوبة في الموضوع إلا السابع والثامن. فأما السابع فهو دعوى جديدة على علماء الإسلام، ليست من عقائده في شيء، وإن وجد شيء من فروعها في مباحث بعضهم. فهم لا يعدون كون واضع اللغة هو الله على القول به إنه من عقائد الدين، حتى يحتاج إلى أسلحة فريد أفندي التي يدعي أنها يسلح بها حملة الدين، فإذا ثبت أن هذا القول خطأ، فهو لا يعد شبهة على الدين. فكيف ندافع عن الدين بتكثير الشبهات عليه، ومحاولة الجواب عنها بما هو شر منها. وأما الثامن فهو على كونه كما يقول علماء المناظرة من قبيل: (المراد لا يدفع الإيراد) . لا يمكن حمل ما نسبه إلى اعتقاد علماء الإسلام عليه؛ لأنهم لم يقولوا بأن لحياة البشر دور طفولية، ودور شبوبية ظهر فيه الرسل، حتى يحمل كلامهم عليه. بل يقولون: إن أول البشر نبي مرسل. ومن بحث أمثال هذه المباحث، كالأستاذ الإمام فقوله فيها لا شبهة عليه، ولا يحتاج هي إلى تأويلات فريد أفندي وجدي، التي تحتاج إلى تأويل. الانتقاد السابع انتقدنا عليه إنكاره رسالة آدم عليه السلام، وكون الله - تعالى- أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين. فأجاب عن ذلك بكلم يؤخذ منه أجوبة: (أحدها) أنه بخدمته للإسلام يعيد له سلطانه الأول. (ثانيها) أن أحق الناس بالانتفاع بخدمته للدين الناشئة الجديدة العاملة في الإدارة والسياسة والقضاء. (ثالثها) أن الشيخ رشيدًا لو كان قرأ كتابًا واحدًا في علم الفزيولوجيا لهكسلي أو لداروين ... إلخ، وما فيها من الشبهات على نبوة آدم، علم أن المسألة تحتاج إلى نظر، وإلا لنبذ أقوال أهل الشرع بنبوة آدم، أو لفظ قول الفزيولوجيين، وضرب بتحقيقاتهم في الحفريات والعاديات عرض الحائط، وسهل للطائفة المتعلمة ترك الدين. (رابعها) أن قادة الدين يشكون من مروق المتعلمين، وما مروقهم إلا لعدم وجود أحد من قادته يشاركهم في معلوماتهم. (خامسها) أنَّ إيراده تلك المسألة بعبارة لا تُشعر بالجزم هو كالإعلام لهؤلاء المارقين أو الشاكِّين في الدين، بأنه عالم بأقوال علماء الفزيولوجيا، وعامل على حلها بما يوافق القرآن والعلم. وختم هذه الأجوبة بقوله: (فما يسميه الشيخ رشيد سقطة كبيرة هو في الحقيقة نهضة كبيرة) . أقول: الجواب الحقيقي من هذه الجمل التي لخصنا بها كلامه هو أنه لم يجد سلاحًا يدافع به عن اعتقاد المسلمين بنبوة آدم إلا التشكيك فيها. فهل سمع أحد من البشر بأن التشكيك في الدين دفاع عنه؟ أليس الشك في الدين، كالإنكار لقضاياه كلاهما كفر صريح؟ أبشرك يا فريد أفندي بأنني مطلع على مذهب داروين، وعالم بأنه لا يمس الإسلام، وإذا أردت أن تفهم ما ورد في آدم مطابقًا للعلم، فراجع المنار مع بعض من يفهمه من أهل العلم؛ ليفهموك ما يحفظ به الدين، ثم ألقه في مدرستك إن استطعت. الانتقاد الثامن انتقدنا عليه جعله تفضيل الشريعة الإسلامية على غيرها؛ مبنيًّا على قاعدة ارتقاء الشرائع بارتقاء أهلها، وزعمه أنها - أي: الشريعة الإسلامية - ما جاءت راقية إلا لارتقاء أهلها، وقلنا: إن هذه القاعدة إنما تصح في الشرائع؛ أي: القوانين الوضعية التي يكون ارتقاؤها تابعًا لارتقاء واضعيها. والشريعة الإسلامية وضع إلهي أنزلت على قوم غير مرتقين، فكان ارتقاؤهم بها، ولم يكن ارتقاؤها بهم. فأجاب فريد أفندي عن هذا الانتقاد بكلم يتلخص منه أجوبة: (أحدها) أن ما أورده هو من مقررات فلسفة التشريع، ذلك العلم الذي أفنى المشرعون قواهم وأعمارهم في وضعه. (ثانيها) قوله: (فبأي سلطان يستطيع الشيخ رشيد الذي لم يقرأ في العلم سطرًا واحدًا، أن يرد هذه المقررات البديهية؟ وهل لو قال يسمع له أحد) ؟ (كذا) . (ثالثها) قوله: (فأقول له: إن كلامي كله موجه إلى أن الشريعة الإسلامية وحي من الله، لا أنها شريعة وضعية تابعة لأهواء الناس، حتى يتوهم الشيخ رشيد أنه يغالطني فيما قلته) . أقول: إن هذا الكلام يشبه أضغاث الأحلام، كما هي العادة في أكثر كلامه، وهو مؤذن بأنه لم يفهم ما كتب، ولا ما انتقد به عليه. نحن نقول: إن ارتقاء الشرائع لا يكون نتيجة لارتقاء أهلها إلا في القوانين الوضعية. فيقول: إنك خالفت مقررات فلسفة التشريع، وإنك لم تقرأ منها سطرًا وما هذا بمخالفة لها، وقد قرأت فيها كتبًا، ونقول: إن الشريعة الإسلامية ليست تلك القوانين؛ لأنها إلهية. فيقول: إن كلامي موجه إلى أنها إلهية! ! ! ويقول: بأي سلطان يستطيع الشيخ رشيد أن يرد مقررات أهل الفلسفة؟ وأجيبه بأنني أردها بسلطان الإسلام إذا هي خالفته، ولو صح قوله: إنني لم أقرأ منها سطرًا، فحسبي أنني قرأت حكمة التشريع الإسلامي التي لم يقرأ هو منها سطرًا؛ ولذلك يجهل البديهيات فيها؛ ككون الشريعة هي التي رقت الأمة الإسلامية دون العكس. الانتقاد التاسع قال فريد أفندي في درسه، بعد أن قرر أن ارتقاء الشريعة تابع لما عليه أهلها من الارتقاء في الأخلاق: من هنا يرى الرائي أن كل انقلاب حدث في أخلاق أمة، قد أدى بطبعه إلى انقلاب في شريعتها، ويدرك تبعًا لهذا فساد الأحكام وبعدها أن العدالة في بعض الأمم المتدينة التي تقرر مبدأ التمايز في أفراد الجمعية، فَتَهَبُ لبعضهم حقوقًا، تسلبها عن الآخرين باعتبارات دينية. فسألناه عما يعني ببعض الأمم المتدينة؛ اليهود وليس لهم حكومة. أم النصارى وقد بالغ في وصف ارتقاء شرائعهم وفتن بها، حتى ليظن أنهم إذا قالوا قولاً يخالف الإسلام لا يمكن رده، وإنما يجيب عنه بتأويل ما جاء في الإسلام أو بإنكاره أو التشكيك فيه. أم يعني بعض الوثنيين؟ سألناه؛ لأن الشبهة قائمة على أنه يريد بذلك المسلمين، ولا غرو فقد جعل منهم الشارعين. فأجاب عن هذا السؤال بما نصه: (يكفيني أن أتعجب من هذه الردود، وأترفع عن الرد عليها؛ ذلك أولى لي وأولى بالقارئ) (كذا) . الانتقاد العاشر سألته بناء على ما تقدم: ماذا يقول في جعل الخلافة في قريش؟ فأجاب عن هذا بعد القول بأنني أثرت بهذا السؤال وما بعده مما يأتي شبها على الإسلام، ما كان يتخيل صدورها من مسلم، بأجوبة: (أحدها) أَنَّ الخلافة بيد المؤمنين يولون عليهم بالإجماع من شاؤوا، ولو كان عبدًا حبشيًّا. (ثانيها) لو كانت الخلافة مقصورة على القرشيين؛ لأتى في ذلك نص قرآني أو حديث متواتر، ولما اختلف المهاجرون والأنصار عليها. (ثالثها) أَنَّ خليفتنا الحالي تركي الأصل، طاعته مفروضة علينا، ولا يحاول نقض هذا الأصل إلا من يريد أن تتفكك جامعة المسلمين، وتنقصم عروتهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. أما الأول: ففيه جهالات: منها اشتراطه الإجماع، ومنها قوله من شاؤوا مطلقًا مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الأمر في قريش، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وجرى عليه المسلمون في خير القرون، حتى بعد أن صار الحكم استبداديًّا إلى انقراض الدولة العباسية، ونقل بعض أئمة الأصول والحديث الإجماع عليه من أهل السنة، ولم يعتدوا بخلاف الخوارج وبعض المعتزلة، قال الإمام أبو بكر الباقلاني في قول ضرار بن عمرو من الخوارج: بأن غير قريش أولى بها. لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت الحديث (الأئمة من قريش) ، وعمل المسلمون به قرنًا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك، قبل أن يقع الاختلاف. وقال القاضي عياض: اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهب العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف، وكذا من بعدهم في جميع الأمصار. وأما الثاني: ففيه من الجهل بأحكام الأصول عدم الاعتداد بالحديث النبوي، إذا لم يكن متواترًا وإن كان في غير العقائد. وكأنه يقرأ في المنار أن هذا الحديث لا يؤخذ به في هذه المسألة، فيظن أن جميع المسائل سواء، على أن المحققين اختلفوا في العمل بأحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد، ولم يتفقوا على عدمه. وأما في غير العقائد فلا خلاف، ثم ماذا يقول في الإجماع؟ وفيه من الجهل بتاريخ الإسلام الاحتجاج بخلاف المهاجرين والأنصار؛ إذ لم يعلم أن هذا الخلاف قد ارتفع باحتجاج أبي بكر - رضي الله عنه - بكون الأئمة في قريش، وأن الأنصار أذعنوا لذلك. وأما الثالث: ففيه من الجهل أن خلافة خليفتنا الحالي، ليست منطبقة على قوله آنفًا: إن المسلمين هم الذين يولون الخليفة بالإجماع، فكأن قاعدته تقضي ببطلان خلافته؛ لأنها بالوراثة لا بانتخاب المسلمين بالإجماع. أراد فريد أفندي أن يعرض بأن سؤالنا المبني على الحديث الصحيح، وإجماع أهل السنة، ينفي خلافة السلطان؛ ليهيج علينا العوام، فكأن كلامه هو الذي نفى خلافة هذا السلطان، وأما نحن فنقول: إن خلافة هذا السلطان ووجوب طاعته بالمعروف، لا تنفي ذلك الحكم المقرر في كتب العقائد، وكتب الحديث والفقه المتداولة في الآستانة، وكل بلاد المسلمين من كون الأصل في الخلافة أن تكون لقريش، كما هو مشروح في محله. فليسأل عنه فريد أفندي بعض مجاوري الأزهر؛ لأن ذلك مبني على وجود من يصلح منهم للخلافة، وصرّحوا بأن المتغلب تجب طاعته. *** الانتقاد الحادي عشر وسألته عن شهادة غير المسلم على المسلم فأجاب: (بأنها لا تجوز؛ لأن التعصب الديني جعل أتباع أولئك الملل يكذبون على الله في كتبهم، ويزعمون أن كل ضرر يلحقونه بغيرهم حتى القتل، لا يعاقبون عليه عند الله. إلى أن قال بعد أن ذكر أن دوائر المعارف الأوربية صرحت بذلك: فإن كانت الشريعة الإسلامية قررت قبول شهادتهم على المسلم مع وجود هذه النصوص الصريحة في شروح كتبهم، لكانت (كذا) أتت بغير العدل، والله يتنزه عن ذلك) . أقول: إن الشريعة الإسلامية شريعة عامة دائمة. فهل يقول فريد أفندي: إن كل من كان غير مسلم يستحل شهادة الزور، وإن هذا كان عامًّا في زمن نزول الشريعة، وعلم الله أنه لا يزول، وأن دوائر المعارف تثبت هذا؟ إن قال هذا: فلا أحاجه ببداهة بطلانه. ولكنني أورد عليه مثل قوله - تعالى - في اليهود، وهم الذين كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة: ٦٦) ، وقوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: ١٥٩) ، وما في معناهما من الآيات. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: ١٠٦) ؛ فهل جاءت في هذه الآية بغير العدل، أم أنت يا فريد لا تفهم معنى العدل، ولا تعرف أحكام الشريعة) ، إذا أردت أن تفهم فلسفة الشريعة في أمثال هذه المسألة وما قبلها، فالتمس من يفهمك ما كتبناه عنها في المنار، أو اسأل عنها من نقرأ لهم تفسير القرآن الحكيم وصحيح الأحاديث. هذا ما أجاب عنه من انتقاداتنا على أحد دروسه، ولم يتفق له الصواب في شيء، ولم يقارب إلا في ذلك الاحتمال في الانتقاد الرابع كما تقدم. على أنه لم يذكر جميع الانتقادات التي وجهناها إليه، فقد سألناه، هل الشريعة التي قال: إنها مبنية على قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : ١٠) خاصة بالمؤمنين أم عامة يحكم بها غيرهم؟ وإذا قال بالثاني. فهل أخوة بعضهم لبعض تقتضي مساواتهم لغيرهم أم لا؟ فإن قال بالسلب. فكيف يتم قوله، ولم يذكر في مقالته هذا؟ *** جواب سؤال قلت: إن فريد أفندي لم يتلق شيئًا من علوم الدين فسألني عمن تلقيت عنهم الدين وعن الشهادات التي تأذن لي بالإفادة والفتوى. فأجيبه بأن يرسل إلى صديقه الذي كلمني في ترك الرد عليه لأطلعه على الشهادات التي عندي والإجازات بالتدريس أو ليحضر بنفسه لأريه ذلك. ولي هنا أن أسأله: أين تعلم هو فلسفة التشريع وسائر العلوم الأوربية التي يتبجح بها ويفاخر؟ ومن أين أخذ الشهادات بالعلوم العالية ومن أذنه بتدريسها ونحن نعلم أنه عرض نفسه على امتحان الشهادة الثانوية فعجز وسقط، فهل يليق به مع هذا أن يدعي أن يدرس جميع علوم أوربا العالية كما يدرس علوم الشرع في جميع المذاهب الاعتقادية والعملية؟ هل يليق به أن يدعي أنه قائد الأمة ومعلم علماء الدين وعلماء الدنيا؟ هل يليق به أن يدعي أن إعادة مجد الإسلام وقف عليه ومحصورة فيه؟ فأنصح له أن يترك هذه الدعاوي العريضة ويوطن نفسه على الاستفادة أكثر من الإفادة وإلا فإننا نقرأ جميع مؤلفاته الملفقة ونبين خطأها الكثير ومآخذ صوابها القليل من كتابة بعض من يتبجح عليهم ويدعوهم إلى الاستفادة منه. ((يتبع بمقال تالٍ))