لما عقدت الهدنة بين دول الأحلاف والدولة الألمانية منَّى نفسه كل من له أهل في سورية، وكل من يهتم بشئونها الاقتصادية والسياسية أن يسافر إليها في أول فرصة، وصاروا ينتظرون الإذن بالسفر إليها، وعودة البواخر التي تنقل الركاب وعروض التجارة إلى سابق عهدها. وبعد طول الانتظار وقع الإذن مقيدًا بشروط عسيرة، ومقيدًا بقيود ثقيلة زمامها بأيدي السلطة العسكرية المتصرفة في الشؤون السياسية والاقتصادية في العالم تصرفًا مطلقًا، والمراقبة على مواصلات البر والبحر، فكان مثلي لا يطمع أن يكون من السابقين إلى رؤية وطنه، والقيام بشيء من خدمته، أو مواساة أهله فيه وعشيرته، بل تعذر عليّ إيصال ثلاثة (طرود) من الأقمشة إلى فقراء أهل بلدتي (القلمون) الذين ذهب الجوع والعري في أيام الحرب بثلثيهم، فإنني بعد أن ابتعت القماش ظللت عدة أشهر أسعى إلى إرساله بإذن من السلطة الفرنسية التي أعطيت الإشراف على المواصلات والنقل في البحر مع بقاء السلطة العليا في البر والبحر للسلطة الإنكليزية بحق القيادة العليا للجيوش المحاربة في سورية الجنوبية (فلسطين) والشمالية، ثم بواسطة لجنة المجاعة التي أرسلت بمساعدة السلطة الإنكليزية كثيرًا من المواد الغذائية والأقمشة , وبعد إعطائي الطرود للجمعية بأشهر تمكنت هي من إرسالها إلى وكيلها في بيروت فبقيت فيها أشهرًا، ثم أرسل بعضها إلى طرابلس ففقد بعضه، ولم يصل باقيها بعد إلا بعد وصولي إليها في خريف العام الماضي، فكان ما أردت أن يكسى به الفقراء في شتاء سنة ١٩١٩ كساءً لهم في شتاء السنة التي بعدها. احتلت جيوش الأحلاف جميع البلاد السورية، وطفقوا يمهدون السبل لتوطيد نفوذهم وسلطانهم فيها على قواعد معاهدة سنة ١٩١٦: الإنكليز في الجنوب، والفرنسيس في الغرب الشمالي، والعرب الحجازيون في الشرق منه، ولكن مراقبة المواصلات بين سورية وبين مصر وسائر الأقطار كانت مشتركةً بين الفرنسيس محتلي المنطقة الغربية، والإنكليز المحتلين للمنطقة الجنوبية وحدهم، والمشاركين للعرب والفرنسيس في احتلال المنطقتين الأخريين، ولم يكن للعرب من هذه المراقبة شيء. فلم يكن لي أن أزور البلاد بنفوذهم بل كتب إلي علي رضا باشا حاكم المنطقة الشرقية العسكري كتابًا ذكر فيه أنهم ينتظرون قدومي كانتظار الظمآن للماء، وأنه طلبني وهو يتعجب من عدم استجابتي، فكتبت إليه أنه لم يبلغني ما ذكر من طلبهم إياي، وأن أمر سفري ليس بيدي.. . ثم أخبرني بعد لقائه في الشام أنه طلبني خمس مرات. إنني لم أطمع في الإذن لي بزيارة سورية إلا بعد استفتاء اللجنة الأميركانية أهل سورية في شكل الحكومة التي يرضونها لبلادهم، والدولة التي يختارونها لمساعدتهم. وعلة هذا ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، فلما سنحت لي الفرصة بعد هذا الاستفتاء وإظهار الشعب رأيه، سعيت إلى أخذ الجواز بالسفر إلى الشام من طريق سينا وفلسطين، فتيسر لي مع المساعدات أخذ هذا الجواز في مدة ثمانية عشر يومًا بعد أخذ عهد كتابي علي بأمور سلبية ترجع إلى أمر واحد، وهو عدم القيام بتهييج سياسي. *** السفر من القاهرة سافرت من القاهرة مساء الجمعة السابع عشر من شهر ذي الحجة ختام سنة ١٣٣٧ (الموافق ١٢ سبتمبر أيلول سنة ١٩١٩) ولما جئت محطة السكة الحديدية وجدت فيها صديقي رفيق بك العظم جاء لتوديعي فيمن جاء من الأصدقاء، فأخبرني أنه قد جاءت برقية من دمشق تفيد أن الأمير فيصلاً (ملك سورية اليوم) قد سافر من الشام عن طريق حيفا ليسافر منها إلى أوربة فساءني ذلك جد الاستياء؛ لأن لقاء الأمير في ذلك الوقت كان هو المرجح الأول لسفري إلى دمشق مباشرةً دون بيروت وطرابلس، ولعله لو أخبرني بذلك قبل شروعي في السفر لأرجأته، ولكن إبطال العمل بعد الشروع فيه مفسد للعزيمة مضعف للإرادة، وقد قال تعالى لرسوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: ١٥٩) وقال عز وجل: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: ٣٣) . ركبت القطار السريع، فسار بسم الله في الساعة ٦ والدقيقة ١٥، فوصل إلى محطة القنطرة الساعة ١٠ والدقيقة ١٥ , أي بعد أربع ساعات تقريبًا، وهنالك نقل الحمالون متاعنا إلى حيث تنظر الجوازات، وبعد التوقيع عليها ينقل المسافرون ومتاعهم في سيارات نقل تجتاز الجسر الذي وضع هنالك على ترعة السويس إلى مواقف قطار سيناء وفلسطين في الضفة الشرقية، وقد علمت أن خط مصر اتصل بعد ذلك بخط فلسطين فاستراح المسافرون من ذلك النقل المزعج، وصلت إلى محطة فلسطين فإذا بديع أفندي الحوراني ضابط قلم المخابرات ينتظرني فيها لأجل مساعدتي، فتولى هو أخذ تذكرة السفر لي بالدرجة الأولى، ووضعي في مركبة ليس فيها زحام، وهو نجل إبراهيم الحوراني العالم الأديب البيروتي الشهير، فما رأيته فيه من المروءة والأدب يجري فيه على عرق راسخ ووراثة ثقفت بالتربية والتعليم، وعلمت منه أنه كان يتوقع حضوري يوم الخميس في القطار الذي يقوم من القاهرة الساعة ١١ قبل الظهر. لم يكن السفر في الدرجة الأولى من قطارات هذه السكة بالأمر اليسير، وكنت علمت ذلك مما كتبه سليم أفندي سركيس الكاتب الشهير في جريدة الأهرام عن رحلته قبلي إلى الشام، فإنه ذكر أنه أخذ تذكرةً للركوب في الدرجة الأولى، فأركبوه في الدرجة الثالثة؛ لحاجة الضباط الإنكليز إلى الدرجة الأولى والثانية!! لذلك سعيت إلى توصية من السلطة العسكرية الإنكليزية بأن أركب في الدرجة الأولى فعلاً، فنلتها، ونفذها الحوراني - أحسن الله مكافأته - وثمن هذه التذكرة ٢٨٢ قرشًا مصريًّا صحيحًا يركب بها المسافر إلى نهاية الخط، وهو مدينة حيفا. سافر بنا القطار الساعة ١١ والدقيقة ٣٥ وكان سيره بطيئًا ووقوفه كثيرًا، وعلمنا في الصباح أنه تأخر ساعتين عن موعده، وفي ضحوة النهار (السبت) وقف تجاه مدينة غزة الشهيرة التي أحدثت فيها الحرب خرابًا عظيمًا، ووصل إلى (اللد) الساعة ٨ والدقيقة ١٥، وسار منها الساعة ٩ وبضع دقائق، فوصل إلى حيفا الساعة ١٢ والدقيقة ١٥ نهارًا، فإذا كان القطار تأخر بنا ساعتين - كما قيل - تكون مسافة سينا وفلسطين إلى حيفا تسع ساعات وثلث ساعة، وهذا الخط قد أنشأته السلطة العسكرية في أثناء الحرب بسرعة عجيبة اقتضتها الضرورة، فلم يكن متقَنًا، وقد علمت أنه يحتاج إلى إصلاح يكون به الخط أقوم وأقصر. قطعنا نصف نهار يطوي بنا القطار أغوار سورية الجنوبية (فلسطين) وأنجادها، فلم نر شيئًا من أرضها يدل على العناية الفنية في إنشاء البساتين والكروم إلا ما في مزارع اليهود الصهيونيين، ورأينا ما مررنا به من الزيتون خاليًا من الحب؛ لأن موسمه في السنة الماضية كان عظيمًا. السفر من حيفا بسكة الحديد الحجازية انتقلنا عقب وصولنا إلى حيفا من قطار سينا وفلسطين إلى قطار سكة الحديد الحجازية، ومركباته أحسن من مركبات ذاك، وأخذ بعض الحمالين لي تذكرة السفر منها إلى (معان) في الدرجة الأولى بمائة قرش وستة قروش مصرية صحيحة، وتحرك القطار الساعة ١٢ والدقيقة ٣٥، فوصلنا إلى طبرية (س٣ ق ١٥) وبعد تجاوزها صار سيره في أودية يهبطها، وجبال يتسلقها، وكان يقف مرارًا لسوء الوقود وخلل الآلات، وليس في مركباته مصابيح، فكنا أول الليل في ظلام، ثم طلع القمر فأنسنا به، ووصل القطار إلى معان (س١٢ ق٣٠) فكانت المسافة ١٢ ساعة، وقد قيل لنا أنه تأخر عن موعده ساعتين كسابقه. وفي محطة معان مطعم كبير للمسافرين، والقطار مكث فيها ريثما يتعشى من شاء من المسافرين، ويأخذ القطار (طعامه وشرابه) من الفحم والماء، وقد مكثنا نصف ساعة أو أكثر تعشينا فيها، ثم استأنفنا السير إلى دمشق، فبلغناها (س٢ وق٢٠) أي قبل الفجر. دمشق وفنادقها بعد وصولنا إلى محطة دمشق ببضع دقائق كنا في فندق (فيكتوريا) وهو أقرب الفنادق إلى المحطة وأشهرها وأغلاها أجرةً، فلم أجد فيه غير حجرة في الدور الأول لا يتخللها الهواء ولا النور، أبيْتها فوُعدتُ بتبديلها في النهار، وسألت الخدم عن حمام الفندق فقيل: إنه ليس فيه حمام ولا رشاش ماء (دوش) ولا حنفية ماء لغسل اليدين والرأس!! فغسلت رأسي في طشت الحجرة، وتوضأت وصليت المغرب والعشاء جمع تأخير، ونمت ما بقي من اليل. ولما أصبحت استنجزت الوعد بتغيير الحجرة، فلم أجد حجرةً صحيةً بل قيل لي: إن بعض النازلين فيها سيسافرون فتخلو حجرهم، ولما حضر طعام الغداء والعشاء وجدت الماء على المائدة غير مثلوج فسألت: ألا يوجد في الشام ثلج؟ قيل: بلى إن فيها ثلجًا وجليدًا طبيعيًّا وصناعيًّا، ولكن صاحب الفندق منع استعماله اقتصادًا، فعزمت على الخروج من هذا الفندق بعد رؤية أشهر الفنادق الكبرى واختيار أمثلها، ولكنني لم أستطع الخروج في اليوم الأول؛ لأن بعض من رآني أخبر غيره بأنني جئت الشام ونزلت في (فيكتوريا) فجاء كثير من الوجهاء لزيارتي، وفي اليوم الثاني كان الزائرون أكثر، ولكنني انتهزت فرصة طفت فيها على الفنادق القريبة، فرأيت أمثلها فندق الشرق (أو الخوام) الملاصق لفندق فيكتوريا، فانتقلت إليه، وفضلته بوجود مكان فيه للاستحمام، ووجود الماء في بعض مراحيضه، ووجود باحة خلوية في وسطها بركة ماء ووجود الماء المثلوج فيه، وأي المزايا خير من مزايا الماء والهواء؟ نعم إن فندق فيكتوريا ومثله فندق (دمسكوس بلاس) أدفأ في الشتاء من فندق الخوام، والأول أنظف، ولكن القيود فيه أشد وأثقل. الزيارات وردُّها وأحاديثها زارني من لا أُحصي من رجال الحكومة والعلماء والأدباء والوجهاء، فمنهم من عرفتهم بشخوصهم أو مناصبهم، ومنهم من لم أعرف، وما كان رد الزيارة لكل منهم ممكنًا، وليس عند أهل الشام من التسامح والتساهل في هذا الأمر ما عند أهل مصر وأهل بيروت، فاكتفيت برد الزيارة إلى الحاكم العسكري العام والقاضي والمفتي، وبعض العلماء والوجهاء الذين عرفتهم كمحمد فوزي باشا العظم , وعبد القادر باشا المؤيد، واعتذرت للآخرين في الجرائد مع الشكر لهم، وأما خواص إخواننا وأصدقائنا فقد جمعتنا بهم المآدب والسمّار في مجالس حافلة من دورهم العامرة كدار الأستاذ الشيخ كامل قصاب ودار البيطار ودار المارديني وغيرها، وكان جل حديثنا في تلك المجالس البحث في أهم المسائل الدينية والعلمية والاجتماعية، وقد عودني الناس من أول العهد بدخولي في الحياة العلمية إلى اليوم أن يسألوني عن المشكلات الدينية، ولا سيما المسائل التي يتعارض فيها الدين مع العلوم والفنون وشؤون العمران، وقد كان حظي من هذا في رحلتي هذه على ما أعهد في سائر البلاد، ولكن أكثر مباحث الناس معي في هذه الرحلة كان في المسائل السياسية: ما هو واقع منها وما يتوقع. معاهدة سنة ١٩١٦ اتفق أن أعلن كل من دولتي إنكلترة وفرنسة عقب وصولي إلى الشام أنهما اتفقتا نهائيًّا على تنفيذ معاهدة (سايكس وبيكو) المعروفة بمعاهدة ١٩١٦، وأن إنكلترة ستخرج جنودها من المنطقتين الشرقية والغربية من سورية، وتترك الأولى للجيش العربي الحجازي، والثانية للجيش الفرنسي، وما كان حملها للأمير فيصل على السفر إلى أوربة في هذه المرة إلا تمهيدًا لهذا العمل. وكان أهل سورية عامةً يظنون قبل هذا الإعلان أن الدولتين الحليفتين قد عدلتا عن تنفيذ تلك المعاهدة لما رأوه من التنازع بين رجالهما في النفوذ أيام وجود اللجنة الأمريكية في سورية، وسعي كل منهما في كل منطقة من المناطق الثلاث لكسب أصوات الأهالي في طلب انتدابهم لمساعدة البلاد، أي: لاستعمارها بهذا الاسم الجديد الذي وضع في قاموس السياسة بعد العلم بنفور الناس كافةً من الأسماء الأخرى التي ابتذلت وزال تخادع الناس بها كلفظ (الحماية والاحتلال المؤقت) فلما أعلنت الدولتان اتفاقهما كبر وقعه، وعظم صدعه في قلوب الجماهير الذين خدعوا بذلك التنازع، وظنوا أن إنكلترة تفضل العرب على فرنسة فكان كل من زارني منهم يسألني عن رأيي في هذا الحادث الجديد في السياسة الإنكليزية فكنت أقول: إنكم ترونه جديدًا، وأراه غير جديد، إن السياسة الإنكليزية ثابتة، وما كان لعاقل أن يظن أنها تفضل العرب على فرنسة، وإنما عرض لفرنسة أمل جديد أحدثه إجماع السوريين في بلادهم وفي مهاجرهم كلها على وحدة سورية، وعدم تقسيمها إلى ثلاث مناطق مختلفة الإدارة والسلطة، فحسبت أنه يمكنها جعل هذا وسيلةً لإعطائهم سورية كلها. ((يتبع بمقال تالٍ))