وَعَدْنا في الجزء الماضي أن نبيِّن شيئًا مما خالف القياس فيه جبر أفندي ضومط تساهلاً في القياس وحبًّا في سعته لا جهلاً ولا ضعفًا في اللغة وفنونها، وإننا نقول قبل أن نورد ما لا مَنْدُوحَة لنا عن إيراده: إن مثل هذه المخالفة والخطأ مما نراه في كلام جميع كتاب العصر الذي نطلع عليه ولا أستثني النقادين الذين بذلوا جُلَّ عنايتهم في التحرير والتصحيح، وأنا أُقرُّ بأنني كثيرًا ما أراجع بعض مباحث المنار السابقة فأجد فيها من الغلط ما أعلم أن عِلَّته السهو العارض أو الجهل السابق، لا مجرد تحريف الطبع، وأكثر ما يقع لنا من ذلك استعمال كلمة عامية أو جمع غير قياسي أو تعدية فعل بما لم تُعَدّه به العرب، ونحو ذلك مما يكثر في الجرائد والمطبوعات العصرية ونقرأه كل يوم فيعلق منه بأذهاننا ما يعلق على انتقادنا له فسبق إلى أقلامنا، أعتذر بهذا عن نفسي وعن غيري من العارفين باللغة، وأَنَّي لمثلي أن يسلم من مثل هذه الأغلاط الفاشية، وهو ممن يكتب المقال فيلقيه إلى عمال المطبعة ورقة ورقة من غير أن يعيد إليه النظر أو يقرأ منه سطرًا ابتغاء التصحيح والتحرير، وأما تصحيح الطبع فإنه يشغل صاحبه عن كل ما عداه حتى لا يكاد المصحح يفهم ما يقرأ، كأن قوة ذهنه كلها توجهت إلى النظر في صور الكلم ومحاولة تطبيقها على الأصل الذي طبع المثال الذي يراد تصحيحه عنه. أقول: إنني لم أسلَم من الغلط ولم أر أحدًا من كُتَّاب العصر سلم منه، ولكن أصحاب الملكات القوية والاطلاع الواسع في اللغة يقل غلطهم جدًّا، حتى إن العالم النقاد لَيقرأ لأحدهم عدة فصول لا يجد فيها غلطة، وهؤلاء قليلون في كُتابنا اليوم وأكثر منهم من لا تقرأ لأحدهم بضعة أسطر إلا ويعثر ذهنك بغلطة، ويرتبك فهمك عند جملة، ولا أرى من الصواب إضاعة الوقت في الانتقاد على هؤلاء ولكن الانتقاد على هفوات الكُتاب البارعين والعلماء الراسخين، وعلى المتوسطين بينهم وبين أولئك المتطفلين، هو الذي يُحْيِي اللغة ويرقى بها إلى أعلى علّيين، وإعلاء شأن اللغة واجب في نفسه لا ينسخه وجوب انتقاد المصنفات من جهة موضوعها ومسائلها، فإذا قام بهذا قوم وبهذا آخرون رُجي لنا أن نرتقي في العلوم وفي اللغة التي تؤدى بها العلوم، ولكن جبر أفندي لا يحفل بانتقاد اللغة بل يكتفي بأن يكون ما يكتب مما فهمه القارئ، وإن مُزج بالألفاظ العامية التي ليست من اللغة وبالأغلاط النحوية وأَبَقَ من أساليب العرب، وهذا هو ما ننتقده عليه، ونقول: إنه يجب على كل كاتب أن يتبع أئمة اللغة وفنونها فيما قرروه فلا يقيس على السماعي، ولا يخرج في القياس عن حدوده، ولا يدخل الكلمات العامية المحضة في كتابه ولا بأس بغير المحضة وهو ما كان عربي الأصل، وهو أكثر كلامهم على تحريف فيه يسهل تصحيحه، ذلك أن التساهل وتَرْك الأمر فوضى للكاتبين بدعوى العناية بالمعاني مما يفسد اللغة بما يجرئ الجهلاء والضعفاء على التأليف مع كثرة غلطهم ودخيلهم ويثني همة غيرهم عن التحصيل والإتقان. يرى جبر أفندي ضومط أن هذا التساهل مما نحتاج إليه ونحن نمنع ذلك على إطلاقه كما علم من الجزء الماضي، وإنما نريد إيراد بعض ما وقع له من الخطأ وإن كان لا يكاد يسلم منه أحد منا لنبين أنه لا حاجة إليه، فيقال: ينبغي أن نجيزه للحاجة، وأن في الصواب الذي لا نزاع فيه مندوحة عنه، وليعلم الذين ينتقدون بعض عباراته في كتبه أن جُلَّ ما يرونه فيها خطأ يراه هو صوابًا، فهو لم يأته عن جهل (حاشاه من ذلك) ، فلا أريد بما أورده من الأمثلة تحرير مسائلها والجزم بأنه لا يمكن تأويل شيء منها، إنْ أريد إلا أنه خالف القياس المعروف لمحض التساهل من غير حاجة إليه. أول ما خطر في بالي مما انتقد في كتبه قاعدته التي بنى عليها كتاب فلسفة البلاغة وهي على ما أذكر (الاقتصاد على فهم السامع) ، فالاقتصاد لا يتعدى بعلى والمعنى المراد من القاعدة لا يفهم منها بذاتها بل بما شرحها به، ولو قال: التوفير بدل الاقتصاد لكانت العبارة صحيحة؛ إذ يقال وفر عليه وإن لم تَخْلُ من توسع في إفادة المعنى المراد وهو مما يعهد في المواضعات، بل لو قال: (القصد في كد ذهن السامع) لَتم له ما أراد، ولم يُعدَّ الفعل بما لا يُتعدَّى إليه في لغة العرب فكل عالم باللغة يفهم هذه العبارة لأول وهلة من غير كد للذهن ولكن عبارته لا تكاد تفهم مع كد الذهن إلا بعد الوقوف على ما فسرها به، فما لا خطأ فيه هو الذي يتفق مع القاعدة ومثله من يعلم أن اقتصد لا يتعدى بعلى، ولكنه التساهل الذي اتخذه مذهبًا. ومن مخالفة القياس في مقالته (انتقاد فتاة مصر) قوله: (كما في ص من ٥٤٥ المقتطف) : والتقحّم فيها على الخراب. لا يقال في اللغة: تقحّم عليه كما يقال هجم عليه، وإنما قالوا: تقحّم الفرس بصاحبه:إذا نَدَّ به، فلم يضبط رأسه وإذا ألقاه راكبه، فكان ينبغي أن يقول: وتقحَّما أو تقحَّمها بنا في الخراب. ومنها قوله في ابتداء كلام: (أولاً الانتقاد النحوي) ثم قوله: (ثانيًا الانتقاد البياني) إلخ وهو يكثر من مثل هذه في كتبه تساهلاً في مجاراة كُتاب الجرائد وأمثالهم، وهذا غير معهود في الكلام العربي الصحيح أو الفصيح، ولا يمكن إعرابه إلا بتكلف لا حاجة إليه لمكان الاستغناء عنه بقولنا: (الأول كذا. الثاني كذا) وقد استعمله في أثناء الكلام كما يستعملونه، ومنه قوله: (في ص ٥٤٥) وفيه مثال آخر: وإنها أجدر كتاب لحدّ الآن يَحْسُن بنا أن نضعه في أيدي شباننا وطلبة مدارسنا يقرءونه أولاً لما فيها من حسن الأسلوب ودقة التعبير إلخ، وإنني أجزم بأنه لولا رأيه الذي ذكرت لما سقط من قلمه مثل هذه الجملة التي لا تكاد تنطبق على قاعدته فيما أرى، ولا أظن أن العالم بالعربية في الهند وبخارى وروسيا وتركيا يفهمها كما يفهمها من أَلِفَ هذا الأسلوب، واعتاد قراءة مثله من سوري ومصري. ومنها ابتداؤه الكلام بالعطف كقوله: (وأكثر كتابنا) وإدخال (قد) على الفعل المنفي كقوله: (قد لا يعد، قد لا يعقل، قد لا تخلو) وكان يمكنه أن يستغني عن الواو ويستبدل (ربما) بقد؛ لإفادة التقليل،ولكنه يكتفي باستعمال الناس مجوزًا،وقد استعمل المَناطقة قد مع النفي في القضايا الشرطيَّة السالبة،وهو يحتج بمن دونهم في الاستعمال كابن الفارض وابن عابدين. ومن المفردات قوله في ص ٥٤٧: (صفِّيف الأحرف) وكلمة صفِّيف لم يتفق عليها عمال المطابع فنقول: إنه اتبع العرف وإن كان عاميًّا، ولا هي من الكلمات التي لا يوجد في العربية ما يغني عنها؛ إذ يمكن أن يقال مُرتِّب الحروف أو جامع الحروف، وعامة المصريين يقولون جمِّيع، ومنهم من يكتبها جمَّاع بصيغة المبالغة. ومنها قوله: في ص ٥٥٢: (مقاسة) والصواب: مقيسة، ولعل هذا من السهو أو غلط الطبع ومثله قوله ص ٥٥٤: يصوغ بالصاد. وأما الألفاظ التي صححها وتَمحَّل لجَعْلها قياسية فلا حاجة إلى استعمال تكاتفوا منها مع كثرة ما ورد في معناها، وقوله في تعليل قياسها على تظاهروا: إن وضع الكتف للكتف في التعاون أقرب للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر - فيه نظر؛ إذ لا نسلم أن معنى تظاهروا في الأصل وَضَعَ كلٌّ ظهره إلى ظهر الآخر والأظهر أن معناه كان كل منهم ظهيرًا للآخر أي معينًا،والظهير: المعين والقوي الظهر، ولعل هذا هو الأصل، ولمَّا كان قوي الظهر من الإبل والدواب مما يعتمد عليه في الإعانة سمي المعين ظهيرًا، ويجوز أن يكون من المظاهرة بين الثوبين ونحوهما أي المطابقة بينهما؛ لأن المتظاهرَيْنِ يكونان كشيء واحد أو هو من حماية الظهر وهو معهود عندهم فمعاونك يمنع عنك من ورائك وأنت تمنع عنه من الأمام من حيث يمنع كل منكما عن نفسه، وهذا نحو جعله من وضع الظهر للظهر ولكنه أظهر في التعاون، ومَنْ ماشاك كتفًا إلى كتف لا يُفْهم من مُماشاته لك أنه يمنع عنك ويعاونك كما يفهم مما تقدم. وما قاله أيضًا في تصحيح استعمال لفظ العائلة بمعنى الآل أو العشيرة غير ظاهر فإن العائلة وصف لمحذوف معروف، أي الجماعة التي تعقل إبل الدية عن القاتل من عشيرتها، فإذا كانت العائلة مِنْ عال عياله بمعنى كفاهم معاشهم ومُؤَنهم يكون معنى الكلمة: الجماعة العائلة،أي المنفقة، وإنما المنفق هنا واحد وهو العائل والمُنْفََقُ عليهم هم الجماعة أي العيال ومثل هذا يقال في تعليله الآخر، ولو قيل: إن الكلمة محرَّفة عن العاقل بإبدال القاف همزة كدأب العوامّ لم يكن بعيدًا. هذا ما يأتي به التساهل وهو إذا كان سهلاً في نفسه، ويمكن تأويل بعضه فهو عظيم من عالم يعد من أوسع علماء اللغة اطلاعًا في هذا العصر، فماذا نقول في كتابة جماهير المعاصرين الذين لا نكاد نفهم كلامهم لولا معرفتنا باللغة العامية؟ على أن منه ما لا يفهم منه الغرض المجمل إلا بمعونة القرائن، فإذا كان صديقنا يجعل المعيار في جيد الكتابة ورديئها فَهْم القارئ فعليه أن لا ينسى أن العبرة بالقارئ العارف بالعربية الصحيحة المدونة المقروءة دون العامية التي تختلف باختلاف البلاد، فإذا كان فَهْم المصري لا يقف في فَهْم قول بعض الكُتَّاب في بعض الصحف (المرأة التي عندها أطول شَعْر من غيرها) فإن فَهْم الحجازي والنجدي والعراقي وكذا الأناطولي والقوقاسي ونحوهما من الأعاجم الذين تعلموا اللغة من الكتب، لا يدرك المراد منه مهما كدَّ ذهنه، ولعل أقرب ما يخطر لأمثال هؤلاء بعد طول التأمل أن معنى الجملة: (المرأة التي يوجد عندها في الدار مثلاً أطول شعر هو من شعور غيرها لا من شعرها هي) وإنما أراد الكاتب أن يقول: (أطول النساء شعرًا) فمن تأمل هذا جزم بأنه لا يجوز لنا أن نخالف القواعد والنقل في اللغة - مفرداتها وجملها وأساليبها - إلا لضرورة يقدرها علماء هذا الشأن بقدرها. وإنني أميل إلى مخالفة المتقدمين في بعض ما قالوا: إنه سماعي، ولكنني لا أجيز لنفسي الانفراد بذلك واستعماله لغير ضرورة حتى يوفق الله علماء هذه اللغة لتأليف جمعية تنهض بهذا العمل وعسى أن يكون ذلك قريبًا.