وأما قول القائل: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض , فإن مقتضاه أنه يرى الله بعينه , وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت) وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا , ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم , مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا , وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه بعينه , بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد , وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه , وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسرًا , وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسرًا في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: ١) , وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له: (لن تراني) وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء , فمن قال: إن أحدًا من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران , ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابًا من السماء. المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال: فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يُرى في الآخرة بالأبصار عيانًا , وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه لكن يُرَى في المنام , ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها , ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع. (والقول الثاني) قول نفاة الجهمية أنه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة. (والثالث) قول من يزعم أنه يُرى في الدنيا والآخرة. وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون: إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة , وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم. ثم من أثبت الذات قال: يُرى متجليًا فيها , ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيدًا بصورة , وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله وإثبات رؤية المخلوقات , ويجعلون المخلوق هو الخالق , أو يجعلون الخالق حالاً في المخلوق , وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل , وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق , وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقًا يقتضي أن يكون الرب معدومًا , وهذا هو جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتًا في الخارج جعلوه جزءًا من الموجودات فيكون الخالق جزءًا من المخلوق أو عرضًا قائمًا بالمخلوق , وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الوضع. وأما تناقضه فقوله: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين يقتضي المغايرة , وأن المخاطَب غير المخاطِب , وأن المخاطِب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب , بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود. وقوله: (ما بينكم وبيننا من بين) فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: مظاهر ومجالي قيل: فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما متناقض. وقول القائل: فارق ظلم الطبع وكن متحدًا ... بالله وإلا كل دعواك محال إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع , وهو المخاطب بقوله: (وكن متحدًا بالله) وهو المخاطب بقوله: (كل دعواك محال) وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض مالا يخفى , وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد , لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره , فإنه لا بُدَّ أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك؛ لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا , والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب , وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق , فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل , وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة , وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه , يستحيل عليه نقيض ذلك , فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفًا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفًا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي , وكل ذلك ممتنع وبسْط هذا يطول. ولهذا سئل الجُنَيْدُ عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم , فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم. ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته , بل الرب رب والعبد عبد {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدا} (مريم: ٩٣-٩٥) , وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي , وهو أن يحب العبد ما يحبه الله , ويبغض ما يبغضه الله , ويرضى بما يرضى الله , ويغضب لما يغضب الله , ويأمر بما يأمر الله , وينهى عما ينهى الله عنه. ويوالي من يواليه الله , ويعادي من يعاديه الله , ويحب لله , ويبغض لله , ويعطي لله , ويمنع لله , بحيث يكون موافقًا لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله , وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة , وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه , ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , فبي يسمع , وبي يبصر , وبي يبطش , وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه , ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن , يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) . وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة: (منها) أنه قال: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة) فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: (وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه , ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فأثبت عبدًا يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل , وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه , فإذا أحبه كان العبد يسمع به , ويبصر به , ويبطش به , ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات , فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة فالحديث مخصوص بحالٍ مقيد , وهم يقولون: بالإطلاق والتعميم , فأين هذا من هذا؟ وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح أن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم قي صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة , فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا , فإذا جاء ربنا عرفناه , ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة , فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيجعلون هذا حجة لقولهم إنه يرى في الدنيا في كل صورة , بل هو كل صورة , وهذا الحديث حجة عليهم-في هذا- أيضًا , فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون [١] الذين قالوا: نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن العارف يعرفه في كل صورة , فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم , وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تَجَلَّى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون , وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه , فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه , فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: (وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون) . ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر: كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة , وقد جاءه الغائط , فقال: ما أبصر غيره أبول عليه؟ فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرَّجْت عنِّي , ومرَّ شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضًا من ذاته , فقال التلمساني: هل ثَم شيء خارج عنها؟ وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله , ويقول: نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه , ويجعل هذا الكلام له تسبيحًا يتلوه كما يتلو التسبيح. وأما قول الشاعر: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر فشاهد حقًّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول , فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر , وبالمعروف عن المعرفة , وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن , ويبقى من لم يزل , وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي , فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه , وبحبه عن حب ما سواه , وبخشيته عن خشية ما سواه , وبطاعته عن طاعة ما سواه , فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان (وأما النوع الثالث) من الفناء وهو الفناء عن وجود السُّوى , بحيث نرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق , فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل , فإن هذا لا يحمد أصلاً , بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر , لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور , فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا , ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين , ولعمري أن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه لا يرى صلاة العارفين من الكفر , وأما قول القائل: الكون يناديك أما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقتي انظر لتراني منظرًا معتبرًا ... ما فيَّ سوى وجود من أوجدني فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة , وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده , كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو المخاطب المنادى , وهو الأشتات المؤلفة المفرقة , وهو المخاطب الذي قيل له: انظر , وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها , فهذا جمع بين النقيضين. فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم , فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً للعدم وغير قابل للعدم , والقديم هو الذي لا أول لوجوده , والمحدث هو الذي له أول فيمتنع كون الشيء الواحد قديمًا محدثًا , ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني , وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك , لكن قد علم أنه لم يرد هذا , ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته , وهكذا قول القائل: وله ذات وجود الـ ... ـكون الحق شهود إن ليس لموجود ... سوى الحق وجود مراده بأن وجود الكون هو نفس وجود الحق , وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى , فليس لشيء وجود من نفسه وإنما وجوده من ربه , والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم , وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها , فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكان قد أراد معنى صحيحًا وهو الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين , وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض , ولهذا يقولون: الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد يناقض الوحدة , فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد؟ وقوله: وما أنا في طراز الكون شيء ... لأني مثل ظل مستحيل يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل , فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع , فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس , وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره , والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا. (وقلت) لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس , فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره , فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء , فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا , وجعلت أردد عليه هذا الكلام , وكان في المسجد جماعة حتى فهمه فهمًا جيدًا , وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له , وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره , وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل , (وذكرت له) أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها , فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة} (البقرة: ٥٥) , ثم أحياهم الله بعد موتهم , وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء , والنصارى يصدقون بذلك , وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت , فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة , وأما جعل خشبة يابسة حيوانًا تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القدر وأقدر [٢] فإن الله يحي الموتى ولا يجعل الخشب حياة. وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى , وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك , فإن الحلو أو اللحم دائمًا هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما , وذكرت له نحوًا من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه , وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركًا بينه وبين غيره من المخلوقات , وإما أن يكون مشتركًا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل , مع أن بعض الرسل، كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه , وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك , فإنه خلق من بطن امرأة , وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد , فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم. فعلم قطعًا أن تخصيص المسيح باطل , وأن ما يدعى له إن كان ممكنًا فلا اختصاص له به , وإن كان ممتنعًا فلا وجود له فيه ولا في غيره , ولهذا قال هؤلاء الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضا باطل , فإن الاتحاد عموم وخصوص , والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة , وكذلك قول الآخر: أحن إليه وهو قلبي وهل يرى ... سوايَ أخو وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض , فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض , ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه؟ وقوله: وما بعده إلا لإفراط قربه متناقض , فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة , فإنها تقتضي أين يقرب أحدهما من الآخر , والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))