تقدم لنا في الجزء الماضي من المنار كلام على ترجمة جديدة للقرآن بقلم المسيو مونته مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، ونقلنا إلى العربية المقدمة التي صدَّر بها هذه الترجمة. وترانا الآن ناقلين بعض فصول مما حرَّره الأستاذ مونته بعد المقدمة لما فيها من الآراء الجديرة بالمطالعة، ولما فيها من الإنصاف وإن كنا ننبه القراء إلى أن المسيو مونته لم يكن مسلمًا، وأن شهادته بحق الإسلام لا يمكن أن تُحمل على تأثير عقيدة أو تربية إسلامية. تكلم المسيو مونته على العرب قبل الإسلام توطئة لموضوع البعثة المحمدية فقال: جاء الإسلام في الشرق انقلابًا عميقًا إلى أقصى ما يمكن في الأفكار السياسية والدينية والفلسفية والأدبية قد قلب الأدب الذي كان في الشرق رأسًا على كعب، بحيث نجد من الضروري أن نبين ببعض لمحات كيف كانت بلاد العرب مهد الإسلام قبل أن قام محمد بالإصلاح الذي قام به. إن التقاليد العربية قد هضمت كثيرًا من حق الدور العربي الذي سبق الإسلام وحقرت الأجداد الذين كانوا وثنيين، ولم تنظر إلى الأحوال الاجتماعية التي كانت عليها بلاد العرب القديمة، وأطلقت على ذلك الدور لقب (الجاهلية) وليس هذا مطابقًا للواقع [*] . فيكفي أن نذكر تلك (المعلقات) الخالدة طرائف إبداع أولئك الشعراء الوثنيين، وأن نروي أشعار امرئ القيس وطرفة وزهير وعنترة ... إلخ؛ لنحكم بظلم هذه التقاليد، كلا لا يجوز أن نسمي الدور الذي فيه ارتقت الفصاحة العربية هذا الارتقاء كله، وبلغت فيه لغة العرب درجة الكمال (جاهليًّا) . ثم أورد الأستاذ مونته شواهد على عبقرية أولئك الشعراء من كلام عنترة، وأخذ يبين ما فيها من إبداع وانتهى إلى القول (بأن الروايات التقليدية والأشعار الباقية من الدور المتقدم على الإسلام والأغاني الهُذَلية أناشيد شهيرة طبعها مع ترجمتها فلهاوزن الألماني سنة ١٨٨١ قد تُظهر عرب الجاهلية بمظهر أمة غير قارئة ولا كاتبة وغير مهذبة، بل أمة من بعض الجهات بربرية، إلا أنها أمة كانت على بعض أخلاق عظيمة هي الأصل في عظمة الأمة العربية في كل عصر) قال: إن العرب قبل الإسلام كانوا بحسب هذه التقاليد ماديين لا يعرفون سوى الحرب والعشق والخمر والميسر، وإنه لم يكن ثمة مبادئ عالية يلوون عليها، وفي ذلك بدون شك مبالغة لأننا في الحقيقة نجد في جانب هذه المعيشة المادية الخشنة عند العرب عاطفة شديدة للحرية تجعل هذا الشعب محبوبًا عندنا، وإن فضائل الأنفة والحمية هي كلها من مزايا العرب، فالعربي يبذل حياته بلا مبالاة دفاعًا عن قضية يراها حقًّا، ويرى على نفسه فرضًا لا محيد عنه أخذ ثارات ذوي قرباه، وإنك تجد حس الشرف والحياء بالغًا عنده الحد الذي ليس وراءه حد، وقد قال أحد شعراء الحماسة: إن الشجرة لا تعيش إلا إذا دامت لها قشرتها، وإن الإنسان لا حياة له إلا إذا بقي فيه الحياء. نعم بجانب هذه الفضائل الباهرة ظلمات شديدة، مثل إباحة تعدد الزوجات بدون تحديد، والإذن للرجل بالطلاق بدون أدنى قيد، والنظر إلى المرأة بنظر احتقار زائد، ووأد البنات، والغزو والسلب وقتل الإنسان للإنسان لأخذ ماله، فأما الديانة فعبادة أوثان فظة وعادات مناسبة لهذه العبادة، وكانوا يعبدون الأشجار والأحجار، وكانت الكعبة هي مركز الوثنية وفيها ثلاثمائة وستون صنمًا من أصنام القبائل المتعددة، وكانت قريش سادة مكة وأسواقها، تحرص على سدانة هذا المعبد لأجل أن تستجلب إليها العرب بواسطته. ثم ذكر مونته الأصنام وعدَّد أسماءها كاللات والعزى ومناة وسواع ويغوث ... إلخ؛ ولكنه قال: إن عبادة هذه الاصنام قبل الإسلام بقليل كان عراها الفتور، وأصبحت من قبيل العادة، وكانت الشكوك تحوم حول مسألة الآخرة؛ وإنما كانوا يزورون القبور ويقولون للميت: لا تبعد! . ثم ذكر أنه مذ القرن السادس للمسيح ظهرت روح دينية كان يقال لأصحابها (الحنفاء) فكانوا يؤمنون بإله يجعلونه فوق كل شيء [١] ، وكانت اليهودية والنصرانية دخلتا إلى جزيرة العرب؛ وإنما كان يمثلهما بعض تجار لا سيما تجار الخمر، وكان منهما بعض نساك متعبدين مبعثرين في الفلوات لكن لم يكن لهم تأثير من جهة مصير الأمة العامة، وبالإجمال كانت حالة العرب الاجتماعية من الجهة الدينية والأدبية من الانحطاط الشديد بحيث كان من الضروري لها (ظهور مصلح كبير) . ثم ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وذكر معنى اسمه المشتق من الحمد، وروى قصة أبرهة وغزو مكة على فيل أبيض، إلى أن قال: إن عبد المطلب كان قد مسه الفقر بسبب ما كان ينفقه على الحجاج في مكة، فلما مات عبد الله والد محمد بعد ولادة ابنه بقليل لم يترك له من الإرث سوى بيت سكن وجارية وخمسة جِمَال، وبحسب عادة القوم أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مرضع بدوية ورُبي في البادية، ولما كان في السادسة من عمره تُوفيت أمه، فكفله جده عبد المطلب، ولما مات عبد المطلب بعد ذلك بسنتين كفله عمه أبو طالب، ورعى محمد الغنم في حداثة سنه، ولما صار في الرابعة والعشرين من عمره اتجر لخديجة أرملة كانت موسرة، فكان يذهب بقوافلها ويأتي فأحسن العمل حتى مالت خديجة إليه وتزوجت به وهي في الأربعين من العمر، وكان هو ابن خمس وعشرين سنة، ومع هذا الفرق في العمر كان الزواج سعيدًا جدًّا حتى أن عائشة التي تزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فيما بعد كانت تغار من خديجة بعد موتها لشدة ما كانت تسمعه من تذكر محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة، وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا بالاستقامة، وكان الجميع يلقبونه بالأمين. (وليس في أيدينا صورة خِلقية حقيقية لمحمد تمثل لنا شكله، بل جميع الصور والتماثيل التي نشرت عنه - الإفرنج المولعون بالصور والتماثيل جعلوا منها أيضًا للنبي صلى الله عليه وسلم - هي من عمل الخيال) . إلى أن قال: (إن الروايات العربية تركت لنا عنه هذه الصورة، وهي أنه كان مهيبًا عظيم الرأس، عريض المنكبين، مستدير الوجه، يُشْعِر وجهه الصدق، أسود العينين، مستطيل الحواجب، أقنى الأنف، كث اللحية، وكان زائد الشعور رقيق الإحساس إلى الدرجة القصوى) . (وقد زعم بعضهم أن شدة إحساس محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت تحصل له منه نوبات شديدة قد تحولت إلى مرض عصبي هو مرض الصرع، وليس في اليد ما يثبت هذا القول الذي منشؤه رواية عربية لم تسمع إلا بعد عصر محمد بمدة طويلة وآراء بعض المؤرخين البيزنطيين المعروفين بالعداوة لشريعته، فلا نجد في هذه الأقاويل شيئًا متينًا نبني عليه) . قال: (وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا ببساطة المشرب، محبوب الأخلاق، حلو الحديث، ذا تأثير خاص في حديثه، وكان من أخص مزاياه صحة الحكم وصراحة القول وشدة الاقتناع) . ثم ذكر مونته ما قاله أبو الفدا من شمائله صلى الله عليه وسلم مما لم نجد لازمًا ترجمته لأن أصله عربي جدير بالقارئ أن يراجعه في تاريخ أبي الفدا بنصه الأصلي؛ ولكننا نقول: إن على كل من يعنى بتهذيب النشء وبطبع الشبان على الأخلاق الفاضلة أن يقرأ لهم هذه الشمائل النبوية التي ليس في تحريرها شيء من المبالغة المعهودة في وصف الأنبياء والرسل؛ وإنما هي حكاية أحوال النبي الكريم كما كانت بدون زيادة ولا نقصان، ولعمري لا يقرؤها من كانت له صفحة نفس صافية شفافة ويتأمل فيها إلا استهل الدمع من محاجره. ثم أشار مونته إلى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إنه اجتمع له إحدى عشرة زوجة، وذلك أن العرب يومئذ كانوا يكثرون جدًّا من الزوجات، قال: (فلا يصح لنا أن نشتد في الحكم من هذه الجهة، ونطبق عليها قاعدة الزوجة الواحدة التي هي عمدة المدنية الحديثة) ثم ذكر الأستاذ مونته أنه مع عاطفة محمد صلى الله عليه وسلم إلى النساء لم يكن يرى فيهن درجة الرجال؛ وإنما وصف منهن بالكمال آسية امرأة فرعون، ومريم أم عيسى وخديجة زوجته الأولى وفاطمة ابنته. قال: (ولم يوح إلى محمد حتى بلغ الأربعين من العمر إلا أنه كان قبل ذلك كثير التأمل في الخلوات، وكانت تعتريه نوبات عصبية [٢] يشهد أثناءها مشاهد إلى أن تَمَثَّلَ له المَلَك السماوي، ولا شك أن هذه الحوادث الروحية التي وقعت له إنما جرت من ثورة نفسه القوية في أعماق ضميره على عبادة الأوثان، وعلى حطة الآداب اللتين كان عليهما أهل عصره) . إن المسيو مونته ليس مسلمًا ليعتقد في البعثة ما نعتقده نحن بتمامه؛ لكنه في كلامه هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء زعمه من نفسه بدون أن يعتقده، وهذا خلافًا لكثير من مؤلفي الإفرنجة الذين كانوا يطعنون في محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلونه قائلاً ما لا يعتقد، ولقد ضعف هذا الرأي في الأعصر الأخيرة ومال أكثر المؤرخين من عهد كارليل الإنكليزي إلى اليوم إلى الرأي الذي عليه الأستاذ مونته، وهو أن محمدًا كان صادقًا وأنه لم يُحَدِّث بما لم يشهد ولم يسمع، وأننا إذا أمعنا النظر في عبارة مونته نفسها لا نجد فيها شيئًا ينافي نزول الوحي من الله على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في قوله (إنه كانت تَحْدُث له نوبات عصبية تتمثل له في أثنائها الملك) لا يفيد بالضرورة أن النوبات العصبية هي نفسها التي مثَّلت الملك. وكذلك في قوله (إن نفس محمد صلى الله عليه وسلم ثارت في أعماق ضميره على ما كان فيه أبناء عصره من عبادة الأصنام وانحطاط الآداب) لا يوجب أن يكون الوحي هو عبارة عن ثورة نفسية لا غير. بل الحق عز وجل الذي له خرق العوائد في المعجزات له أن يهيئ المعجزة بأسباب طبيعية تمشي على النواميس الكونية إلى أن تتجلى أخيرًا بالأمر الإلهي المباشر [٣] ، فالله تعالى الذي أراد أن يهدي البشر، وأن يردعهم عما كانوا منغمسين فيه من إلحاد في الدين وإباحة في العرض، قد أراد أن يؤيد رسالاته السابقة إليهم التي طال عليها الأمد وقست من بعدها قلوبهم، وأن يعززها برسالة جديدة مبنية على العقل الذي ليس وراءه للمرء مذهب، وأن يجعل هذه الرسالة خاتمة الرسالات كما كان العقل هو خاتمة الأدوات التي بها يعرف المخلوق خالقه، فكذلك ابتعث من البشر أشدهم قبولاً للوحي السماوي وأعظمهم ثورة على عبادة الأوثان وأكثرهم استعدادًا (فطريًّا لا كسبيًّا) لإدراك طرف من خزائن الغيب الذي لا يعلمه بأجمعه إلا الله، وما تمثل المَلَك إلا للذي أوجد فيه الله هذا الاستعداد التام، فأنت ترى أن كلام مونته وإن لم يكن مسلمًا لا يناقض عقيدة الإسلام في كيفية الوحي الذي أوحاه الله لرسوله. ثم قال مونته ما ترجمته بالحرف: (فالرسول الإلهي الملك جبريل تجلى على محمد لأول مرة في جبل حراء بقرب مكة وبيده ورقة وقال له مرتين (اقرأ) فأجابه محمد (لست بقارئ) فتلا جبريل الآيات الآتية التي تجدها في السورة السادسة والتسعين {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: ١) السورة [٤] ) (ثم غاب الملك بعد أن ألقى هذه الكلمات، فذعر محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا، ولم يعرف ماذا يقول عنها ولجأ إلى زوجته خديجة التي وجد عندها المعونة الروحية التي كان ينشدها، ولما لم تكرر عليه هذه الرؤيا في المدة التالية لتلك الليلة الخالدة الذكر خشي أن يكون قد مسه الشيطان لأن الاعتقاد بقوة الأرواح الخفية وتأثيرها كان منتشرًا في بلاد العرب، ولقد كان محمد في أوقات أخرى معتقدًا بأنه مظنة لطف مخزون خاص، وأن كل ما كان يراه كان حقًّا، إلا أنه أخذته الشكوك هذه المرة ووقع في الحيرة، فأصبح لا يعلم أهناك رسالة إلهية أم أصابه مس؟ ففي هذا الدور الذي تطاول نحو ثلاث سنوات كانت زوجته خديجة واسطة إلهية في إنعاشه وتسرية ما به وإقصاء الأفكار السيئة عنه وتشجيعه على القيام بتأدية الرسالة التي كان يعتقدها في نفسه) (وفي أثناء هذه الأزمة ظهر له الوحي ثاني مرة بواسطة جبريل، الذي بحسب الروايات ناداه: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجاء إلى زوجته خديجة وقد ثقلت عليه الأفكار إلى حد أن أخذ يرتجف، وقال لخديجة أن تغطي رأسه أملاً بأن يتفادى ثقل ما يرى، وإذ ذاك سمع صوتًا إلهيًّا يقول له: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: ١-٣) السورة [٥] . ومن ذلك الوقت تتابع الوحي وكانت وحدانية الله ورسالة محمد هما قاعدة ذلك الوحي الذي كان محمد مقتنعًا أنه نزله الله عليه) . انتهى كلام الأستاذ مونته في هذه المسألة فلنقابل به كلام علمائنا أنفسهم ولنتخذ مثالاً طبقات ابن سعد، قال: الروايات في بدء الوحي (أخبرنا محمد بن حميد أبو سفيان العبدي [٦] عن معمر عن قتادة في قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: ٨٧) قال: هو جبريل، أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، قالت: فمكث على ذلك ماشاء الله وحُبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه منها، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله (تحنث وتحنف بمعنى تعبد) ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، أخبرنا محمد ابن عمر قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو بأجياد إذا رأى ملكًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصح: يا محمد أنا جبريل يا محمد أنا جبريل، فذُعر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجعل يراه كلما رفع رأسه إلى السماء، فرجع سريعًا إلى خديجة فأخبرها خبره وقال يا خديجة والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئًا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنًا، قالت: كلا يا ابن عم لا تقل ذلك، فإن الله لا يفعل ذلك بك أبدًا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك لكريم. ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهي أول مرة أتته فأخبرته ما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: والله إن ابن عمك لصادق، وإن هذا لبدء نبوة، وإنه ليأتيه الناموس الأكبر فمُريه أن لا يجعل في نفسه إلا خيرًا. أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا خديجة إني أرى ضوءًا، وأسمع صوتًا لقد خشيت أن أكون كاهنًا، فقالت: إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إنك تصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم) ثم أورد ابن سعد روايات أخرى كلها في هذا المعنى وبألفاظ لا تكاد تفترق عما ذكرناه. [٧] ثم أورد ابن سعد الروايات عن كيفية بدء التنزيل، فحذفنا الأسانيد حبًّا بالاختصار واعتمادًا على تواتر ذلك، قال: كان أول ما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ١-٥) فهذا صدرها الذي أُنزل على النبي يوم حراء، ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله. ثم روى روايات متعددة حذفنا أسانيدها: بأن رسول الله لما نزل الوحي عليه بحراء مكث أيامًا لا يرى جبريل، فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السماء فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقًا للصوت، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعًا عليه يقول: يا محمد أنت رسول الله حقًّا وأنا جبريل، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعدُ وحمي. والحاصل أن ما ذكره مونته يطابق روايات أصحاب السير التي اتفقوا عليها وتواترت ولم يفعل مونته ومن في ضربه من مؤرخي الإفرنج المتأخرين ما كان يفعله مؤرخوهم في القرون الوسطى، أو ما يفعله المكابرون منهم اليوم الذين يريدون إيجاد الحوادث على وفق هواهم فيوردون في تواريخهم ما يوافق مقصدهم وينبذون ما يخالفه أو يكذِّبونه بدون دليل أو بأدلة واهية كأدلة لامنس اليسوعي. فالأستاذ مونته يقول بالحرف: (كان محمد نبيًّا صادقًا كما كان أنبياء إسرائيل القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه، كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتُحْدِث فيه كما كانت تُحْدِث فيهم هذا الإلهام النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يوجدان في العقل البشري المَرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي هي من بابها) . فالأستاذ مونته لا يتهم مقدار ذرة محمدًا بعدم الصدق والأمانة، وكأنه يقول لأهل أوربة: لماذا لا تعتقدون بمحمد ما دمتم معتقدين بنبوات أنبياء التوراة؟ فإن نبوتهم مثل نبوته، ونبوته مثل نبوتهم. نعم إن مونته يريد أن يكون الوحي واقعًا بأسباب طبيعية من قبل شدة الاعتقاد وانفعال النفس بمؤثرات خارجية من جهة استفظاع عبادة الأوثان وما أشبه ذلك؛ ولكن هذا التعليل لا ينفي وقوع الوحي بالأمر الإلهي وتهيئة ما يتمثل للأنبياء بالأمر الإلهي، وأن ما ينفث في روعهم ويقع في أسماعهم إنما هو بالأمر الإلهي [٨] وإذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف: ٥٤) . ثم تساءل مونته عما إذا كان محمد تلقى علمًا وما العلم الذي تلقاه؟ وأجاب أنه يستحيل الجواب على هذا السؤال، وإنما بحسب القرآن والسنة ينبغي أن يكون أرقى أهل عصره وقطره، ثم بحث في أمية النبي الكريم وذكر ما قيل فيها وذهاب بعضهم إلى كونه أميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة وذهاب الآخرين إلى أنه يبعد أن يكون أميًّا من نطق بمثل هذا الكتاب البالغ حد الكمال البياني. وعلماؤنا متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا؛ لأنهم لم يجدوا دليلاً ولا شبهة على أنه كان يحسن القراءة والكتابة، وليس إعجاز القرآن البياني بالذي يُصادم روايات أمية الرسول، فإن شعراء العرب الكبار كأصحاب المعلقات مثلاً بلغوا أمد الفصاحة الأقصى الذي يمكن البشر، ولم يكونوا يقرءون ولا يكتبون، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن ينزل على لسانه هذا الكلام الأعلى، وأن يبقى مع ذلك أميًّا لا يقرأ ولا يكتب [٩] . قال مونته: (ومن أشد الآيات سطوعًا في دعوة محمد الدينية أن الذين آمنوا به قبل كل الناس كانوا أهله وأقرب الناس إليه، وهو بين مؤسسي الديانات الوحيد الذي كان له الامتياز على الجميع بأن يستجلب إلى عقيدته أقرب الخلق إليه بالدم أو بالمودة، فقد آمنت به قبل الجميع خديجة امرأته ودُعيت بحق أم المؤمنين، ثم ابن عمه علي ابن أبي طالب ومعتقه زيد أحب الناس إليه وصديقه عثمان وأبو بكر أبو امرأته عائشة) انتهى. وهذا الرأي في أن الإيمان بمحمد من أقرب الناس إلى محمد هو من أنصع الدلائل على صدقه؛ لأنه لو كان ثمة أقل داعٍ للشبهة لكان هؤلاء الخلطاء الملازمون الأقربون أجدر بأن يلحظوه - هو رأي عدد كبير من الباحثين والمؤرخين والعلماء الاجتماعيين المعاصرين، ومنهم المستر ولز الإنكليزي الشهير الذي أخرج في سنة ١٩٢٦ كتابًا عظيمًا في التاريخ العام، ولم يخلُ في كلامه على السيرة النبوية من بعض أوهام إلا أنه أنصف في كثير من المواضع من جملتها هذه النقطة، وسننقل إلى المنار طائفة من كلام ولز عن الرسول وعن الخلفاء الراشدين وعن مدنية العرب الباهرة، كما أننا سنعود إلى كتابي الأستاذ السويسري مونته وعلى الله التوفيق. لوزان ٥ يناير سنة ١٩٣٠ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان