للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر

نُشر في المقطم مقال لصاحب السمو الأمير محمد علي عنوانه (الدين في هذا
العصر والجامع الأزهر) كان له تأثير حسن في الجمهور الإسلامي بموضوعه
ومكانة صاحبه؛ فإن كل مسلم يسره أن يرى من أمرائنا من يعنى بأمر الدين في
هذا العصر الذي شغلت الأمراء زينة الحياة الدنيا ولذتها عن الدين، لذلك أكبر
المسلمون مقال الأمير محمد علي في الدين والأزهر، وأثنوا بما يليق بمقام سموه،
ولم ينتقده في الجرائد إلا قليل منهم ولكن بما يليق بذلك المقام من حسن الأدب.
بدأ الأمير مقاله بما رآه في ممالك أوربة (من الجنوب إلى الشمال) من الهمم
المبذولة والعزم الصادق في إصلاح ما أفسدته الحرب العالمية من تجارة وصناعة
وعلم وعمل ولا سيما الاستعداد للحرب ... وانتقل من ذلك إلى ما هو أهم منه
وأخفى على جماهير المسلمين في هذه البلاد وغيرها وهو ما رآه في بلاد أوربة من
التيار الديني الجديد الذي (يرمي إلى [*] ما كان للدين من شوكة وسلطان، وناهيك بما
يبذله رجل الكنيسة وطوائف المبشرين العديدة، ومن تبعهم من أرباب الملل والعلم
والقلم لاستعادة نفوذ الدين وسيطرته على ولاة الحكم ومعاهد التعليم، بل على الأسر
والناشئة الجديدة) ... إلخ.
ثم ذكر سموه أن هذه الحالة النفسية الجديدة التي رآها في بلاد الغرب هذه
المرة حملته إلى إنباء إخوانه في الشرق (بما يجري ويدور هنا من فاتحة القرن
العشرين ليكونوا على بينة من الأمر فيعتبروا ويتقوا الله في دينهم ولا يصغوا
لضلالات فرقة ظهرت بينهم تريد أن تضلهم عن سبيل الله باسم العلم العصري
والمدنية العلمية) .
وقفّى على هذا بقوله (إن هذا الموقف الجديد الذي أحرزه العامل الديني بين
الجماعات الأوروبية، ونموه السريع، بهذا الشكل المريع (؟) في مدة قصيرة من
الزمن ساقاني إلى التفكير فيما يجري في هذه الآونة في بلاد الشرق من الاضطراب
في الأفكار بشأن هذا العامل، فبينما نرى طائفة ظهرت حديثًا تسعى في محاربة
الدين وهدمه نجد المتمسكين بدينهم من عقلاء المسلمين ومتنوريهم جامدين كالأموات
لا يتحركون، وأما السواد الأعظم من المسلمين فهم في ظلمات الجهل والخرافات
يعمهون، حالة والله تبكي من بقي في قلبه ذرة من الإيمان) ... إلخ.
كل هذا حسن، وهو الذي أُعجب به المسلمون وأكبروا صدوره عن أمير من
أشهر أمرائهم، ثم استطرد الأمير إلى ذكر الأزهر وتساءل عن علماء الأزهر
وطلابه، قائلاً (ألا يجب على الأزهريين أن يكونوا في هذه الظروف العصيبة في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية في العالم) ... إلخ؛ ولكن كانت نتيجة ما ذكره
سموه من تفكيره الطويل في حال الجامع الأزهر، وما أوجبه على الحكومة
المصرية وعلى كل مسلم (لإنقاذ هذا المعهد الجليل مما أصابه من الأمراض)
مباينة لجميع تلك المقدمات من كل وجه.
تكلم في تاريخ الجامع الأزهر منذ تأسيسه إلى الآن بما يخالف الواقع إلا قليلاً،
وارتأى في إصلاحه آراء يتعسر تحديدها وتمحيصها، ويتعذر تنفيذها؛ ولئن
نُفذت على الوجه الذي ذكره لتكونن من أكبر الكوارث على الأزهر وعلى الدين
الإسلامي الذي يغار عليه سمو الأمير بحق، ولا يمكن بيان هذا كله بالتفصيل إلا
بكتابة رسالة طويلة أو مقالات كثيرة لا حاجة بنا إلى أكثرها الآن، ولا سيما القسم
التاريخي منها، كالغرض من بناء الشيعة الباطنية للأزهر وحالهم في دينهم
وسياستهم، والعلوم التي كانت تُقرأ فيه في عهدهم، والأطوار التي مرت عليه من
بعدهم، وكذلك الذين وقفوا عليه الأوقاف، وهل هم أهل لأن نعمل بما كانوا
يفهمون من العلوم وطرق التعليم والانتفاع به في مثل هذا العصر كما اقترح سمو
الأمير؟ ثم هل يتفق ذلك وما تمناه وندب إليه من وجوب جعل الأزهريين في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية التي يهتز لها العالم الغربي في هذا العهد؟
قال سمو الأمير في آخر مقاله إنه يعرض رأيه الذي أملاه عليه حبه للإسلام
والإخلاص لأزهره الشريف على من يشاركه في هذا الشعور من جمهور المسلمين
ليفكروا فيه طويلاً ويدرسوه بما يستحق من العناية واستحلف من يقبله منهم بالله
ورسوله [١] أن يتناصروا في سبيل إخراجه إلى حيز الفعل، وقد فكَّر فيه كاتب هذه
السطور كما أمر الأمير وهو ممن يبحث في شؤون الأزهر وشؤون الإصلاح
الإسلامي منذ ثلث قرن، وله في موضوع إصلاحه وبيان ماضيه وحاضره وفي
الرد على الملاحدة مباحث كثيرة منشورة في مجلدات المنار الثلاثين.
وأكتفي في هذا المقال الوجيز بتوجيه نظر الأمير وغيره إلى بعض القضايا
التي يجب التفكير فيها مع التفكير في مقترحاته لعل سموه يرى فيها ما يتوقف عليه
الحكم الصحيح فيها وهي:
(١) من المعلوم أن جده الأعلى الذي يتحلى هو باسمه قد أدخل هذه البلاد
في طور الحضارة الغربية، من غير اعتداء على مقوماتها الإسلامية العربية، وأن
جده الأدنى (إسماعيل) هو الذي أحدث فيها التفرنج بالتشريع المدني والجنائي
والتربية والتعليم والحرية الشخصية. وقد وصلت البلاد بهذا التفرنج إلى ما يشكو
سمو الأمير وغيره منه من فشو الإلحاد والفسق، فليتأمل في تاريخ الأزهر في كل
هذه المدة قبل البدء في دعوة إصلاح الأزهر التي ينكرها وبعده ولينظر ماذا كان من
تأثير شيوخ الأزهر وخطبائه في مقاومة ما يخالف الإسلام، ولا سيما الإلحاد الذي
فشا في هذا العهد، وفي إيجاد ما يوافق هدايته ويعلي شأنه؟ أظن أنه لا يجد لأحد
منهم أثرًا له قيمة أو تأثير في الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته إلا لطلاب الإصلاح
للأزهر ودعاته وإمامهم الشيخ محمد رحمه الله تعالى، ولو اطلع سموه إلى الخطب
الجُمعية التي كانت تلقي على منبر الأزهر وغيره من المساجد في مصر لرأى أن
أكثرها إما منفر عن الإسلام، وإما غير مؤدٍّ لحاجة المسلمين في هذا الزمان، ولو
اطلع على الخطب والمواعظ التي يلقيها أعضاء حزب الإصلاح في هذا القرن
لأعجب بها وقرت عينه بأهلها.
(٢) إن أهم مقترحات سموه ترك الحكومة المصرية للأزهر ليكون مستقلاًّ
بشأنه، واستقلال المدارس العالية أصل من أصول استقلال العلم ونزاهة أهله عن
تأثير السياسة وأهواء أهلها، وأحوج العلم إلى الاستقلال علم الدين؛ ولكن الأزهر
طرأ عليه ضعف الدين والعلم واللغة في عهد استقلاله دون الحكومة لا بعد تدخلها
في أمر إدارته، وقد كان من أهم قواعد الإصلاح له في رأي الشيخ محمد عبده أن
يكون برأي شيوخه واقتناعهم، وأن لا يكون للحكومة نفوذ فيه، وقد نقلت عنه في
المنار مرارًا أنه قال إنني ما دمت في هذا المكان لا أدع للحكومة نفوذًا فيه، وكذلك
كان فإن نفوذ الوزارة لم يتسرب إليه إلا بعد خروج الشيخ منه، بل كان رحمه الله
يعارض نفوذ الأمير الشخصي فيه إذا كان مخالفًا لقانونه كما بيَّنا في ترجمته، وكان
هذا من أسباب سخط الأمير عليه وإلجائه إياه أخيرًا إلى الخروج منه، ولم يكن له
من شيوخه نصير يحب الاستقلال إلا السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر الذي استبدل
الأمير به الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ عبد الكريم سلمان، وكان غرض
الأمير المصري من هذا التبديل إرجاع الأزهر إلى ما كان قبل النظام الحديث:
ولكنه لم يرجع ولم ينتظم أمره، بل كانت سياسة الأمير هي السبب في تدخل
الحكومة فيه أيضًا، فهل يوجد اليوم في كبار شيوخه من ينهض بهذا الاستقلال له
دون نفوذ الحكومة؟ ذلك ما نتركه للبرلمان المصري الآتي وإلى ما سيكون
للمصلحة الإسلامية من المنزلة فيه.
(٣) إن أغرب ما في مقال الأمير تصويبه قول من يقول (إن الحكومة
ترى من الضروري تخريج نشء جديد من رجال الدين يكون لهم اطلاع واسع على
اللغات، أو على بعض العلوم التي لا وجود لها في الأزهر) وإجابته عنه بقوله:
(الأوفق إذًا للحكومة أن تنشئ كلية للعلوم الدينية ملحقة بالجامعة المصرية تؤسسها
على ما ترغب من الأسس وتنظمها كيفما تشاء، ولا بأس حينئذ من الاستغناء عن
مدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم وإدماجهما في هذه الكلية الجديدة) .
الغرابة في هذا الرأي الذي لا أظن أنه يوجد واحد في الألف من شيوخ
الأزهر وطلابه يوافق سموه عليه هو جعل التعليم الديني لتخريج رجال الدين
قسمين (أحدهما) يناط بالجامعة المصرية تبعًا لوزارة المعارف، ويكون من
خريجيه رجال القضاء الشرعي ومعلمو المدارس الأميرية، وكل من قد تحتاج
الحكومة إليهم من علماء الدين (وثانيهما) الأزهر ويُقصر التعليم فيه على ما كان
يُدرَّس فيه من العلوم الشرعية قبل نصف قرن، ويكون الغرض منه التعبد وإرادة
وجه الله تعالى، ومن لوازمه إرجاع راتب علماء الأزهر إلى ما كانت عليه وهو
قلما يزيد على راتب خادم أو بواب في هذا العهد، ومنع الحكومة عنه هذه المئات
من الألوف التي خُصصت لميزانيته! ! وحرمانهم من الوظائف الشرعية كغيرها
فيا ليت الأمير يعلم رأي أهل الأزهر في اقتراحه هذا.
(٤) إن قانون الأستاذ المراغي الحديث للأزهر يجمع بين التعليمين اللذين
اقترحهما سمو الأمير، إلا أنه يجعل كلاًّ منهما تابعًا لإدارة واحدة هي إدارة المعاهدة
الدينية، ولا شك أن هذا أضمن أو أدنى إلى جعل الأول دينيًّا إسلاميًّا من إدارة
الجامعة المصرية له، وهي هي التي أعلن بعض أساتذتها الإلحاد في تعليمها إعلانًا
برضاء مديرها ووزير معارفها وغيره من وزرائها وحمايتهم، كما ظهر ذلك
للخاص والعامي في قضية الدكتور طه حسين، وندع ما لا يعرفه إلا الخواص من
الإلحاد والملحدين، ومن إهمال وزارة المعارف لأمر الدين في مدارسها؛ حتى إنه
صار يقل في طلاب مدرسة دار العلوم من يصلي! فما القول في غيرها؟