ننشر هذه المذكرة هنا في فلسفة الوجود، وإثبات الخالق جل شأنه، وقد كتبتها بعد تفكر طويل وبحث عميق، وسترى فيها - إن شاء الله تعالى - أقوى دليل على وجود الخالق بحيث إنك تجد فرقًا بين قوة هذا الدليل، وقوة دلائل العلوم الرياضية وغيرها، فنقول: بديهيات لا بد من ذكرها قبل الدليل الضدان لا يجتمعان، وقد يرتفعان - النقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان - الترجيح بدون مُرجِّح محال - واجب الوجود هو ما لا ينفكُّ عنه الوجود لا أزلاً ولا أبدًا، فهو قديم باقٍ - الجائز هو ما يجوز عليه الوجود والعدم، ولا يُرجَّح وجوده إلا بمرجح، أو موجد، أو سبب - المستحيل هو ما لا يُتَصور في العقل وجوده - إيجاد الموجود تحصيل حاصل. *** نظرة في الكون هذا الكون مركب من مادة وصورة، فالمادة كل ممتد أو متحيز، والصورة إما خيالية لا توجد إلا في الذهن أو المخيلة، كصورة الإثير مثلاً، ونسميها أيضًا الهيئة أو الحالة، وإما وجودية تُدرك بالحواس كشكل أي جسم معتاد، وقد تسمى المادة بالجواهر أو الذات، وهي ما قام بنفسه، وتسمى الصورة بالعَرَضِ، أو الصفة الإضافية، وهي ما قام بغيره، ويستحيل قيامه بنفسه. وإذا استرسلنا في التفكير والفرض فقد نجوز أن يكون أصل العالم غير ممتد وغير متحيز، بأن كان في حالة أو هيئة لا يمكن أن نتصورها بعقولنا؛ لأننا لا نتصور إلا المتحيز، وإنما نسلم بذلك جدلاً لكيلا يطرأ على دليلنا الآتي احتمال منا أو ضعف بأي وجه من الوجوه. أما الذات أو الجوهر: فليس في مقدور البشر إيجاده أو إعدامه، وأما العرض أو الهيئة أو الحالة: فهي مما تتعلق بها قدرة البشر إيجادًا وإعدامًا. فمثلاً: قد نجمع من المادة أصنافًا، ونوجد منها بيتًا أو غيره، ثم نهدمه، فنحن قادرون على إيجاد الهيئة أو الحالة، ولسنا قادرين على إيجاد المادة نفسها. الحالة أو الهيئة أو الصورة: مهما فرضناها أو تخيلناها فهي كلها أمور ثبوتية مغايرة للذات أو المادة، ولذلك توجد وتُعدَم بدون أن يصيب المادة من ذلك شيء، فهي أمر زائد عليها، وإن كانت قائمةً بها، ولو كانت عينها لعدمت المادة بعدمها، وهذه الأعراض لها وجود، فإنها لو كانت عدمًا محضًا لكانت زيادتها عدمًا؛ لأن زيادة العدم عدم فتكون الحالة زائدة على الذات وغير زائدة، وهو محال. فتلخص من ذلك أن حالة المادة هي أمر وجودي زائد على الذات، وهي قابلة للعدم، فتكون جائزة الوجود، فلا يرجح وجودها إلا بمرجح - أي سبب موجود - فلا تكون قديمةً؛ لأن الإيجاد معناه الخلق بعدم العدم، والقديم: ما لم يُسبق وجودُه بعدم، فهو موجود دائمًا، وإيجاد الموجود تحصيل حاصل، وهو محال. وعليه فهذه الحالة حادثة، وكذلك كل حالة زائلة، والمادة لا يمكن تصورها بلا حالة حادثة فتكون هي أيضًا حادثةً [١] ، وإلا كانت مجردةً عن كل حالة، وهو محال، أو تكون موجودةً ومتقلبةً في حالات حادثة لا أول لها وهو محال أيضًا [٢] إذ تقلبها في هذه الحالات يدل على الانتهاء منها قبل كل حالة، وكونها لا أول لها يستلزم عدم إحصائها أو تناهيها، والانتهاء مما لا نهاية له محال؛ لأنه تناقض. *** وجود الخالق فالمادة حادثة، وكل حادث لا بد له من مُحدث، وهو الله - تعالى - وإلا جاز الترجيح بدون مرجح، وهو محال. (قدم صفات الله تعالى) الواجب: قديم الذات قديم الصفات غير متغير، والقدرة هي هي بعد الخلق، كما كانت قبله، والخلق عمل عمله الله لم يحدث تغييرًا في ذاته أو صفاته مطلقًا، وليس بحركة، ولكنا لا ندرك كنه هذا العمل (الخلق) ولا كنه الخالق، ولا كنه المخلوقات. وخلق الأزلي محال؛ لأن الخلق معناه الإيجاد بعد العدم، والأزلي لم يسبق وجوده بعدم فهو موجود دائمًا، وإيجاد الموجود تحصيل حاصل. كذلك إيجاد حوادث في الأزل لا أول لها؛ لأن إيجادها يستلزم إحصاءها وحصرها، وإحصاء ما لا يُعدُّ مُحال، لذلك قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: ٢٨) . (نفي الجسمية عن الله تعالى) لو كان الله - تعالى - متحيزًا لكان مركبًا من جواهر فردة، والجوهر الفرد ما ليس له امتداد مطلقًا [٣] ، وله وضع معين، وحيث أنه لا فرق بين وضع ووضع، بل كلها بالنسبة للجوهر سواء، فوجوده في واحد منها دون غيره: إما لعلة أو لغير علة، فإن كان لغير علة فذلك ترجيح بدون مرجح، وهو محال، وإن كان لعلة (أي سبب أو موجد) فلا يكون وجود الجوهر في الوضع المعين قديمًا؛ لأن القديم هو ما لم يسبق وجوده بعدم فهو موجود دائمًا، فلا يكون محتاجًا لسبب يهبه الوجود، لكن المفروض هنا احتياجه للسبب، فيكون محتاجًا له غير محتاج له، وهو تناقض، وما نشأ ذلك إلا من فرض احتياج الله - تعالى - إلى الوضع المعين، فهو غير محتاج للوضع المعين، ولا للمكان، وليس بمتحيز أصلاً {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: ٤٣) . *** الأفول والحدوث اعلم أن الأفول المذكور في القرآن الشريف على لسان إبراهيم - عليه السلام - يدل على الحدوث؛ لأن معناه الغياب، وهو يدل إما على تحرك الآفل، أو على أنه محدود غير محيط بخلقه، وإلا لم يمكن للأرض أن تخرج بمن عليها عن تأثيره وسلطانه، فإن كان متحركًا فهو حادث، وإن كان محدودًا غير محيط بكل شيء فهو ملتزم لوضع معين، وكل ما كان كذلك كان حادثًا كما تقدم برهانه، فالآفل على كل حال حادث، وصدق الله، وخليله عليه السلام. (وحدانية الله تعالى) ثبت بالبرهان المذكور في كتابي (الدين في نظر العقل الصحيح) وبما يأتي أيضًا: وهو أن اختصاص أحد الآلهة بخلق جزء دون غيره تخصيص بدون مخصص، وإن كان ذلك بعد تشاور أو مفاوضة واتفاق، فإما أن يؤثر ذلك في العلم القديم والإرادة، أو لا يؤثر، فإن أثر فالعلم حادث، وحدوثه يستلزم حدوث الذات، وإن لم يؤثر فلا فائدة فيه مطلقًا، ويكون اختصاص كل بما خلقه تخصيصًا بدون مخصص أيضًا، ولا يلتئم ما خلقه هذا مع ما خلقه ذاك إلا نادرًا أو اتفاقًا (صدفةً) فيفسد نظام هذا العالم البديع، ويذهب كل إله بما خلق، ويعلو بعضهم على بعض. *** المعلوم (١) إما واجب، وهو ما لا ينفك عنه الوجود لا أزلاً ولا أبدًا، لا بد أن يكون أمرًا ثبوتيًّا سواء كان ذاتًا أو صفةً، جوهرًا أو عرضًا، إذ لا معنى لوجود المعدوم. (٢) وإما جائز، وهو ما يجوز أن ينفك عنه الوجود إذا وجد، ولا يوجد إلا بموجد. (٣) وإما مستحيل، وهو ما لا يمكن وجوده أزلاً ولا أبدًا. ********** (يوجد صورة هنا) *****************
أما استحالة الحركات في الأزل فلأن معناه دخول حركات في الوجود لا عداد لها، ودخولها هذا يستلزم انحصارها وعدها، وعد ما لا يعد تناقض باطل، فلا يجوز ذلك عقلاً ولا فعلاً. وهناك ثلاثة أسئلة: (١) ألا يجوز أن يكون سكون المادة في الأزل واجبًا، ثم صار جائزًا؟ قلت: هل صار جائزًا فجأةً؟ أم تدريجًا؟ فإن كان فجأةً لزم الترجيح بدون مرجح والمعلول بدون علة، وإن كان تدريجًا لزم وجود تغيرات في الأزل، وهو محال. وإن قيل: إن الزمان - على فرض وجوده - هو الذي فعل ذلك، قلت: إن كانت قوة الزمان حدثت فجأةً أو تدريجًا، قلنا فيها ما قلناه آنفًا. (٢) إن كان سكون المادة جائزًا فلا توجد الحركات في الأزل لعدم وجود القدرة على تحريكها أزلاً، فما تقول في ذلك؟ قلت: إن كلامنا في المادة من حيث هي بقطع النظر عن أي اعتبار آخر، فهل يجوز عليها التحرك من حيث هي أم لا؟ فإن جازت الحركة عليها عقلاً من حيث هي جاز عقلاً وجود حركات في الأزل مع أن ذلك محال عقلاً، فكأن الحركات تجوز عقلاً ولا تجوز، وإن كان لا يجوز عليها عقلاً الحركة في الأزل كان سكونها واجبًا، ولم يوجد العالم. (٣) إنك تقول ما ملخصه: إن قدرة الله لا يمكنها أن توجِد الحوادث في الأزل، كما تقول: إن قدرة المادة لا تقدر على تحريكها في الأزل، فما الفرق بين القولين، وهل العالم يجوز عليه من حيث هو الوجود في الأزل، أو لا يجوز؟ قلت: إن العالم لم يكن له وجود مطلقًا في الأزل حتى يرد علينا هذا السؤال بخلاف المادة عندكم فهي مفروض وجودها أزلاً فهذا، الفرق بين القولين. ملاحظة: سمي المتحيز بالمادة - لغةً - لأنه ممتد ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور صدقي ... ... ... ... ... ... ... ٢٧ نوفمبر سنة ١٩١٩