مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به وترغيبًا فيه وهي: كلمة الناظم أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة، وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم. ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته، ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس. وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع، ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في عواء الفصيل في أثر أمه. وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع، وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه، والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك. والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها، والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك، وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم، وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى. ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب، لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه، ولا تمدح الإعراب بالكلام. ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) . ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر العربي: اليوم يبنى لدويد بيته ... ولو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدًا كفيته وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره. ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه. ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء. ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا. ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا! وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت (كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري، وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم. فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره، وصناجة عصره. ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا، وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون. وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛ فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا يقدر هو عليه في كل حين. وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا. وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر. وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا، وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب. وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان. ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو مواضع وهو لا يدري! وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة. ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به! على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها. وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا يرغب فيها إلا محتطب. أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: ٢٢٥) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف، وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام. وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي - يصف منهزمًا -: لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي، وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر. ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه. ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع، وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار هو ذلك الغواص على المعاني الذي يزعم ابن الرومي أنه أشعر مَن تقدم وتأخر، وهو القائل في شعره مفتخرًا: إذا ما غضبنا غضبة مُضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد، وأوسع من أن تُحد. ولا تجد الناظم وقد أصبح لا يحسن هذا الطراز إلا إذا كان جافي الطبع، كدر الحس غير ذكي الفؤاد، لم تجتمع له آلة الشعر وهو إذا كان هناك وجاء من صنعته بشيء، فإنما هو نظام وليس بشاعر. أما الفرق بين المترسلين والشعراء، فإن كان كما يقول الصابي: (إن الشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك، فذلك زمن قد درج فيه أهله، وبساط طوي بما عليه، ولم يعد أحد يحذر مؤاخاة الشاعر؛ لأنه يمدحه بثمن ويهجوه مجانًا، وإنما الفرق بين الفريقين أن مسلك الشاعر أوعر ومركبه أصعب وأسلوبه أدق، وكلامه مع ذلك أوقع في النفس وعلى قدر إجادته يكون تأثيره، فالمجيد من الشعراء أفضل من غيره في صناعة الكلام، وإنك إنما تزين النثر بالشعر، ولا تزين الشعر بالنثر. وفي الحديث الشريف: (إنا قد سمعنا كلام الخطباء وكلام أبي سُلمى، فما سمعنا مثل كلامه من أحد) ، وقال الشافعي - في كتاب (الأم) -: (الشعر كلام كالكلام، فحَسَنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، وفضله على سائر الكلام أنه سائر في الناس يبقى على الزمان، فينظر فيه) . هذا، وإن من الشعر حكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) .