للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

جاء في جريدة (الحاضرة) التونسية الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:
أخبرنا في العدد قبل هذا بوقوع الامتحان السنوي للمترشحين من طلبة الجامع
الأعظم لشهادة التطويع في العلوم التي حواها برنامجه، ووعدنا بإفاضة القول
والبيان في هذا المبحث العظيم الشأن، والآن وفاء بالوعد نقول:
إن ما للجامع الأعظم أم المدارس ودار العلوم الإسلامية، وكعبة الطالبين
بالمملكة التونسية وسائر الأقطار الشمالية الأفريقية من الأهمية يجعل كل فرد من
أفراد الجامعة الإسلامية دبت فيه بقية من الغيرة والحمية لا يفتر عن تحويل أنظاره
إلى ما فيه تعزيز شأنه، والاهتمام برفع مناره وتدعيم أركانه؛ ولذلك كانت دار
العلوم تلك محط رحال الأمة، ومتجه عناية الحكومات المتداولة على هذه الديار
حرصًا على ما يجتنيه شبان الطلبة من رياضها من الثمار المهمة، ولما أن الجامع
الأعظم أصبح من عهد قديم مستودع أسرار العلوم، وينبوع التحصيل في المنطوق
والمفهوم، فلا غرو أن اتجهت لعمرانه الأنظار، وأحله عقلاء الأمة وفطاحل
الرجال محلاًّ قصيًّا من الإجلال والاعتبار.
إذا تمهد ذلك نقول: لا مراء في أن المرء إنما يسعى جهده ويكابد الليالي
ويوالي الجد لغاية في النفس تنطبع في مرآة العقل، فتبقى به مدى الكد ثابتة
مرسومة يكرس لنيلها أوقاته، ويبذل في سبيل تحصيلها أنفس أنفاس حياته، فما
هي الغاية لطلبة العلم بجامع الزيتونة من يوم ولوجهم بابه وتراميهم على موارده
وأعتابه.
الغاية من ذلك ما جرت به سنن السلف من الجمع بين المنافع الدنيوية
والمثوبة الأخروية التي اقتضتها صبغة العلوم الدينية، ولهذه المميزات المتعارفة في
كل مدرسة خاصة بعلوم الدين كان أمراء هذا القطر يمدون الجامع برعاية من
صنوف العلماء القابضين على أزمة التدريس، ويفيضون عليهم من صنوف الإكرام
والعناية ما هو حقيق بهم وبأمثالهم، وما هو متعارف في سائر الممالك المنتظمة،
ولتلك الصبغة أيضًا يقتحم الشبان مشاق السفر وضروب التكاليف؛ ليكرعوا عن
مناهل التحصيل ما يعزز جانب العلم ويؤيده تأييدًا، ويوفرهم أجر الأخذ بناصره
وإعلاء مناره، ومن هذه الحيثية كان المنظور فيه في هذا التعليم الوجهة العلمية
بمعناها الأخص، أما المنافع الذاتية التي هي الشطر الثاني من تلك الغاية، فيراها
الطالب المنقطع لقراءة العلم من لوازم التحصيل والتهذيب، ومن الفوائد المنبعثة
طبعًا عن أشعة نور العرفان حتى أنه كان الفقيه البارع في علوم الشرع ليأبى أحيانًا
أن يقبل الخطة الشرعية - وأن كان من أهلها - حبًّا بتوسيع نطاق الاستكمال الذي
كان يراه غاية الآمال، ولكي لا يشغله عن ذلك شاغل الوظيفة، وهو الذي ينبغي أن
تتوجه إليه همم الرجال، وبذلك شعشعت أنوار العلوم، واستنارت بمشكاتها عقول
الطلبة لانحصارهم بين قراءة وإقراء، وإفادة واستفادة، فشيوخ الطلبة العليا من
أساتذتنا ما كانوا يأنفون من استكمال التحصيل في العلوم العليا كالفلسفة ومصطلح
الحديث والتفسير بالحضور لحلقات دروس جهابذة العلماء الأعلام، علمًا منهم أن
التقاعس عن الاستكمال نقيصة، والاعتماد على ما في الجراب خراب.
وهؤلاء طلبة الجامع الأعظم قد نقضوا بيومنا هذا تلك العهود، وخالفوا تلك
السنن حتى اضمحلت، أو كادت تضمحل آثار بعض العلوم، وأصبحت دروسها
دارسة كالتفسير والمعاني والبيان والأصول فما هو السبب؟ وإذا اتضحت الأسباب
والعلل فما هو الدواء لملاقاة هذه الحالة يا ترى؟
مَن أمعن النظر في أحوال الجامع الأعظم، وفي الأدوار التي تقلب فيها من
منذ عشرين سنة رآها منحدرة مع تيار التدلي المُشْعِر بتقويض أركان الهيئة العلمية
لأسباب، منها العدول عن ما جاء به نظام الجامع سنة ١٢٩١ القاضي بإقراء بعض
علوم استكمالية نافعة كالحساب والهندسة والتاريخ، وعدم التفات نظارة الجامع
لاستبقائها وإحيائها عملاً بنص القانون، الذي اقتضى إلحاقها بالترتيب العام لتحقق
النفع بها، فَعُدَّ ذلك التغافل قصورًا أو تقصيرًا من المنوط بهم إجراؤه، وعيبًا
وخللاً في مجموعة التعاليم والدروس، فكان ذلك من أسباب تغيير وتنقيح القانون
على معنى الإحياء لفنون اقتضت خطة الترقي مزاولتها، فلا يعقل في عصرنا هذا
أن تكون مدرسة كلية جامعة كالجامع الأعظم خلوًا من علم الحساب الذي يحتاجه
القاضي والفرضي والعدل حتى السوقة في معاملاتهم اليومية، فضلاً عن المناصب
الشرعية، فإذا فقد تدريسه بالجامع الأعظم الذي به يبتدئ الطالب دروسه غالبًا
وينتهي ضاعت عليه الفرصة لتحصيله، وربما تعطلت من أجل ذلك أو ضاعت
حقوق على أربابها كالماسح الذي لا يحسن المساحة إذا قسم أرضًا بين شركاء كانت
قسمته ضيزى غير عادلة، وعليه فنعت الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ
بالاستكمالية فيه تساهل يضيق المقام عن توضيحه؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وأنت على علم من أن الحساب والجغرافية والتاريخ من متممات تربية
الطالب وتفقهه في أمور جامعته، ولولا ذلك لما اندرجت بمعلفة العلوم (كذا) فهي
بضاعتنا ردت إلينا.
ومن تلك الأسباب اغترار الطلبة بالإجازات والألقاب، وظنهم أن مَن حصل
على إجازة التطويع على مقتضى القانون انخرط لا محالة في سلك العلماء، ولو
كانت بضاعته من العلم مزجاة، أو كان لا يبلغ العشرين من عمره، فإذا زُجَّ به في
حلقة الامتحان، وفاز بتلك الشهادة بين الأقران، نبذ القراءة ظهريًّا، فتأهب لأخذ
مركزه من الهيئة التدريسية بتغيير سيره: يمشي في الأرض مرحًا مع تقيف وبطر
وتعبس وتقطب وتكهن وترهب، كأنما خُلعت عليه من العلوم خلعة الوحي الإلهية،
فيأنف من إلحاقه بالطلبة؛ ولذلك لا يحمل نفسه الأمَّارة بالسوء على استكمال
التحصيل، الذي هو بمعنى الكمال كفيل، فإذا انتصب للتدريس كان يخبط خبط
عشواء فلا يفيد الجليس، ولا يذكرنا بما عُهد في أمثاله من نثر الدر النفيس.
والذي يتراءى لنا من التمعن في هذه الأحوال، هو أن الداعي لهذه الحالة
(أولاً) عدم كفاءة القرار الصادر في شروط التطويع والتدريس، فقد اقتضى أن لا
يحصل على رتبة التطويع إلا من حصل على ٤٥ عددًا في العلوم التي تُقْرَأ بالجامع
الأعظم، منها ٢٤ عددًا وهو ما يقارب النصف تعتبر للعلوم التكميلية، بحيث كانت
هذه الموازنة راجحة على العلوم المقصودة بالذات من نظام التدريس مانعة من النبغ
فيها، و (ثانيًا) ما اعتاده المترشحون من تلخيص - إن لم نقل حفظ - أبواب الفقه
والنحو بحيث تعلق أمهات المسائل بأذهانهم، حتى إذا ما صادفهم بعضها في القرعة
فازوا وشعشعوا كشعلة من النار تهب عليها ريح فتثوى بحيث كان ذلك النجاح
الكاذب من باب التغرير بالنفس مانعًا من الترقي إلى درجات الكمال التي هي غاية
الآمال.
أما المبحث الأول فبيانه أن نصاب الأعداد المطلوبة لقبول التلميذ في رتبة
التطويع صورته والحالة هاته:
٨ المقالة الفقهية إنشاء ... ... ... ٦ سؤال الحساب
٨ الدرس الشفاهي إلقاء ... ... ... ٦ سؤال الهندسة
٢ سؤال في الفقه ... ... ... ... ٦ سؤال الجغرافية
٣ سؤال في النحو ... ... ... ٦ سؤال التاريخ
٣ سؤال في الصرف ... ... ... ــ
٣ سؤال في البلاغة ... ... ... ٢٤
٣ سؤال في المنطق ... ... ... ــ
ــ ... ... ... ... ... ... ٥٤ جملة الأعداد
٣٠ ... ... ... ... ... ...
وأما المبحث الثاني فقد أنكر جمهور المشايخ المدرسين الواقفين على حقائق
التعليم تلك الطريقة التي لا تخول الطالب ملكة حقيقية في العلوم المطلوبة منه،
فالملكة عبارة عن مقدرة التلميذ على إدراك وفهم أو حل المسائل الفقهية أو غيرها
بكمال باعه، ومزيد اطِّلاعه ولا يخفى أن هذه الدرجة والنتيجة لا تُنال بالبراعة في
مجموعة العلوم وسائل كانت أو مقاصد، لا بحصر الجهد في دائرة معلومة من
المواد والآداب إذا صادفها الطالب قبل عالمًا متطوعًا، وإن أخطئ المرمى أجل
لفرصة أخرى فهو كراكب لجة إما وإما، ولا يخفى ما في هذه المخاطرة من
المخاتلة والتحيل لحمل النفس على غرورها والهيئة العلمية على التأخر، فالذي
ينبغي في ملاقاة هذه الحالة تنقيح القرار المشار إليه بأمور، (أولها) : أن لا يُقبل
في الامتحان من حصل على أقل من نصف الأعداد المشترطة للمقالة الفقهية،
ونصف العدد الذي جُعل للتدريس حيث كان عليهما مدار تحصيل الطالب (ثانيًا) :
أن ينقص من الأعداد المشترطة في الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ نصفها
واعتبار ذلك في سؤالات تقع في علم الأصول وعلم التوحيد، حيث كانت هذه
العلوم أعلق بموضوع التدريس، وأكثر مساسًا بالمقصود منه حتى لا تؤدي الإجازة
التي يحصل عليها التلميذ إلى جهله بما هو المقصود الأصلي من مساعيه، (ثالثًا) :
أن لا يُقبل في الامتحان من الطلبة إلا من أتى على كتب المرتبة الوسطى جميعًا
وهي الكتب المبينة بترتيب الجامع الأعظم الواقع سنة ١٨٩١: (رابعًا) : أن يناط
ترشيح الطلبة لهذا الامتحان بلجنة مؤلفة من المشايخ المدرسين العارفين بأحوال
التلامذة العلمية، وما تقتضيه الإجازة من شروط الأهلية والاستحقاق بحسب نظر
أولئك المشايخ وأمانتهم وديانتهم، وما تستدعيه من التحري الباعث للهمم على طلب
الكمال حتى يأمن ناموس التحصيل من آفات الصدف (خامسًا) أن يحجر على
من قبل في درجة التطويع الإقراء والانتصاب للتدريس ثلاثة أعوام في الأقل يتمكن
فيها من استكمال نصاب التدريس بالإقبال على علوم ربما لم يكن له إلمام بها، أو
من التطلع في العلوم التي لم يحصل منها إلا على معارف طفيفة، فيقوى ساعده
وتتوفر فائدة العلم ويتحقق النفع به حسًّا ومعنى.
هذا ما اقتضى المقام إيضاحه في هذا المبحث الدقيق والموضوع الجليل،
نعرضه على أنظار أرباب الحل والعقد، وأفهام السادة العلماء الأعلام، وأذواق
طلبة العلم على معنى خدمة ركاب العلم، وتعزيز جانب التحصيل الذي هو بكل
سعادة كفيل حرصًا على ناموس العلم وعمران الجامع الأعظم حتى يتخرج منه
رجال نهجوا على سنة السلف في اكتساب الكمال، ورفع منار المعارف في
الاستقبال، ونرجو من عنايتهم أن يرمقوه بعين الاعتبار، إعلاء لشأن الخدمة
العلمية في هذه الديار، وتخليدًا لجميل الذكر وحميد الآثار، انتهى.
(المنار)
إن ما يشكو منه عقلاء القطر التونسي بشأن جامع الزيتونة هو عين ما يشكو
منه علماء القطر المصري وغيرهم بشأن الجامع الأزهر، فَداء المسلمين واحد في
كل البلاد، أصلح الله الجميع، والتطويع هو الشهادة الابتدائية في عرفهم.