قبل أن يلبَس بونابرت تاج الإمبراطورية كانت حجته القوية لدى الشعب الفرنساوي: دفاعه عن الحرية العمومية، وخدمة المبادئ الجمهورية. غير أنه بعد ارتقائه العرش الإمبراطوري لم يألُ جهدًا في محو تلك الحرية، ودوس تلك المبادئ الدستورية. وهذا شأن الإنسان في كل آن، يطلب الحرية مرءوسًا، ويكرهها رئيسًا، يستنجد العدالة مظلومًا، وينبذها ظالمًا، إلا مَن وفقه الله وقليل ما هم. لقد شاعت أنباء المشاكل السياسية الداخلية التي قامت في فرنسا إثر مسألة دريفوس، وقضية زولا، وما قاساه اليهود فيها من الإهانة والاضطهاد وسوء المعاملة، ولا يحسب القراء أن هذا الاضطهاد قد نشأ عن تعصب ديني في الأمة الفرنسوية، وكيف وهي أقرب إلى وهن العقيدة منها إلى التعصب الذي مثاره الغلوّ في الدين. أما مصدر هذا الاضطهاد: فالتعصب الجنسي والحسد الذميم، أثارهما في صدور الأمة فئة من أرباب الجرائد المعادين لليهود الطامعين بما في أيديهم من خزائن الأموال. على أن تلك الحوادث القبيحة لو جرى مثلها بين الشرقيين لطبق السماءَ صراخُ تلك الجرائد، وسلقت الشرقيين وآدابهم بألسنة حداد، وأقلام أنفذ من السهام. بل لو كانت تلك الجرائد في بلاد تكون فيها ضعيفة الجانب ضعف اليهود في فرنسا - لكانت أسرع الناس طلبًا للحرية المطلقة، والعدالة العامة للبشر على اختلاف أجناسهم , وهذا معنى قولنا: يستنجد الإنسان بالعدالة مظلومًا وينبذها ظالمًا. ومن الغريب أن داء الجرائد الإفرنسية قد سرى إلى بعض الجرائد المصرية. فقامت تُصْلِي اليهود نارًا حامية، وتأخذ عليهم في مهارتهم في الكسب، وتفننهم في أساليب الربح، أما نحن فرأينا أن الحرية العمومية ليست مختصة بفريق دون فريق. فإن التمدن الصحيح، والعدالة الحقيقة يفرضان المساواة المطلقة بين جميع بني الإنسان في المنافع العمومية. والعمل والكسب بالطرق الشرعية فضيلة من الفضائل الاجتماعية وللإنسان أن يعمل ويربح بالطرق المشروعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومن يعترضه في ذلك فقد اعترض مبدأ الحرية العمومية. ولذلك لا ترى عاقلاً من عقلاء الأمة الإفرنسية راضيًا عما نال اليهود في فرنسا من الاضطهاد قديمًا وحديثًا. وقد سمى ذلك بعض كبار فلاسفتهم مرضًا من الأمراض العارضة، وأمل ذهابه بتقدم المدنية والآداب العمومية. فالمأمول أن لا يُدْخِل الكُتّاب في هيئتنا الشرقية عاملاً جديدًا للنزاع والشقاق، فحسبنا ما لدينا من تلك العوامل القبيحة، وإنا الآن أحوج إلى عوامل الاتفاق منا إلى عوامل الشقاق. وعسى أن يستفيد إخواننا الشرقيون - لا سيما المسلمون منهم - بما نقصّ عليهم من أحوال الأمم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: ١٣) . اهـ ما اخترناه من العدد الثاني.