بقية الكلام في رابطة الدين إن الذين ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا، يتألف هداهم الذي يدعون إليه في كل جيل وكل قبيل من ركنين مشيدين على أساسين متينين: الأول: توجيه النفوس الإنسانية إلى عالم الغيب؛ لأن هنالك كمالها المعد لها بحسبها. وأساس هذا الركن أن النفس الإنسانية - هذه التحفة البدعية التي لم تزل من الأسرار الغامضة - لم تخلق عبثًا. والثاني: ترقيق عواطف الناس بعضهم على بعض ليخف بتواخي الكثيرين بعضٌ من التعادي القديم العمومي الوحشي. وأساس هذا الركن أن كمال كل نفس - في عالمي الشهادة والغيب بغيرها سواء فضلت إفادتها للغير أو فضلت استفادتها أو استوتا. ثم إن كل ركن من هذين الركنين مبني من أجزاء كثيرة. وهذه الأجزاء تكون بحسب الأدوار والأجيال. فلهذه العلة تختلف صور الأديان وجوهرها واحد. هذه الأجزاء نسميها وسائل. ولاختلافها بحسب الحال فيما يدعو إليه المتعددون تعددت الأديان باعتبار تعدد الدعاة وباعتبار تخالف الوسائل. فأما الراسخون في هذا العلم فما زالوا ولا يزالون يعظمون أمر ذلك الجوهر الذي يهدي سبل السلام ويخرج من الظلمات إلى النور. وأما البعيدون عن العلم فلا يستغنون عن قائد يقودهم في مناهج تلك الوسائل فالبشرى لهم إن كان قائدهم مصلحًا مخلص القلب، والويل لهم إن كان قائدهم مفسدًا، وبالجملة فشأن هؤلاء أن يظنوا أن الوسائل روح الدين، والتذابح في سبيلها نهاية عمل الطيبين الطاهرين، وغاية الزلف عند رب العالمين. ولتأييد ما ذكرناه آنفًا من وحدة الجوهر لزم أن نورد شهادات من كتب الأديان، ويجدر أن نقدم بين يدي ذلك قولنا: (إن هذا الذي علمناه بعد قراءة أسفار الأمم، وصحف أجيال الشعوب قد أوحي لنبي أمي لم يقرأ سفرًا، ولم يخطّ سطرًا) فما أعظم تلك المنحة (عليه الصلاة والسلام) . فمما أوحي إليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ (علم على اليهود والنصارى) تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (هي) أَلاَّ نَعْبُدَ (أي: أن لا نرجو ولا نخاف شيئًا من الأشياء رجاءً يقارنه حب واحترام، وشوق وهيام، وخوفًا يقارنه هيبة وإعظام، وخنوع واهتمام) إِلاَّ اللَّهَ (الصانع المدبر مَن به قوام الكوائن وإليه يعود نظامها) وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً (أي: بمقام الأرباب من السلطة المطلقة) مِّن دُونِ اللَّهِ (بل لله وحده السلطة المطلقة والكمال المطلق والقدس المطلق) } (آل عمران: ٦٤) ؛ أفلم تروا أن قوله: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) يفيد ما نحن بصدده من وحدة جوهر الدين. ومما أوحي إليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (علم على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في زمانه) وَالَّذِينَ هَادُوا (علم على أتباع موسى) وَالنَّصَارَى (علم على أتباع عيسى) وَالصَّابِئِينَ (علم على طائفة كانوا ببابل) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً (ما يصلح لسعادة النفس) فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ (كل على حسبه) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (من اختلاف النسبة) وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (على فوات أجر العمل) } (البقرة: ٦٢) . ألم تروا أن ذكر الذين هادوا والنصارى والصابئين مع الذين آمنوا بمحمد، ثم الوعد بالجزاء الذي ينفي الخوف والحزن لدى الإيمان بالغيب والعمل الصالح يفيد أن هذا هو الدين المطلوب من كل لا الانتماء للأسماء. ومما أوحي إليه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ (أي: التوراة والإنجيل) وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (أي: شاهدًا) فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (أي: ظنونهم بأن وسائلهم لا تنسخ) عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (أي: في الوسائل) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (أي: متفقة المناهج في السلوك لبلوغ الركنين المقصودين في الدين) وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ (أي: ليظهر استعداد كل منكم بحسب زمانه ومكانه) فِي مَا آتَاكُمْ (من آلات العلم والعمل) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ (أي: استعملوا الآلات فيما خلقت من أجله لتكون لكم العلوم النافعة والأعمال الرافعة وهي الخيرات بحذافيرها. وهذا الخطاب حنان وتفضل على الفطرة ومنح لها السعة في القابلية) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (أي: إلى الموقف الغيبي الذي تنال فيه نفوسكم ما أعتد لها بحسب ما قدمت في الموقف الحسي) فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (أي: ينكشف لكم هنالك ما حجبه الحس عنكم هنا) } (المائدة: ٤٨) . وشواهد هذا المعنى من القرآن المجيد كثيرة. وللاختصار نكتفي بما قدمناه ونكتفي أيضًا بشاهد واحد مما في كتب العهدين (القديم والجديد) ، فإليكموه جامعًا هذا المعنى المجمع عليه في العهدين، سُئل المسيح: (يا معلم أي وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحب الرب من كل قلبك ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) (متّى، ص ٢٢) أو لم تروا كمال المطابقة بين ما عبرنا عنه هنالك في وصف الركنين وبين ما عبر به هنا عنهما. وإننا قد كتبنا هذه الأدلة للمتدينين الذين قد يُعِيرون البال لأمثال هذا المعنى أما غيرهم فسوف يقولون: سواء علينا أصحت هذه الدعوى أم لم تصح فإننا قوم ننظر للواقع، فنأخذ منه نفس الأمر. ونحن نقابلهم فنقول: سواء علينا أذعنتم أم لم تذعنوا فإننا قوم ننظر للجوهر، ولا نعبأ بالصور. وها نحن أولاء نبين لكم كيف تغايرت الوسائل حتى تغايرت صور هذه الأديان: إن فروع كل قانون من قوانين العالم في الأخلاق وفي نظام الاجتماع تكون بحسب الجيل والقبيل وقد يحدث في فهم المخاطَبين بها تفاوت فيكون البون بين قانون وقانون. وهذه أمثلة ذلك: (١) في بعض الأجيال سُنَّ عمل شيء لتأليف القلوب. وفي أجيال أخرى كان ذلك العمل من مفرقاتها. (٢) في بعض الأجيال شرع عمل لضرورة، وفي أخرى لم تكن الضرورة تلك. (٣) خوطب قوم برموز فأخذها آخرون على ظاهرها، وخوطب قوم بصريح فقالوا: هذه رموز! ! ! (٤) رغب قوم بسعادة الحس وأرهبوا من شقائه، وآخرون رغبوا بسعادة الغيب، وأرهبوا من شقائه، وشوق آخرون للأمرين فهام الأولون بوسائل الملك والغلبة على الأمم. وهام التالون برفض النعيم في هذا العالم وعدم المبالاة بجحيمه. واعتدل الآخرون فطلبوا نصيبًا من ههنا وههنا. واشتغلوا بكلتا الوسيلتين فكيف تتساوى الفروع ههنا؟ فأنتم ترون من هذه الأمثلة وما ستقيسون عليها أن الوسائل ضروري فيها التغيير وما كان تحت التغيير فهل يكون الروح واللب؟ وكثيرًا ما تتفق بعض الأجزاء بالمعنى ويفترق دوالها ما بين صريح أو رمز كالتعبير عن كون الخالق خلق الخلق أضدادًا بأن العالم نشأ من الظلمة والنور أو أن الظلمة نشأت من النور، وكالتعبير عن كون الفاطر فطر الإنسان فطرة بديعة وآتاه فضلاً من العناية (كأن سخر له الأرواح الساريات بطونًا، والأجسام الجاريات ظهورًا، والعادنات عدنًا) بأنه سواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وخلقه على صورته، واستخلفه في أرضه، وعلى هذين المثالين قيسوا ما اختلافه بين صريح وكناية، وعبارة وإشارة، ولو شئنا لسردنا ههنا من الأمثلة مئات، تنتفع بها الفئات، فليستنبع مَن قرعت سمعهم هذه الإشارات، ينابيع ذكائهم الفائضات. والغرض من كل ذلك أن الذين يلهمون الحكمة الصافية لا يعدمون ما يبينون به للناس دينهم الذي أحبوه من فم شخص وكرهوه من فم آخر، وهو واحد. ذلك الدين الواحد هو ما أمر به المرسلون من إسلام النفوس إلى بارئها وتصحيح الإرادة وتوجيهها نحو الكمال الذي اعتد للفطرة أن تناله {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: ٣٠) ، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: ١٩) ، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء: ١٢٥) ؛ ولم تكن ملة إبراهيم إلا ملة الفطرة، فقد سمعتم أنه عاف تلك الأوضاع التي كانت في قومه (الصابئين) وهاجر من ديارهم ولم يكن في ملته تلك الوسائل والأجزاء التي اقتضاها من بعد ذلك زمان موسى ثم لم يقتضها زمان عيسى ولا زمان محمد (عليهم السلام) . فيالله كم من فضل ومنة علينا لهادينا الرؤوف الرحيم، ومرشدنا الرسول الكريم، الذي أنقذنا من الضلة؛ إذ دعانا إلى هذه الملة، ملة الأنبياء كلهم كما أوحي إليه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) ؛ وفي آية أخرى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣٦) . أما البعيدون عن العلم فهم عن هذا معرضون، يظنون المشاحة في الكلم والأسماء والكز على الوسائل والأجزاء، لب الغرض وروح الدين، وغاية المطلوب من الطيبين الطاهرين، ونهاية الزلف عند رب العالمين، ولو كان كذلك لما غيَّر الأنبياء شيئًا من وسائل مَن قبلهم؛ إذ قد أمروا أن لا يتفرقوا في الدين، فهل هم يخالفون الوحي؟ كلا، أم أوحي لكل منهم دين على حدة؟ كلا، وإنما أوحي لكل منهم شرعة ومنهاج، ووضع لكل منهم في ترقية الناس معراج، وبين الدين والشرعة فرق لغوي واصطلاحي، فاسألوا أهل العلم إن لم تعلموا، وقد حررنا لكم آنفًا ما يفيدكم، هذا إن كنتم تذكرون. وإنا لسائلوهم: هل لب الدين تلك المسائل التاريخية التي وقعت كما وقعت ثم اختلف التعبير عن كيفية وقوعها؟ هل غاية ما يتوقف عليه رضا الباري وغضبه القول بأن زيدًا أهانه عمرو أو أنه لم يهنه عمرو، وإنما أهانته يد سرية، ورأى الناس يد عمرو فحكموا أنه هو الذي أهانه ولكنهم في الحقيقة واليقين لم يصيبوا في حكمهم؛ لأن الذي أهانه يد سرية لا يد عمرو هل هذا كل الدين؟ وسائلوهم: هل منتهى الدين أمور تتعلق بالعادات البشرية من قيام وقعود، وسهر وهجوع، وشبع وجوع، وذهاب ورجوع، وإقامة ورحيل، وإعلاء وتنزيل، وأمور أخرى تتعلق بالأديان، من لحم وشعر وظفر وأسنان، أو هذا هو الدين أو هذا كل الدين؟ وسائلوهم: هل مبلغ زلف المتدينين أن يفني بعضهم بعضًا إن استطاعوا أو يقبل المغلوب ما قبل الغالب. إذن أين حرية التفكر. إذن أين الفضيلة للمكره فيما يأتيه بظاهره وينكره بباطنه؟ هنالك أسئلة كثيرة يسألها من ظنوا تلك الظنون، وتربص بعضهم ببعض ريب المنون، أما نحن فسيسألنا سائل من أهل الملل قائلاً: هل أنت تنكر الوسائل مطلقًا؟ وهل الوصول إلى ذينك الركنين يكون بدون الوسائل؟ وهل أنت غير معتبر لوسائل دين من الأديان وبهذا الاعتبار ألا ترد غيرها؟ وحينئذ فما ثمرة تطويلك هذا الذي لا يغنيك مثل غيرك عن تفنيد الذاهبين إلى وسائل شرعة أخرى؟ فنقول لهؤلاء: إنه من المؤكد أننا نقبل الوسائل التي في دين محمد (عليه السلام) ؛ لأنها قسمان: (١) قواعد عامة شرعية يمكن البناء عليها في كل زمان ومكان. و (٢) قواعد عامة أدبية معينة ومساعدة للقواعد الشرعية. ومن شاء أن يسألنا عن قاعدة منها لا يقبلها العقل فليفعل.. ولكن قبولنا ذلك هل يمنعنا عن تذكر القاعدة العظمى التي يبنى عليها الإخاء الكبير، أم يأمرنا به وبالتذكير؟ إني لما رأيت الناس (منهم) من نسوا الجوهر الذي منه وإليه كل الأديان، ومنه وإليه صلاح الإنسان، وظنوا أن الخير كله والدين في مخالفة غيرهم في كل شيء [*] و (منهم) من اختلفوا في فهم وسائلهم فانقسموا على أنفسهم. ومنهم من أقاموا ناسًا منهم مقام المرشدين الذي يعتقدون عصمتهم فعبثوا بالمقاصد والوسائل عمدًا أو خطأً. و (منهم) من ليس له من الأديان إلا النسبة التي أصبحت بمقام النسبة للقوم - لما رأيت هذه الأحوال الضارة التي ليست من الأديان في شيء نويت بتطويلي هذا تذكيرًا؛ {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: ٣٧) ، بالجوهر، وتفنيدًا لمن أقاموا أقل الوسائل اعتبارًا مقام المقاصد العظمى على حين أن الشعوب تشابهت في الحاجات المادية والأدبية، وتشابهت في عدم العلم والعمل بأديانهم المقاصد والوسائل. فمن تذكر هذا التذكر يرجى به أن يتخذ نبراسًا يخرجه من الظلام، ويهديه سبل السلام، وإن قبل هذه الذكرى عاقل من أ، ثم ١ من ب ثم ١ من ج، ثم ١ من د، فهذه هي الثمرة المطلوبة لأن (١ + ١/٢)) . وسيقول بعد هذا من يدعون حب الحكمة من الذين لم يرتبطوا بعروة من عرى الأديان كلها: إن هذا الذي حررته إلا شعر أوحاه حب المألوف؛ وإن جنى الناس من الديانات إلا التذابح، فيالله العجب هل حدث التذابح يوم حدثت الديانات أم هي سنة البشر من قبل؟ ألم يكن من ثمرات الأديان تخفيف ذلك التذابح القديم؟ ألم تحشر الشعوب الكثيرة المتغايرة في الألسنة والألوان المتباعدة في العادات والبلدان، تحت رايات قليلة هن رايات الأديان؟ وإنا لسائلوهم: لو لم تكن الأديان التي تدور على الخوف والرجاء من القوة الغيبية، والعدل والإحسان في البرية كيف كان المرء يصنع إذا حفت به المصائب، وأنهكته النوائب، أيجتلب بيده لنفسه المنية؛ لأنه رأى الحياة قرارة الآلام الحقيقية، وعش الآمال الوهمية، وكيف بيده يذهب الحياة وهي حبيبته وإن عضته، ومُناه وإن مَنَّتْه فعَنَّتْه؟ أم يصبر تحت ما ثقل من أعباء الحياة صبر الحمار الذي لا غرض له في المحمول، ولا أمل له بغير العفص المأكول؟ وكيف يصنع المرء إذا لاحت له رغائب فيها للغير مطالب، أيرعى الغير وهو على أن يبيده قدير، وبأن يؤثر نفسه جدير، أم يبيده في الهوى، ويفعل الآخر هكذا حتى لا يبقى سوى، أم للرغائب حد تقف النفس لديه، أو مطلوب أسمى تلتفت إليه؟ أهذا شرعكم - أيها الماديون - أن يبيد القوي الضعيف أنَّى ثقفه، ويشيد على الجنايات والخيانات شرفه، فكم أخطأ الناس إذ لم يتبعوا فيكم شرعكم، ويذرعوا لكم ذرعكم، كأن لذتكم أن لا تكون الحكمة التي بها نظام العالم التي من أجلها رحمكم مَن هم أقوى منكم وتركوكم بمواهبكم كلها تتمتعون، أفهذا جزاؤكم للحكمة أن تغيروا عليه بخميس كثيف من التوهيمات الشعرية التي تريدون أن تهدموا بها قواعدها وتحرموا الناس فوائدها؟ أفأمنتم من أنصارها الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة؟ ساء ما تظنون، وبئس ما تصنعون، فتفكروا لعلكم ترشدون، وتذكروا لعلكم تشكرون. خلاصة: والخلاصة من كل التفصيلات المتقدمة أن إقبال الجماعات الكثيرين، على دعوة هادٍ من الهداة المطهرين، معراج من معارج الإنسان في العلم بعد الجهل، والقوة بعد الضعف، فالفضيلة التي تكره الضر، وتنهى عن الشر، تبتهج نفسها بهذه الأم التي تربى في حِضنها أقوامًا تباعدوا في الصور. كما تباعدوا في الكور، حتى صاروا يتقاربون في القلوب، ويرحم الغالب منهم المغلوب، والسياسة التي تهوى القوى، لتوزن كل جماعة مع السوى، تقرعينها بهذه الأم التي تربي لها حامية، لا تسأل يوم الواقعة ما هيه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.) ((يتبع بمقال تالٍ))