للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجنسية والدين الإسلامي

البداوة في النوع الإنساني سابقة على الحضارة، ولكن الإنسان مدني بالطبع،
ميال للاجتماع بالفطرة، وقد كان مبدأ اجتماعه تكوّن الشعوب والقبائل بالعصبية
النسبية، فكانت هي مناط الجنسية، ثم صعد النوع في سلم الارتقاء الاجتماعي،
فاتسعت دائرة جنسيته، فكان مناطها اللغة، وكما كانت تتألب القبيلة التي يجمعها
نسب واحد، وتزحف لقتال قبيلة أخرى من أهل لغتها لأقل عدوان يقع بين أفراد
القبيلتين، صارت تتألب القبائل الكثيرة التي يرتبط بعضها ببعض برابطة اللغة
ويلتحم بلُحمتها، على قتال الأجناس التي تجمعها لغة أخرى غير لغتهم، وبهذه
الجنسية تكونت الأمم، فكان منها العربي والتركي، والفارسي والهندي والصيني
إلى غير ذلك.
ما كانت عناية الله تعالي بالإنسان لتقف به عند هذا الحد من الاجتماع
والتمدن، بل أعطاه سلمًا ليعرج عليه إلى الأفق الأعلى من المدنية وسعة دائرة
الاجتماع، وهو المُعبر عنه بناموس الارتقاء العام، ولما استعد بمقتضى هذا
الناموس لامتزاج بعض أجناسه ببعض، ومؤاخاة العربي للعجمي والرومي
والفارسي، منحه رابطة أعلى من جميع روابط الاجتماع، رابطة تضم متفرق
العناصر وأشتات الأجناس، وتصوغها فتجعلها عنصرًا واحدًا، رابطة يمكن لكافة
البشر أن يكونوا بها أمة واحدة، وإخوانًا على سرر متقابلين، هذه الرابطة هي
الديانة الإسلامية، التي بُني أساسها على الوحدة في الاعتقاد، والتهذيب والأحكام
القضائية والمدنية التي يخاطب قرآنها البشر كافة بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) ويخاطب أهل الكتاب خاصة بقوله:
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤) .
ما كان ليعزب عن شارع هذا الدين - وهو عالم الغيب والشهادة - أن الناس
لا يعتنقونه مرة واحدة، وأن هذا موجب للاختلاف والتفرق، وهو إنما وضع للوفاق
والتوحيد، ولذلك جعل الرابطة ذات طرفين، طرف يمكن أن يضم جميع البشر على
اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، وهو كونهم يحكمون بشريعة واحدة عادلة، تساوي بين
مؤمنهم وكافرهم، ومليكهم وصعلوكهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم،
وهذا الطرف هو طرف الجامعة الدنيوية، ويمكن لأهله أن يعملوا لإحراز سعادة الدنيا بالاشتراك، حتى يصلوا إلى الغاية التي في استعدادهم الوصول إليها،
والطرف الثاني هو طرف الجامعة الروحية الأخروية، وهو يؤلف بين الآخذين بهذا
الدين تأليفًا روحيًّا زائدًا عن ذلك التأليف الجثماني تأليفًا جرثومته وحدة المعتقد
والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغذاؤه الأخلاق الفاضلة،
والعبادات الكاملة، وثمرته الإخاء الصحيح، وجعل المؤمنين في تضافرهم وتعاونهم
على البر والتقوى كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو
تداعى له سائر الجسد.
لا تحقرن أمر الرابطة الأولى، رابطة الشريعة العادلة، فهي على كونها أعم
من رابطة اللغة وأشمل، قد كانت أقوى وأكفل، كان أبناء اللغة الواحدة والدين
والواحد يفرون من هجير ظلم قومهم، المشاركين لهم في جنسيتهم، ويستظلون بظل
العدل الإسلامي الظليل، حتى أن الروم في بلاد الشام لما رأوا في أثناء الفتوح وفاء
المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم، صاروا عونًا لهم على قومهم، وعيونًا للمسلمين
عليهم، يتجسسون لهم الأخبار، ويوقفونهم على الأسرار.
جاء في رسالة (الجزية) التي نشرت في المجلد الأول من (المنار) أن أبا عبيدة
رضي الله عنه لما أراد أن يشخص من حمص إلى دمشق لتألّب الروم على المسلمين
وجمعهم لهم، أمر حبيب بن سلمة أن يرد على القوم ما كان أخذه المسلمون منهم من
الجزية، فرد عليهم ذلك، وأفهمهم بأن الأمير أبا عبيدة يقول: ما كان لنا أن نأخذ
أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي أن أخذ المال هو بإزاء الحماية، وقد عجزوا عنها في
ذلك الوقت لاضطرارهم إلى الخروج من البلد، فردوا عليهم المال) فقال أهل
البلد: (ردكم الله إلينا، ولعن الذين يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم
ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) هذه
الرابطة مناط للجنسية، اتخذه الأوروبيون أحبولة لصيد الأمم والشعوب التي
ثقلت عليها وطأة ظلم حكامها، فنجحوا مع بُعدهم عن العدل الصحيح والمساواة اللذين كان عليهما المسلمون عندما كانوا متمسكين بدينهم وحاكمين بشريعتهم، ولكن
هذه الرابطة مهما كانت وثيقة وقوية، فهي لن تبلغ مبلغ رابطة وحدة الاعتقاد
بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها، ولذلك ترى المسلمين يتململون من
سلطة الأجنبي عن دينهم، وإن كان عادلاً، ويودون الفرار من ظل عدل، ولو
لفحهم مثل لهيب جهنم من ظلم المتحدين معهم في الاعتقاد والمذهب، وبهذا لم يكن
للمسلمين جنسية في غير دينهم، ولا يخضعون باختيارهم سرًّا وجهرًا إلا لحكومة
شوروية تحكمهم بشريعتهم، وتقيم حدودها العادلة فيهم، مقتفية آثار خلفائهم
الراشدين، بحيث يكون لديها الخليفة والصعلوك في الحق سواء، لو اهتدت لهذا الأمر
أية حكومة إسلامية، ووفقت للعمل به مع الحكمة، من غير زيغ ولا زلل،
لأمكنها أن تجمع كلمة المسلمين في مدة قصيرة، بل لو أن دولة حكيمة كإنكلترا
اعتنقت الإسلام وأقامت شريعته، لتسنى لها امتلاك باقي الشرق وإفريقيا كلها.
عرف الأوروبيون من المسلمين ما ذكرنا، فانتفعوا بمعرفتهم واجتهدوا
في إزاحة القابضين على أزمَّة الحكومات الإسلامية عن صراط شريعتهم،
وأدخلوا عليهم القوانين الوضعية؛ فنفرت قلوب الرعايا منهم وكرهت سلطتهم،
حتى صارت تخرج عليهم. واجتهدوا في حل عروة الرابطة الدينية من نفوس
المسلمين باسم المدنية الجديدة التي تسمي التمسك بالدين تعصبًّا، وتمثل هذا
التعصب بمثال مشوه قبيح ينفث السموم في الأرواح فيقتلها، ويعترض دون شمس
العلوم والمعارف فيحجب أنوارها [١] وما كان الأوروبيون ليتمكنوا من خلابة
المسلمين بأنفسهم فيجعلوا اسم التعصب (بمعنى التمسك بالدين) بينهم سبة
وعارًا، ويتخذوا هذا ذريعة لفصم عروة الدين وتوهين رابطته العامة، ولكنهم
تمكنوا من فتنة بعض المسلمين الجغرافيين [٢] بمدنيتهم، واتخذوهم أعوانًا لهم على
كل ما يقصدونه من المسلمين. يردد المصريون الشكوى مع التوجع والتألم من
المستر دنلوب سكرتير المعارف العام، القابض على أزِمَّة المدارس كلها حيث يجتهد
في محو معالم اللغة العربية، وطمس آثار الديانة الإسلامية من المدارس، وجعل رسومها مواثل ودوارس، ولا لوم على من يخدم دولته وملته بالصدق والنشاط،
وإنما اللوم والتثريب - بل اللعن والتأنيب - على الذين رضوا بأن يكونوا معاول في
يديه لهدم بناء جامعتيهم الدينية واللغوية، وهم يعلمون أن هدمهما يعدم
جنسيتهم بالكلية، وفي هذا محو الملة والأمة من لوح الوجود، هؤلاء هم الذين
يجب أن يحفظ التاريخ ذكرهم محفوفًا بالخزي والمقت، ملوثًا بقذر الخيانة والغش،
حيث يحفظ للمستر دنلوب في خدمة ملته اسمًا سميًّا، ويرفعه في صدق وطنيته
مكانًا عليًّا، ويوجد في غير مصر كثير من هؤلاء المارقين.
فعلى كل مسلم حقيقي أن يسعى جهده في توثيق الرابطة الإسلامية الروحية
بين كل من ينتسب للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بأن يعرف أهل كل بلاد
تاريخ أهل البلاد الأخرى، وشؤونها الغابرة والحاضرة، وأن يكون لهم طرق
للتعارف، وأمثل هذه الطرق الجرائد، والاجتماع في موقف الحجيج العام، ومما
يقضي بالأسف واللهف أن الحجاج بعد ما يرجعون من أداء الفريضة يقضون
أعمارهم في الحديث عن سفر الحج، وما لاقوه وجرى لهم فيه، ولا نسمع منهم
خبرًا عن أحوال إخوانهم من أهل الأقطار الأخرى الذين ضمتهم وإياهم عرفات
حتى كأنهم لم يشهدوا ذلك الموقف الشريف الذي لم يسم بهذا الاسم (عرفات) إلا
لأنه موقف التعارف بين الشعوب والقبائل، واحسرتاه، فقدنا كل شيء، حتى
معاني أركان ديننا الكبرى، وأسرارها وفوائدها، ومن الضروري في هذا أن يكون
منا أمة يدرسون اللغات التي ينطق بها إخواننا في كل قطر، أليس من البلاء أن
لغةأوردو التي ينطق بها ثمانون مليونًا من المسلمين في الهند لا يوجد تركي في
الرومللي أو الأناضول ولا عربي في العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب يتعلمها
ليتعرف بها شؤون أولئك الملايين من إخوانه؟ ونرى الجم الغفير من دعاة
النصرانية يتعلمون هذه اللغة، وسائر لغات العالم لأجل دعوة أهلها
إلى دينهم.
متى عرف بعضنا تاريخ بعض، وتعارفنا بما يمكن من طرق التعارف،
وتبادلنا الأفكار بالجرائد، يتسنى لنا حينئذ أن نتفق على وحدة التربية والتعليم،
وكمال هذه الوحدة إنما يكون بتعميم اللغة العربية، وعلى وحدة الاشتراك في
المشروعات والأعمال النافعة، وبهذين الوحدتين تكون (الجامعة الإسلامية) التي
أكثر من ذكرها الكُتاب، وبحثوا فيها من وجوه كثيرة غير محررة، فتضاربت
أقوالهم، وتناقضت آراؤهم.
قلنا: إن الجامعة الإسلامية لها طرفان، أحدهما يضم المعتقدين بالدين
الإسلامي، ويربطهم برابطة (الأخوة الإيمانية) حتى يكونوا جسمًا واحدًا، وقد
انحلت هذه الرابطة، ولكنها مازالت، ولن تزول، والطريق إلى توثيقها وشدها
هو ما قرأت آنفًا، وثانيهما يربط المسلم وغيره من أرباب الملل برابطة الشريعة
العادلة، التي يحكمون بها جميعًا بالمساواة، وقد طرأ على هذه ما حل عقدتها في
بعض الحكومات، وما أزالها في حكومات أخرى، وعلى كل حال ينبغي للمسلمين
في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة
إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران، ويفجر فيها ينابيع الثروة، هذا ما
يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان، وأما
الحكومات الإسلامية، وفي مقدمتها الدولة العلية، فيجب عليها أن تساعد رعاياها
على هذه الأعمال، وتسهل لهم سبلها، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات
الداخلية، والاستعدادات الحربية؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة،
وأرى من الضروري لصيانة الدولة العلية من طمع الطامعين أن يسلك مولانا
السلطان الأعظم (أيده الله تعالى بروح منه) في جميع الولايات، الطريقة العسكرية
التي سلكها في طرابلس الغرب، وهو جعل كل فرد مستعدًّا للقتال إذا دخل العدو
بلاده، كما هو الواجب في الدين الإسلامي، وأن لا يحرم ولاية من الولايات من
فرسان الألايات الحميدية؛ فإن استعداد الدولة نفسها مهما بلغ، لا يمكن أن تقاوم به
أوروبا المتحدة عليها باطنًا، وإن اختلف دولها ظاهرًا، وأما استعداد الرعايا
لمصادمة كل قوة أجنبية تدخل بلادهم حتى الفناء، فهو يمنعهم من كل عداء.
هذا هو رأينا في تكوين الجامعة الإسلامية بالطرق الممكنة، ولا سبيل لدول
أوروبا إلى الاعتراض على شيء من ذلك، أما الإصلاحات الداخلية، فأهمها جعل
الحكومة شوروية، والعدل والمساواة بين الرعية، وانتقاء جميع الموظفين من
الأكْفاء المستعدين، وقد شرحنا رأينا في الإصلاح في مقالات سابقة، فلا نعيده
(ومن يتق الله) مسترشدًا بسننه الكونية وشريعته السماوية (فهو حسبه)
وكافيه ما يهمه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: ٣) .