هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) . هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه. وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن مقاصد عمر - رضي الله عنه - التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار منها. كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [١] ، وأبنا ثمة وجه الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية، وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها المقريزي قال: كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء. ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة - عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين. فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران: الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة هذه الأخبار إلى عمر كونه كان - رضي الله عنه - قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء في الشرع. وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن. هذا هو السبب الأول , وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية، وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله. على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة لبقية الأقوام [٢] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب، وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) ولأن القرآن نطق بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: ٨٢) ولهذا سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم : ١-٢) الآية، فلتراجع في محلها. هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب إظهارًا لبراءة عمر - رضي الله عنه - مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام للمسيحية. والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض , ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس , فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ