(تتمة ما في الجزء الأول) (مدرسة عليكره) أبدأ من شكر مدرسة عليكره ومديري شئونها وطلابها بذكر الشيخ الجليل والمولى النبيل النواب وقار الملك بهادر مولوي مشتاق حسين، سكرتير (عمدة) المدرسة وأحد زعماء مسلمي الهند وأركان النهضة العلمية فيها، وبالعالم الأصولي النحرير، والمحامي الشهير المقبل على شأنه، الخبير بأهل زمانه آفتاب أحمد خان، رئيس مؤتمر التربية والتعليم في الهند، وبالعالم العامل المهذب الفاضل مولوي محمد حبيب الرحمن، رئيس الشرف للشعبة الدينية في المدرسة، ثم بسائر العلماء الأعلام المدرسين، ووجهاء البلد المقدمين، وفي طليعتهم الدكتور محمد أشرف، والدكتور ضياء الدين، والأستاذ يوسف هردوتس الألماني أستاذ الشعبة العربية في المدرسة، والسيد سليمان أشرف البهاري معلم الشعبة الدينية على مذهب أهل السنة، ومولوي فدا حسين معلم الشعبة الدينية على مذهب الشيعة الإمامية، وعبد المجيد خواجه المحامي، وأبو الحسن معاون سكرتير المدرسة. تفضل هؤلاء العلماء الأجلاء باستقبالي على محطة السكة الحديدية خارج البلد مع جمهور عظيم من أهل المدرسة ووجهاء البلد، وبتوديعي كذلك، وبالحفاوة الفائقة بي مدة إقامتي بينهم، وقد بالغ النواب الجليل وقار الملك في التأنق بضيافتي وأعد لي دار صديقه السري الكبير (خان) بهادر نواب محمد فرمل الله خان الفسيحة الفيحاء، ذات الحديقة الغناء، وكان يدعو لمؤانستي على الطعام كل يوم أكابر العلماء والأدباء، وقد استفدت من فضلاء عليكره علمًا وخبرةً بأحوال إخواني مسلمي الهند لم أجدهما عند غيرهم. ثم أشكر لناظر المدرسة الهمام مستر جي أيشتول بهادر، ترحيبه بي هو وقرينته الفاضلة ودعوتهما إياي إلى شرب الشاي في دارهما، ووعد الناظر إياي بالإجابة إلى ما اقترحته عليه من العناية بتوسيع نطاق تعليم اللغة العربية في المدرسة، وأشكر مثل هذا الوعد لأستاذ الشعبة العربية يوسف هردتس الألماني، أما النواب وقار الملك وعمدة المدرسة وأساتذتها فإن ارتياحهم لاقتراحي عليهم لم يكن إلا تذكيرًا بما لا يغيب عن أذهانهم، بل رميًا عن قوس عقيدتهم، وقد وعدوني بأنهم سينشئون ناديًا في المدرسة لا يتكلمون فيه إلا بالعربية، ولعلهم أنجزوا الموعد، فإنهم أهل الوفاء والصدق، وقد ذكرني رأيهم هذا، وكان وعدا مفعولاً، ما حدثني به بعض علماء المسلمين في روسية وهو أنهم توسلوا إلى التمرن على اللغة العربية باتفاق أهل العلم وطلابه على التزام التكلم بالعربية دون سواها في مدة شهر رمضان. أما النواب الجليل فقال كما قال هردوتس: إنه لا يتيسر لهم اتفاق تعليم اللغة العربية ما دامت المدرسة تابعة لنظارة معارف (إله آباد) قال النواب: وإننا قد جمعنا المال الكافي لتحويل المدرسة إلى جامعة مستقلة، فمتى تم لنا ذلك فإننا نجتهد فيما اقترحتموه علينا من إتقان تعليم الدين وتعليم العربية أتم الاجتهاد، وقد أحزنني بعد عودتي ما بلغني من استقالة النواب الجليل من المدرسة، ولا أدري أحق ما قيل من أن المال الذي كان جمع لجعلها جامعة قد دفع لإعانة الدولة العثمانية على الحرب أم لا؟ وإذا صح فهل تصدوا لجمع غيره أم لا؟ أما المبلغ فهو مئتا ألف جنيه إنكليزي وبضعة آلاف من الجنيهات. ولا يسعني من شكر طلاب المدرسة النجباء والثناء عليهم إلا الإجمال، فقد قرت عيني بما رأيته من أمارات النجابة والاجتهاد عليهم، وما توسمته من شعور الإخاء الإسلامي في وجوههم، وما قابلوا به خطبتي عليهم في التربية من الارتياح والقبول، وقولهم: إنهم نقشوها في ألواح النفوس وصحف القلوب، ثم إن طلاب القسم العالي والأعلى منهم لم يكتفوا بإظهار سرورهم واحترامهم بالقول الحسن، والزيارة والسؤال، وغير ذلك من شعائر الاحترام، بل استأذنوا النواب الجليل في مأدبة حافلة للعشاء باسمهم فكانت مأدبتهم أكبر مأدبة أكرمني بها أمراء الهند وأغنياؤهم، فإن أصحاب الدعوة من الطلبة بضع مئين ودعوا معي أساتذة المدرسة من الوطنيين والأوربيين ووجهاء البلد، على أنهم قدروا نفقات دعوة لزهاء ألف رجل يقدم لهم أنفس ما يأكل الأمراء والكبراء من الطعام، ثم اكتفوا بعد مذاكرتي ورضائي مع الإعجاب والسرور بأن يجعلوا المأدبة في الدرجة الوسطى ويجعلوا باقي ما قدروه من نفقتها إعانة لأيتام وجرحى المجاهدين في طرابلس الغرب، فكان ذلك ثلث ما قدروه، وكذلك فعل العالم العامل التقي الخفي مولوي حبيب الرحمن الذي آثر بأن أسميه صديقي المحبوب في دعوته إياي إلى حفلة الشاي، فحيا الله هؤلاء الإخوة الكرام. *** (مدرسة ديوبند) قد بينت في العجالة التي كتبتها عن رحلتي وأنا في العراق ما كان من سروري وارتياحي في مدرسة ديوبند الدينية، وأن الخُبر لها كان خيرًا من الخَبر عنها، فأشكر لعلمائها الأعلام وطلابها النجباء تواضعهم وكرمهم بي والعناية باستقبالي وتوديعي؛ إذ خرج لهما رؤساؤهم وجمهورهم إلى محطة السكة الحديدية البعيدة عن البلد، وفي مقدمتهم مولانا العلامة الشيخ محمود حسن رئيس المدرسين، ومولانا الحافظ محمد أحمد ناظر المدرسة، ومولانا العلامة الشيخ عبيد الله رئيس جمعية الأنصار، ومولانا العلامة الشيخ أنور شاه، ومولانا العلامة الشيخ محمد حبيب الرحمن من كبار المدرسين، وكان من ذوقهم ولطفهم أن وضعوا على باب المدرسة قطعة كبيرة من النسيج، مرسومًا عليها حديث: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء) وقد حيوني بالخطب والشعر حياهم الله تعالى، وبالغوا في الاعتذار عن التقصير في الضيافة بأن حالهم وحال بلدهم الصغيرة لا يمكنانهم من كل ما يرونه لائقًا من كثرة الألوان وضروب الإتقان، وأقول: إنهم والله ما قصروا ولقد كانت كيفية ضيافتهم آثر عندي وأروح لنفسي من ضيافات كبراء الدنيا، ومن مبالغتهم في ضيافتهم أنهم زودونا بأطعمة نفيسة حملوها إلى القطار الحديدي عند توديعنا، فأكلنا منها في الطريق وأفضنا على الفقراء في بعض المحطات، وهذا من الكرم الذي انفردوا به دون سائر الكرماء. وإنني أختم الشكر والثناء بذكر من يستحق أن يشارك أهل كل بلد زرته هنالك في شكري لهم، وهو صديقي الصفي الوفي، السيد عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي، مدرس اللغة العربية، في مدرسة العلوم الكلية، فإنه كان رفيقي وأنيسي وترجماني في كل هاتيك البلاد، وإنني ما لقيت في حياتي رفيقًا أخف روحًا وأكبر مروءةً وأشد تواضعًا وأحسن تصرفًا من هذا الأخ الكريم، والولي الحميم، فإنه وضع نفسه مني، وهو الكفؤ الكريم، في موضع التلميذ المجتهد من الأستاذ المحقق، والمريد الصادق من المسلك العارف، والولد البار من الوالد، بل الخادم الأمين من المخدوم القمين، ثم كتب رسالة في ملخص رحلتي لقب نفسه فيها بهذه الألقاب، وطبعها ونشرها في البلاد، ولولا ذلك لما أبحت لنفسي أن أذكرها ولو لأشكرها، وأبين أن فضله وكماله هما اللذان حملاه على التفضل بها، فهي أيادٍ يمنها عليَّ، وليس لي يد أمنها عليه، وإنما أسأل الله أن يحسن جزاءه ويديم وفاءه، وأن يقر عينه بولده، حتى تتصل بهم سلسلة الولاء والوفاء من بعده. للكلام بقية في شكر أهل عمان والعراق ((يتبع بمقال تالٍ))