للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التهتك في مصر وتلافيه

أظن أنه لا يوجد بلد إسلامي أو غير إسلامي فيه من التهتك ما يداني ما في
مصر لا سيما القاهرة فما فنك النساء فيها إلا بعد ما مسن الرجال واضطروهن إلى
ذميم الفعال.
مر علي زمن في القاهرة لا أرى فيه ما يكون في الأسواق عندما أمر فيها
لأنني كنت قلما أدير لحظي وأرمي ببصري إلى الناس , ثم تكلفت الاختبار فصرت
أرى ما لم يكن يلوح في ذهني أنه يكون - أرى الرجال من جميع الطبقات
يتعرضون لكل من عليها مسحة من الجمال يغازلونها ويناغونها , وإن لم يروا منها
عينًا خائنة أو إشارات شائنة. أرى من الرجال من يمد يده إلى المرأة المتبرقعة في
الشارع كأنما هي حليلته في زاوية بيته. أرى المرأة تطوف في مثل شارع الغوري
فكأنما هي المراد بقول الشاعر:
كرة حذفت بصوالجة ... فتلقفها رجل رجل
رأيت من أيام رجلاً في القهوة التي أمام منزلي في الشارع العام قبض بيده
النجسة على يد امرأة طاهرة نقية فصاحت به: استح أيها الرجل واتركني ,
وتذكرت الآن أنني كنت مارًّا في شارع الخليج قبل العصر في رمضان , وأولاد
المدارس الذين هم رجاء البلاد ورجال المستقبل منتشرون في الشارع منصرفين من
المدارس إلى منازلهم وكان من ورائي فتاة تمشي إلى الجهة التي أمشي إليها فكنت
أتصفح وجوه التلامذة المهذبين فلا أكاد أرى عينًا تقع عليَّ ولا على الأرض بل
كانت العيون كلها طائرة إلى ذلك الغصن الذي يتثنى من ورائي , ويا ليتهم كانوا
يقنعون بالنظر وإن كان سهمًا مسمومًا من سهام إبليس كما ورد , ولكنهم كانوا
يعرّضون للفتاة بأن جمالها أفسد عليهم صومهم ليختلبوا لبها فمشيت الهوينا لتسبقني
فأنظر هل يجد أحد منها انعطافًا أو التفاتًا؛ فما كانت إلا من قاصرات الطرف.
قويمات العطف، لا تلوي على أحد، ولا ترنو إلى ولد. ومثل هذه المشاهد كثيرة
في جميع هذه المعاهد , وهكذا يفسد الرجال النساء , ولكنهم يحصرون فيهن
الإغواء.
فواحسرتا على قوم هذه شنشنتهم وهم ينتسبون إلى دين الإسلام الذي قال نبيه
عليه الصلاة والسلام: (لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء) .
ولكن التربية الدينية دَرَسَتْ رسومها وأقيم على أطلالها بناء التهتك الذي
ينسب إلى الإفرنج لأن سببه الحرية التي انفجرت براكينها من بلادهم لا أنهم
يسيرون على هذه الطريقة فإننا لم نر إفرنجيًّا ولا إفرنجيةً يهتكان حرمة الأدب في
الأسواق، والشوارع على أعين الناس , فإذا كان أكثر الإفرنج مارقين من الدين
فإنهم قد استبدلوا به شيئًا من الأدب الدنيوي , ولكن قومنا إذا مرق أحدهم من الدين
يكون ممن قال الله فيهم: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: ١١) .
هؤلاء السفهاء لا يزعهم عن غيهم إلا السلطان والحكم , وقد ألقت الحكومة
المصرية حبالهم على غواربهم حتى علمنا أن محافظة العاصمة أصدرت منشورًا
إلى الأقسام ورجال البوليس والخفراء بأن يقبضوا على كل شخص يتعرض لسيدة
في الطريق أو يحرضها على ارتكاب الفحشاء أو يسبها أو ينسب إليها عيبًا. وهذا
هو الأمر الذي ينتظر من سعادة محافظ مصر كما يوجبه عليه دينه وأدبه , ونرجو
من حزمه وهمته تشديد العناية بالقيام به حق القيام , لا سيما بالنسبة لفساق التجار
فإن إباحة هذا التهتك ينتهي إلى أن لا يبقى في البلد امرأة عفيفة نزيهة , والله لا
يضيع أجر المحسنين.