(هل يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام) طنجه (مراكش) في ٦ ديسمبر لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
وردت هذه الرسالة الآتية لجريدة المؤيد الغراء، فأوردناها بحروفها وذيلناها بما عندنا من الجواب على السؤال الذي بُنيت عليه، وهي: مسألة نلقيها على أصحاب النُّهى والأقلام، نعرضها على أرباب السيادة والأحكام، نكشفها لأفراد الأمة كبيرها وصغيرها، رفيعها ووضيعها، عاقلها وجاهلها. مسألة حان الخوض في عبابها، وآن الزمان لكشف نقابها، والبحث عن أسبابها، فقد طفحت الكأس، وسئمت الناس، وبلغت الروح الحناجر. ألا ترى إلى الإسلام كيف رقّت حواشيه، وحطت معاليه، وعبثت أيدي البغاة فيه، حتى صارت سماؤه الزاهرة بغيوم الكروب سوداء، وأرضه الناضرة من دماء أبنائه حمراء. ألا ترى إلى الشرق كيف تناوشته الأنواء، وتكالبت عليه الأعداء، فخرقت أحشاؤه، وفتحت أرجاؤه، وضيق عليه من جميع الأنحاء. توفرت للإفرنج المعدات، وكثرت لديهم القوات، ورأوا الشرق يغشاه سبات الخمول، ويعتري أهله داء الضعف والنحول، فحملوا عليه بجيوشهم وأعوانهم، وزاحموا بنيه في بيوتهم وأوطانهم، حتى امتلكوا بكرة أقطاره، وزهرة أمصاره، ووطدوا العزم لغزو ما بقي مستقلاًّ من أراضيه. يقولون: من فاتنا اليوم فميعادنا معه إلى الغد، ومن عاهدناه بالأمان فليطمئن إذا شاء على هذا العهد. هذا وعشائر العرب وجموع المسلمين وشعوب الشرق جمعاء تنظر إلى هذا البلاء ولا تستفيق، وترضى بالهوان وتطيق، كأنما فقدت بينهم الحمية، وماتت من رجالهم روح الأنفة والاستقلال، أو استحكمت فيهم رهبة العدو فمدوا أعناق التسليم وأقروا له بالخضوع والإذلال، وأنت إذا حسبتهم تراهم يعدون مئات الملايين يملأون البطاح والوهاد، بينهم رجال الحروب وأبطال الوغى، منهم العلماء وأرباب النهى، دولتهم فيما مضى وصلت الغرب بالشرق، انبسطت إلى أطراف المعمورة، خضعت لها برابرة إفريقية في الجنوب، وهابتها جلالقة الروم في الشمال، لكن يا للأسف كثرتهم لم تغن عنهم آفة العدو، ومجد أسلافهم لم يدفع عنهم سيف الأجانب، فقد امتلكت اليوم دول الإفرنج القسم الأعظم من بلادهم، واسترقت العدد الأوفر من شعوبهم. انظر: دولتان قد افترستا زهرة بلدانهم، وأعملتا السيف في أبنائها، ودولة أخرى تتحفز للوثوب، وتتهيأ لقلع أركان مملكتهم، فرنسا اغتصبت الجزائر وتونس في الشمال، وغلبت على سودان المغرب في الجنوب، شقت بطن الصحراء وضيقت على سلطان مراكش، دافعة عساكرها كل يوم ومن كل ناحية إلى الأمام حتى لا تترك أثراً للسيادة العربية في المغرب. إنكلترا حكمت سيوفها في سبعين مليونًا من مسلمي الهند، قبضت على باب المندب وبوغاز السويس في البحر الأحمر، بسطت جناحيها فوق زنجبار، قعدت بكلكلها على مصر، أهلكت في أم درمان في ظرف ساعتين فقط نحو خمسة عشر ألفا من الدراويش، بل من نخبة رجال العرب ونخوة رجال السودان. روسيا تستعد كل يوم، تجند الجنود وتحشد الألوف على الحدود، تتربص الفرص للوثوب، وتنتهز يومًا مناسبًا للزحف. وماذا يفعل المسلمون؟ في الهند ملايين المسلمين تدعو بالنصر لملكة الإنكليز علانية، وتتغلل صدورها بالغيظ والسخيمة عليها سرًّا، وقد ملئت قلوبهم بالذل وفقدوا كل نخوة وحمية. في تركيا اختلفت الأهواء وتعاكست الآراء، ووقف السلطان وحده يذود عن بيضة الخلافة والملك، حيث أوروبا بأجمعها تحاربه بالسلم، وقد تمكن الدخيل في الرعية وانحرفت الأحكام عن جادة الحق في الغالب، فاختلت لذلك الحكام، وامتلأت القلوب ضغنًا فوهت بذلك أركان قوة الدولة، وأخذ الأعداء ينقصون من أطرافها كل يوم وناهيك بما انتهى إليه أمر كريد عبرة. مصر مسند العرب وعماد الإسلام، سلمت السيف وخضعت للقدر، وسكانها الذين استنارت أذهانهم بروح هذا العصر انقسموا إلى حزبين: حزب يفاخر بمعاضدة إنكلترا، وآخر يباهي بمسالمة فرنسا. سيد البلاد ينام والكدر ملء جفنيه ورجال البرلمان بإنكلترا يبيتون على فرح كامل وسرور شامل. في تونس والجزائر كلمة (بونجور) خلفت كلمة (السلام) وخلاعة الإفرنج حلت محل آداب العرب، وكادت تهتك حرمة الإسلام، ومراكش المملكة الوحيدة العربية التي حفظت استقلالها إلى الآن استحكمت فيها الفوضى، ورسخ بأرجائها الجهل، وحكومتها عوضًا عن أن تكون حامية للشعب وحافظة لحقوقه تهتك أعراضه وتبيح دماءه وتستلب أمواله، لا ينجو منها عالٍ ولا وضيع. أما أقطار الصحراء الواسعة وما والاها من سودان الجنوب فسل عنها فرنسا بالغرب، وإنكلترا بالشرق، فهما بها أدرى، وبالكلام عنها أحرى. هذه هي اليوم حالة الإسلام وحالة الشرق أجمع. سردنا لك حقائقها بأبسط الوجوه وأوضحها، لم نوشحها بنامق العبارات، ولم نطلها بزخرف الكلام؛ حتى تظهر لك ساطعة كالشمس في رابعة النهار. حتى تعلم أن نصيب الشرق في كفة الميزان وأن حالته الحاضرة تنذر بفناء الأمة وذهاب العرب. هل يمكن إذن رد هجمات الشمال عن الجنوب، ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام، واسترجاع ما فقد المسلمون من الأملاك والممالك، والشمال كما تعلم قواته تفوق الآن الحصر، ومعدات تدهش الفكر، لم تدركها العرب ولا الترك ولا غيرهم من أمم الجنوب. نقول: إنه لا يمكن إن دام الحال على هذا المنوال. ونقول: يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية وقطع مجاهل الصحراء فرددته أعجاز النيل، ثم تناقلته وِهاد العربية ووديانها، فارتجت لدويه الهند وتداولته سهول الشام وجبالها، فاهتزت لصداه أركان الآستانة العلية، مكان عرش الخلافة وموضع التاج من رأسها. أو إذا لفحت ريح من الشرق فزعزعت أهرام مصر وهبت نحو الغرب، فنبهت أحياء إفريقية واستيقظ الناس واجتمعت الكلمة. ولكن بأي واسطة أو أي سبيل يتم هذا الأمر؟ ذلك نتركه لفطنة القارئ وحكمته. ومتى تذكر أن الدولة التي قوضت دولة الرومان وبسطت سلطتها من الهند إلى الأطلنطيك إنما قامت عن قبائل متوغلة في الخشونة والهمجية، أقوى سلاحها الاتحاد والحمية، يعلم أننا لم نفرض المستحيل، وأن الدهر أبو الغرائب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الامضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ن. الفويكي) (جواب المنار) قول الكاتب الفاضل: إن رد هجمات الشمال عن الجنوب ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام غير ممكن إذا دام الحال على هذا المنوال - قول صحيح لا ريب فيه. وقوله: (يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية إلخ أو إذا لفحت ريح من المشرق إلخ) محل نظر وبحث، إذ يتبادر أن مراده بالصوت الصائح، والريح اللافح، قيام المسلمين بثورة عامة تبتدئ من الغرب فيليها الشرق، أو تهب من الشرق فيتزعزع لها الغرب، وتنهض الأمة نهضة واحدة للتنكيل بالدخلاء الذين عدوا على البلاد مفتاتين، فاستبدوا بالسلطة واستأثروا بالرياسة. وهذا مراد لا ينال وغاية لا تدرك، فالمسلمون لا تجمعهم لغة ولا حكومة، والرابطة الدينية قد سحل مريرها وانتكث فتلها من أجيال طويلة، بما اعتورها من اختلاف المذاهب، وتنوع المشارب، وتمزيق السلطة بتفريقها، وما تولد عن ذلك من دماء سفكت، وحرمات انتهكت، وأرحام قطعت، وقد آل أمر هذه الفتن فيهم إلى أن استعان كثير من أمرائهم وسلاطينهم بأعدائهم على إخوانهم في الدين، وأعانوهم عليهم في بعض الأحايين، ولا أبعد عليك في الشاهد ذهابًا إلى تاريخ الدول المنقرضة، فإن في هذه الدول المواثل (جمع ماثل وهو الرسم الذي بقي له أثر) ما يغني عن الاستشهاد بالأوائل. إن بريطانيا ما استقرت قدمها في الهند إلا بمعونة الأفغانيين، وإن فرنسا ما تم استيلاؤها على الجزائر إلا بمساعدة المراكشيين والتونسيين، وكفى بخذل القريب، مساعدة للغريب، وقد كان لدولة الإيرانيين يد عاملة في انتصار روسيا على العثمانيين، وإن الأمراء الذين أضلوا الأمة عن سواء السبيل، وفعلوا بها هذه الأفاعيل، هم الذين يصدونها عن سبيل الاتحاد، ويحولون بينها وبين كل مراد، فأَنَّى تتألف عناصرها وتتلاصق جواهرها، وهذه الآلات المحللة لا تبرح عاملة فيها بالتفريق، ومتى تبلغ هذه الغاية والقائد هو الذي ينكب بها عن جادة الطريق، لم يدع أمراء المسلمين وسلاطينهم في بلادهم زعيمًا يرجع إليه، ولا رجلاً تجتمع القلوب عليه، إلا وخضدوا شوكته، وحصدوا نبتته، إلا ما يكون في البلاد الهمجية من زعماء الفتنة الذين يخرجون على سلاطينهم، ويعملون قوتهم فيما يصب البلاء عليهم وعلى أمتهم ودولتهم، كالذين أضرموا نيران الثورة في السودان، والذين لا يزالون يضرمونها في اليمن ومراكش، وكل أولئك يصح أن تتمثل الأمة فيهم بقول الشاعر: وإخوان حسبناهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلناهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وأقول: إن بلاد المسلمين قسمان. قسم له حكومة منظمة، وجنود معلمة، كالدولة العلية والدولة الإيرانية [*] . وقسم ليس كذلك كدولة مراكش، والقسم الأول فيه بلاد ههمجية لم يسسها النظام، ولم تنفذ فيها القوانين والأحكام، فالحكومات أنفسها لا تقدم على محاربة دول الشمال لما تعلم، ولا يمكن أن يثور الأهالي في البلاد التي لها حكومات منظمة على الإفرنج الذين تبوءوا بلاد الإسلام، لأن حكوماتهم هي التي تكبح جماحهم، وتنكث قواهم، فيكون ذلك سببًا في زيادة ضعفها، وأما البلاد الأخرى فليس شأنها بأبعد من شأن هذه، فحضرة الفاضل صاحب المقالة أعلم منا بما يجنيه أهل الريف في بلاد مراكش على حكومتهم من إغارتهم على السواحل وانتهابهم مراكب الإفرنج وتعديهم على أهلها، فلقد أثقلوا غارب الدولة وحملوها من المغارم التي تدفعها للحكومات الأجنبية باسم الترضية ونحوه ما إذا طال عليه العهد يخرج عن طوق احتمالها، ويؤدي إلى طموح الأجانب لاحتلالها، وإذا ضممت إلى تفرق الكلمة وتنكيث القوى وضعف الحكومات حتى عن الرعية في البعض ما عليه دول الشمال القوية الحازمة من الاتفاق والاتحاد على ابتلاع أمم الجنوب وهضم حقوقها، على اختلاف الوسائل والتنازع في اقتسام الممالك - لاح لك أن الثورة والقيام على الأجانب خطر عظيم عاقبته مظلمة جدًّا، والنتيجة أن هذا أمر لا يقع، ولئن وقع فقد يضر ولا ينفع. إن الشعور بحالة الأمة السيئة صار عامًّا لا يكاد يجهله في جملته أحد، ولكن الذين يتوقع منهم شعب الصدع ومداواة الكلم، قد اكتفى أهل النظر والفكر منهم بتأسف العجائز، وتحسر الزَّمْنى، بل بما هو أشبه بحزن النسوان، ومنهم العميان والمخدرو الجثمان الذين لا يبصرون، ولا يتألمون، وهم متفقون على أن إصلاح الحال وإزالة الاختلال، لا يمكن أن يأتي إلا من قبل الحكام، والحكام ميئوس منهم في أكثر البلاد فالإصلاح كذلك. هذا هو الرأي الغالب على الناس إلا من هداه الله وقليل ما هم. ومن الناس من يتكلم في الإصلاح بغير هدى ولا عقل منير، فإما كلام مقطع غير معقول، وإما تغرير بالعقول، وأغرب ما كتب في ذلك الكاتبون الحث على الالتجاء لدول أوروبا والاعتماد عليها في إلزام الدولة العلية بالإصلاح على الوجه الذي يرونه أو تراه تلك الدول، وغاية هذا تسليم البلاد لها، وقد فندنا هذا الرأي الفاسد من قبل، وهو لبعض الغارِّين أو الأغرار، الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، والذي نعرف عن النبهاء والمتعلمين في مدارس الحكومة من الأتراك والمصريين أن الإصلاح لا يكون إلا بتقليد أوروبا في جميع الشؤون واتباع سنتها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وهو على إطلاقه إضلال أي إضلال، وذهب بعض المثرثرين في هذا الموضوع إلى أن الإصلاح يتوقف على نهوض الأمة وإلزامها الحكومة بما تريد منها بثورة كثورة الفرنسيس المشهورة، وقد جربنا هذا وما قبله في مصر، ولا نزال نتململ من سموم لدغاتهما، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. فهل نقول بعد هذا: (يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام) ؟ نعم وألف نعم (ولكن بأي واسطة وأي سبيل يتم هذا الأمر) ؟ ترك صاحب المقالة الجواب عن هذا السؤال لفطنة القارئ وحكمته، ولكن ذكره بما يهديه إليه - ذكره بنشأة الدين ومبدأ ظهوره. ذكره بذلك الانتشار السريع - ذكره بالقوة التي فاضت من قفار القبائل المتوغلة في الخشونة والهمجية، فغمرت المعروف من مشارق الأرض ومغاربها وأبطلت كل قوة لغيرها وسلطان. ولكن هذه التذكرة تذهب النفوس في تأويلها مذاهب شتى. فمن الناس من يقول: إن ذلك الاتحاد وما كان من آثاره حصل بالإمداد السماوي والمعجزات والخوارق، ولذلك يعتقد جماهير المسلمين أن الإسلام لا يعود إليه مجده إلا بالمهدي المنتظر أو السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أضر بهم هذا الاعتقاد ضررًا عظيمًا، وكان من أسباب ضعف هممهم، وزلزال عزتهم، وظهور الفتن والبدع فيهم (سنبين ذلك في مقالات أخرى) . ومن رأي هؤلاء: أن العمل لإحياء مجد الإسلام عبث لا يفيد وأنه لا مندوحة عن الرضى بالضيم، والخنوع للذل، حتى يخرج المهدي من الخباء، أو ينزل المسيح من السماء، ومنهم من يقول: إن دولتي الرومان والفرس وغيرهما من الدول التي قوض عرش سلطانها المسلمون كانت عند ظهور الإسلام في تفرق وشقاق، وفساد أخلاق، فتسنى للمسلمين باجتماعهم واتحادهم الغلب عليهم، وأما دول الشمال اليوم فهي في أعلى درج القوة والمنعة واجتماع الكلمة، حتى بين كل دولة وأخرى بالنسبة للاستيلاء على أمم الجنوب، فمهما اتحد المسلمون واجتمعت كلمتهم لا يتسنى لهم فل جيوشهم، وثل عروشهم، بل ربما أفرط بعض هؤلاء فقال: ولا يتأتى لهم تقليص ظلالهم، بتخييب آمالهم، لأنهم هضموا ما طمعوا. فترْك الكاتب النبيل بيان السبيل لفطنة القارئ، لا يأتي بالفائدة المطلوبة؛ فليس القارئ المخاطب واحدًا وإنما هم قراء مختلفون في المذاهب والآراء، وهذا ما حدا بنا إلى كتابة هذا الجواب مبينين رأينا في المسألة الذي اهتدينا إليه بعد البحث الطويل والوقوف على آراء الباحثين وهو: إن أصول الدين الإسلامي وتعاليمه وآدابه الصحيحة هي التي جمعت كلمة قبائل العرب وارتقت بهم من حضيض الهمجية إلى أوج الفضائل، وأشرفت بهم على دول العالم بالسيادة والسلطان، وهدتهم إلى العلوم والفنون، ولا خلاف في أن انحراف المسلمين عن جادتها هو الذي سلبهم ما كسبوا، فالرجوع إليها هو الذي يؤلف بين قلوبهم ويجمع كلمتهم ويرجع لهم سيادتهم، وقد بدأ الدين غريبًا وانتشر بالدعوة والتعليم، ولم تكن الحروب في أثناء الدعوة إلا وسيلة لسماع صوته (كما سنبينه في فرصة أخرى) وقد عاد الآن غريبًا وينتشر بالدعوة والتعليم (وفقا لما ورد في الحديث الشريف) ولا حاجة مع ذلك إلى الحرب ولا إلى الخوارق والمعجزات لأن الذين يراد إحياء تعاليم الدين وفضائله وآدابه فيهم - أولاً وبالذات - معتقدون أن جميع ما جاء في الدين حق، وأن القرآن معجزة باقية إلى الأبد، ولا يصدنا عن الإرشاد والتعليم صاد، ولا يمنعنا منهما مانع في أمتنا وبلادنا، ولا في غيرهما. كيف والدعوة إلى الاسلام لا يعارضها في الممالك الغربية معارض، ولم يلق القائمون بها ذرة من البلاء الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ولا الأئمة الذين دعوا إلى البدعة بعده من قبل خلفاء المسلمين وأمرائهم. ولا يتوقف العمل إلا على اقتناع العلماء بأن هذا الإصلاح مطلوب منهم وموكول إليهم، وهم المسئولون عنه بين يدي الله تعالى، وأنه لا يتوقف على مساعدة الأمراء والسلاطين، فضلاً عن كونه لا يأتي إلا منهم، فإذا أشربوا ذلك في قلوبهم وتقشعت سحب اليأس من نفوسهم وجعلوا إمامهم القرآن وأحيوا معانيه في العقول في دروسهم ومجالسهم وخطبهم، تهبط على الأمة روح الوحدة من سماء العزة، فيجتمع شرقيهم بغربيهم ويعيدون للشرق مجده (ولا يبعد أن يكون هذا مراد صاحب المقالة وإن كان المتبادر خلافه) نعم، إن الأمراء والسلاطين إذا ساعدوا العلماء في عملهم هذا وسهلوا لهم سبيله يكون أسرع سيرًا، وأقرب وصولاً، وهذا ما حملنا عى كتابة ما ترى في المنار من مقالات الإصلاح الديني واقتراحها على مقام الخلافة الإسلامية أيده الله تعالى وأعزه، ولكن يجب أن لا ييأس العلماء من روح الله إذا لم يجب الطلب ولم يلتفت إلى الاقتراح، فقد علمنا التاريخ الحديث أن الأمم في هذه العصور إذا تربت وتعلمت فإنها تربي الحكام والسلاطين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [**] .