في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات (في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)
وقعت هذه المناظرة بالصفة المبينة في المقالة الأولى من المقالات الآتية، فكان لها تأثير عظيم في جميع الطبقات المصرية في العاصمة وسائر البلاد، وظهر لنا من هذا التأثير بما رأيناه منه وما سمعناه عنه وما قرأناه بشأنه في الصحف: أن ما كان يذيعه دعاة الإلحاد من انتشار إلحادهم في النابتة العصرية المتعلمة حتى كاد يكون عامًّا فيهم - كذب وبهتان، بل السواد الأعظم من شباننا سليم العقيدة يؤمن بالله وبكتابه العزيز المعجز للبشر إلى آخر الدهر، ورسوله محمد خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ويغارون على الإسلام ويؤيدون من يدافع عنه، على ضعف تعليم الدين في المدارس كلها، وإهمال تربيته الصحيحة فيها وفي أكثر البيوت أيضًا، وعلى ما في هذه البلاد ولا سيما عاصمتها من حرية الكفر والفسق. وإننا ننشر هذه المقالات التي كتبناها ونشرناها في جريدة كوكب الشرق الشهيرة إجابة لاقتراح بعض طلاب الجامعة الغيورين، وسننشر بعدها بعض ما نُشر في الجرائد في موضعها وما كان من تأثيرها. المقالة الأولى في صفة المناظرة كان بعض طلبة كلية الحقوق من الجامعة المصرية زاروني في مكتبي وأخبروني أن لجنة الخطابة والمناظرات للجامعة تختارني لمناظرة الأستاذ عبد الوهاب عزام في موضوع (حرية المرأة كالرجل) إذا كنت أقبل أن أكون المعارض له فيه، فقلت: لا مانع لدي من القبول. ثم زارني اثنان آخران بعد المغرب من يوم الثلاثاء (سابع شعبان ويناير معًا) وألقيا إليَّ طائفة من رقاع الدعوة من تلك اللجنة (لحضور مناظرتها الأولى التي تقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء ٨ يناير سنة ١٩٣٠ بكلية الحقوق بحدائق الأورمان بالجيزة برياسة النائب المحترم محمد توفيق دياب موضوعها (يجب مساوة المرأة بالرجل) [١] . (وسيؤيد الرأي الدكتور محمود عزمي والآنسة هانم محمد الطالبة بكلية العلوم، وسيعارض الرأي حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا ومحمد أفندي شوكت التوني الطالب بكلية الحقوق) هذا نص الدعوة. فلم أجد بدًّا من قبول الدعوة مع العتاب على ترك استشارتي في الأمر قبل يومين أو ثلاثة أيام، لعلمي [٢] أنها مناظرة بين الدين والإلحاد. وقد ذهبت قبيل الموعد، ولما دخلنا حجرة المناظرة ألفينا مدارجها مكتظة بطلبة كليات الجامعة وغيرها من المدارس وبعض مجاوري الأزهر الشريف وفي أدناها كثير من كبار الفضلاء والأستاذِين، كان تجاهي منهم صديقنا أحمد شفيق باشا من عشاق العلم والعمل، ثم اشتد الزحام حتى كثر الواقفون في أثناء المدارج وجوانبها وأعلاها وفي طريقها أيضًا وقدَّرهم الرئيس بألف نسمة أو أكثر. وما زال الناس يهرعون حتى غص بهم المكان وصاروا يتدافعون في الأبواب، وكاد يتعذر حفظ النظام؛ ولكن الرئيس الموكول إليه ذلك تمكن بحزمه وفصاحته وصوته الجهوري من تسكين المتحركين، وتسكيت المتكلمين، ثم من كف تصدية المصفقين، وافتتح الكلام ببيان موضوع المناظرة والتعريف بالمتناظرين: الموجب منهم للموضوع، والسالب المعارض له، والمؤيد لكل منهما، وما للسامعين من حق إبداء الرأي بالكلام في كل من جانبي السلب والإيجاب، وبيان الوقت المحدد لكل متكلم، وهو عشرون دقيقة لكل من الأولين، وخمس عشرة دقيقة لكل من الرديفين، وخمس دقائق لمن يريد تأييد أحد الجانبين. ثم طريقة أخذ الأصوات، وهي أن يخرج الذين يرون عدم المساواة من الباب الأيمن، ويخرج الذين يرون وجوب المساواة من الباب الأيسر، فيجد كل منهم صندوقًا خارج الباب يضعون فيهما البطائق المطبوعة التي وُزعت عليهم بعد أن يكتب كل منهم فيها اسم من يؤيده ويرى رأيه، وإمضاءه هو، ثم على لجنة المناظرت أن تحصي بطاقات أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وتعلن النتائج لمن شاء الانتظار، ومن لم يشأ قرأها في الصحف غدًا. ثم أذن للدكتور محمود عزمي بالكلام. خطاب محمود عزمي كان هذا الخطاب مكتوبًا بالأسلوب الخطابي الذي يُقصد به التأثير بخلابة القول وما يزينها من المعاني الشعرية، ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي يبث فيها دعايته وآراءه [٣] وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من تسليمها النتيجة المطلوبة، والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا يمكن أن يكون مسلَّمًا فيحتج بنتيجتها، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند من له إلمام بعلم المنطق، وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف الأشكال المنتجة للبرهان. ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربة وفي الشرق من معاصرات وغابرات (كمدام كوري وملكة هولندة وأميرة لوكسمبرج وخالدة أديب والأميرة نازلي هانم وهدى هانم ومي وسيزا نبراوي وإحسان أحمد وأم المحسنين وأم المصريين من المعاصرات، وكسارة وهاجر ومريم وفاطمة وعائشة وكليوبترة وشجرة الدر وغيرهن من نساء التاريخ) فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا يصح أن يتألف منها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق والواجبات، وذكر أيضًا بعض أعمال النساء العامة في أوربة وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى، وهؤلاء وإن كن كثيرات لا يصح الاحتجاج بهن على المطلوب؛ لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام الذي يفيد البرهان اليقيني، ولا الاستقراء الناقص المنطقي الذي يفيد الظن دون اليقين. فالاستقراء عند المنطقيين: قول مؤلف من قضايا ناطقة بالحكم على الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، فإن كان الحكم فيها على جميع الجزئيات سمي استقراء تامًّا، كقولنا: كل جسم متحرك بالقوة أو بالفعل. وإن كان الحكم فيه على أكثر الجزئيات سمي استقراء ناقصًا، ومثَّلوا له بقولهم: كل حيوان يتحرك فكه الأسفل عند المضغ، بناء على أن أكثر ما عُرف من أنواع الحيوان كذلك لا كلها. وقد قال موجب المساواة بعد ذكر ما تقدم: إنه يدل عليها دلالة منطقية، ولهذا ذكرنا الاصطلاح المنطقي في إبطال قوله، وأن المنطق لا يدل على ذلك دلالة يقينية ولا ظنية، وأما أسلوبه الخطابي أو الشعري في منطقه هذا فهو أنه قال: ما كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفُضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم في مختلف نواحي النشاط البشري الراقي وفي الملك الدستوري النابه (؟) وفي إدارة شؤون الدول وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب ولا يزال يطن في آذاننا جميعًا دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب الكبري وقد استحلن عمالاً خشنين (؟) يبرزن (؟) على الرجال في المعامل والمصانع المدنية منها والعسكرية وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب وتعاليم التاريخ العام والخاص منتشرة بينكم فتعرفون منها ما كان على البشرية من فضل لسارة وهاجر وأم هارون ومريم وفاطمة وعائشة ... إلخ - وأنتم تتبعون أثر الأميرة نازلي واجتماعات قصرها في تكييف مَلَكَة التفكير العام عند من تدينون له بالزعامة فيما شهدت منكم من حركة قومية ... إلخ. وما زال يقول (ما كنت أحسب) ويذكر جملاً حالية معروفة حتى جاء بإتمام الجملة فقال: ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجوب تسوية المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة!! لأنها في رأيه كما نقل عن الأستاذ (لالند) قد (كانت يوم قال بها (المفتون الأول) خيالاً من الخيالات؛ ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات، وحقيقة من الحقائق العلمية التي لا يماري فيها إنسان) . ولعمري إن هذا قول لا يقوله إنسان يفهم معنى البداهة ومعنى الحقيقة العلمية إلا على سبيل الخلابة، إذ ليست المسألة من البديهيات ولا من الحقائق العلمية في عُرف هذا العصر، فالبديهي في عرف أهل المنطق ما لا يتوقف حصوله على نظر ولا كسب كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولو كانت كذلك لما احتيج إلى المناظرة فيها كما قال، ولما كانت نتيجة التصويت فيها تأييد المعارضة ونبذ بدعة المساواة المطلقة بالأكثرية الساحقة الماحقة، بل لما كانت هذه النظرية من البدع العصرية التي نجم قرنها في هذا القرن المضطرب، الذي لم يستقر بعد على حال من القلق. بعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة، التي لا تنتج على تقدير تسليمها، وما هي على علات بعضها بمُسلَّمة - شرع في بيان الحقوق فقال: إن أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل؛ لأنها كائن موجود مثله سواء، وإن النتيجة المنطقية لذلك هي تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل مجال، فهو القاعدة الأولى لحق الوجود، وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعدَّه من مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره، واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة إلى فرنسة فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل يوم مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء؟ ! وذكر أيضًا من مزايا هذا الاجتماع بهن التفكير الطاهر البريء! ! (سبحان الله وبحمده) ثم ثنَّى بذكر حق تعلم المرأة لأجل التثقف وتهذيب نفسها وغيرها كالرجل. وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع، ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج وحق الطلاق، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات. وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى الأعمال. وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب، فارتطم ههنا في حمأة مصادمة الشرع، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث، فكان كعاصفة على البحر، اضطرب جمهور الموجودين لها كاضطراب الموج، واصطخبوا كاصطخابه عندما يتكسر على الصخر، وأرادوا منعه من الكلام، فقام الرئيس ورفع عقيرته بالتضرع إليهم أن يحفظوا النظام، ولما أمكن إتمام القول لجأ إلى التأويل، فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها، بل هي من مسائل المعاملات المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها بحسب تطور الزمان والمكان (! !) قال: وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتعنتون في تعديل قواعد الحدود الشرعية كرجم الزاني والزانية، وقطع يد السارق ورجله من خلاف (أو قال أيدي وأرجل وفيه ما فيه على كل حال) فإن الحدود قد عُطِّلت وهم ساكتون، فليسكتوا إذًا على تغيير أحكام الميراث، والدليل على أن هذه الأحكام لا يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من الشيء إلى ما هو أوسع منه، وقد جزم الحكم بأن أبناءنا سيرون هذا التغيير إن لم نره نحن! ! وختم هذه الحقوق بالحق السياسي، وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب لمجالسها، وقد حال انتهاء مدة كلامه بيان إفاضته فيها، فسكت مسخوطًا عليه من الكثيرين، وصفق له الأقلون، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير المسلمين وأقلهم من ملاحدتهم، وقد عبَّر عن ذلك من نقل أخبار المناظرة لجريدة الأهرام (أحمد الصاوي) بغير تدقيق بقوله (إلى هنا هتف الشباب لمحامي الشباب) وما كان ثمة من هتاف، ولولا رواية الأهرام لم نذكر هذه المسألة. ردنا الإجمالي ما كان الوقت الذي وُقِّت لنا بالذي يتسع للرد التفصيلي، وبيان ما في هذه المسائل من حق وباطل، ولا بالرد الإجمالي المفيد على كل منها، فاكتفيت بتفنيد مقدماتها في فاتحة الكلام، وأرجئ الرد التفصيلي إلى المقالات التالية التي اقترحها عليَّ الكثيرون من أولئك الطلاب النجباء، وأذكر أولاً ملخص الرد الإجمالي الذي ألقيته في مجلس المناظرة، مع شرح قليل أميزه عنه لتعميم الفائدة. قمت بإذن الرئيس، فقوبلت بتصفيق قوي شديد من جميع الجوانب طال أمده، حتى تعبت مع حضرة الرئيس في التوسل إلى الجمهور بالكف عنه، وقد سكت عن ذكر هذا راوية الأهرام، وما قاله عني بعضه غير صحيح، وبعضه غير دقيق، كما يعلم من بياني الآتي له. المقالة الثانية في ردي الإجمالي في المناظرة شهادة راوية الأهرام أراد راوية الأهرام (أحمد الصاوي) أن ينصر ما خذل الله والمؤمنون من دعاية الإلحاد، ويخذل ما أيَّد الله والمؤمنون من حق الدين وإصلاح الإسلام، فسمَّى الداعي إلى ترك القرآن ونبذ الإسلام (محامي الشباب) وزعم أن الشباب هتفوا له، وهذا يتضمن الشهادة على جميع أولئك الشبان بالإلحاد، وهي من شهادة الزور التي يسجلها عليه الدكتور عزمي نفسه ويُبرئ منها ذلك الاجتماع، فقد قال لي الدكتور عزمي على مسمع من الناس: إنك غلبتني، فإن الذين أعطوني أصواتهم ٢٦١ وليس لي غيرهم، وإن الذين أعطوك أصواتهم ٣٦٣، وإن الأكثرين خرجوا من غير أن يعطوا أصواتهم (إذ لم يكن معهم بطائق التصويت) ولو أعطوها لكانوا كلهم معك ولعلهم ٧٠٠ أو يزيدون، وهذا من حرية عزمي وصراحته النادرة. ثم قال راوية الأهرام: وقام الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ رشيد رضا فكان من اللباقة بحيث لا يصطدم بالصخر مغمض العينين، فاعتذر بأنه لم يحضر الموضوع، وأنه لم يسمع به إلا يوم أمس، وما كان له نصف ساعة يستجمع فيها ما هو بحاجة إليه من وثائق الدفع ... إلخ. وأقول: ما كان له لولا ما ذكرت من نزعته وشهادته أن يسمي دفاعي بالحجة والبرهان، عن الحق الذي أنزله الله تعالى في القرآن: اصطدامًا بالصخر الجلمود، ويزعم أنني اعتذرت عن ضعفي بعدم الاستعداد لهذا اليوم الموعود، فوالحق الذي قام به الوجود، ما كان صخره عندي إلا زبدًا أو غثاء سيل، أو ضغثًا جمعه حاطب ليل، وما ذكرت ما تقدم شرحه في صدر المقال الأول إلا بيانًا للواقع ومخالفته للمعتاد، وسيعلم أنني قبلت لأنني لا أراني في حاجة إلى الاستعداد، ويشهد لي طلبة الحقوق الذين كلموني في أول مرة أنني اشترطت عليهم أن أتكلم بالارتجال، وذلك أن هذه المسائل قد قتلتها بحثًا بالقول والكتابة، والدرس والخطابة، ومن فروعها مسألة الجمع بين الذكران والإناث في المدارس الثانوية والعالية، وكانت الجامعة المصرية قد جعلتها موضوع مناظرة بيني وبين الدكتور محمود عزمي نفسه في السنة الماضية، ثم أمرت الحكومة بمنعها قبل موعدها بساعة أو نصف ساعة، فكتبت رأيي في مقال للمنار، وجعلته قبل نشره موضوع محاضرة ألقيتها في جمعية الشبان المسلمين، فعسى أن تنشرها جريدة كوكب الشرق بعد انتهاء هذه المقالات. قاعدتان أساسيتان للرد ذكرت قاعدتين أساسيتين لمعارضة الخصم (إحداهما) الحاجة إلى الدين وفائدته في الأمم، وبيان نصوص الإسلام القطعية الدائمة التي لا يجوز فيه لأحد نقضها ولا تغييرها ولا التبديل لأحكامها، والنصوص التي يجوز الاجتهاد فيها، ومن النوع الأول آيات المواريث وبناؤها على كون الأنثى ترث نصف ما يرث الذكر خلافًا لما زعمه الخصم من جواز تعديلها، وذكرت في هذا البحث حكمة وجود أحكام ثابتة في الشرع وفائدته في ثبات الأمة، كما بيَّنت فيه حكم الضرورة التي تبيح المحرَّم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي تبيح المحرَّم لسد الذريعة كرؤية الطبيب لبدن المرأة وعورة الرجل. (الثانية) معنى الحق والواجب، ومن يجعل الحق حقًّا على الناس والواجب واجبًا؟ أأفراد الناس من الخطباء وغيرهم كمحمد رشيد ومحمود عزمي؟ أم رب الناس وخالقهم؟ ومن شرع لهم الرب هذا الحق من أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة في سياستها ومعاملاتها الاجتهادية؟ وراوية الأهرام لم يفهم ما قلناه في هاتين القاعدتين ولم يذكره كما قيل. كلامنا الوجيز في الحقوق السبعة قلت فيما ذكره الخصم في المقدمات من نابغات النساء: إن المرأة إنسان فلا يستنكر أن يظهر في بعض النسوة عالمات فاضلات ومهذبات نابغات ... إلخ، أشرتُ بهذا إشارة يفهمها الذكي إلى أن وجود من ذكرهن ليس دليلاً على مساواتهن للنابغين من الرجال على قلة أولئك وكثرة هؤلاء، أعني أن قداسة مريم أم عيسى وفاطمة بنت محمد عليهما السلام هي دون قداسة عيسى ومحمد عليهما صلوات الله وسلامه، وأن فقه عائشة رضي الله عنها لا يساوي فقه الخلفاء والعبادلة رضي الله عنهم، وأن سياسة الأميرة نازلي لا تسمو فتصل إلى سياسة سعد باشا وإن زعم أن اجتماعات قصرها كانت هي العاملة في (تكييف ملكات التفكير العام عنده) وإنني أعرف تلك الاجتماعات وقد حضرت بعضها مع سعد وأستاذه وأستاذنا الإمام (رحمهم الله أجمعين) وإنما الفضل الأول لتكوين ملكات التفكير في عقل سعد هو الأستاذ الإمام وكان سعد يعترف بهذا قولاً وكتابة، وقد نشرنا بعض مكتوباته له في المنار، ونقلها عنا كوكب الشرق المنير، وعلى هذا يُقاس سائر النابغات في الشرق والغرب.
بطلان كلامه في السفور والمخالطة ثم قلت فيما سمَّاه (حق الوجود واستنشاق الهواء) إنه ثابت بنفسه في الواقع وخلق الخالق، فالكلام فيه من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج وجود النساء إلى إثبات الخطيب لحقيته بالدلائل، فالنساء موجودات بدون حاجة إليه؛ وإنما الباطل هو استدلاله به على وجوب تمزيق المرأة للحجاب والستور، الذي يعبرون عنه بالسفور، واختلاط النساء بالرجال الذي ذقنا مرارته وتجرعنا غصصه بخروجهن كاسيات عاريات يسبحن مع الرجل على شواطئ البحار، ويرقصن معهم في مواخير الفساد، وكان من سوء تأثيره ما تردد الجرائد الشكوى منه من إعراض الشبان عن الزواج، وأن عقلاء أوربا يشكون منه كما يشكو عقلاؤنا وفضلاؤنا، ويخافون أن يقضي على تكوين الأسرة (العائلة) الذي يفضي إلى القضاء على الأمة، ولا منجاة من هذا الخطر إلا بأحكام الإسلام وآدابه في الستر والصيانة كما سنبينه في التفصيل الآتي: حق المرأة في التعلم وأما حق المرأة في التعلم فقد قلت فيه: إن الله تعالى فرض طلب العلم على النساء كما فرضه على الرجال - فهو واجب عليهن في الدين، وحق لهن على الوالدين والأولياء، ومن العلم ما هو واجب عيني على الصنفين، وما هو واجب كفائي، ومنه ما هو واجب عيني على أحدهما دون الآخر كالأحكام الخاصة بالنساء فيما هو خاص بطبيعتهن كبعض أحكام الطهارة المعروفة، وما يَحْرُم عليهن في تلك الأحوال، فهي أحكام تجب على كل امرأة ولا تجب إلا على بعض الرجال حفظًا للعلم ... إلخ. فكل علم تنتفع به المرأة في تهذيب نفسها وتربية أولادها وتدبير منزلها، فهو حق مشروع، وقد جعل الشرع لها حق حضانة الأطفال دون الرجل، ولا يمكنها القيام بها كما يجب إلا بمعلومات كثيرة تدخل في عدة علوم من أهمها على الصحة، ولها أن تتعلم كل علم نافع للبشر وإن لم يكن مفروضًا عليها إذا كان لا يشغلها عن المفروض من علم وعمل. قلت: وما ظَلَمَ النساء مَن ظَلَمهن من الرجال إلا بسبب امتهان الأقوياء غير المهذبين بتهذيب الدين للضعفاء، وذلك شأن كل قوي غير مهذب من ذكر وأنثى مع من هو أضعف منه حتى الوالدين مع الأولاد، والعلم قوة يُحترم المتسلح بها بالطبع، فتعلم النساء العلم الصحيح النافع يُثمر لهن احترام أزواجهن وغير أزواجهن لهن، كما يحترم الوالدان الولد المتعلم المهذب، ويحتقران أخاه الجاهل الفاسد الأخلاق. ومما أزيده على ذلك الإجمال في المناظرة أنني قد بيَّنت هذا الموضوع أحسن البيان في مواضع من المنار أعمها ما قلته وما نقلته عن الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) في الجزء الثاني من تفسير المنار وسأذكر بعضه في هذه المقالات. وأما حق الحياة في المجتمع فقد بيَّنت حكم الشرع فيما ذكره منه، وهو حق اختيار الزوج، وحق الطلاق كالرجل، وحق صيانة نفسها من ضرر تعدد الزوجات. قلت: إن الرضا بالزوج حق شرعي قررته السنة الصحيحة للمرأة، وأن من قال من الفقهاء بجواز إجبار الأب لبنته البكر على الزواج قد اشترطوا له شروطًا ولصحته شروطًا منها الكفاءة وعدم العداوة الظاهرة بينها وبين الولي، وعدم العداوة الظاهرة أو الباطنة بينها وبين الرجل الذي يراد تزويجها به، وقرأت أبياتًا فقهية في هذه الشروط. وأما الطلاق فلو جُعل حقًّا مطلقًا للنساء كالرجال لفسدت البيوت، وانقطع سلك نظام (العائلات) بالإفراط فيه كما تُحدِّثنا الصحف عن أعظم أمم الغرب مدنية ولا سيما الأميركان، على أن للمرأة أن تشترط في عقد النكاح أن يكون أمرها بيدها، وهذا الشرط يعطيها حق تطليق نفسها، وقد فعل هذا كثيرات، ومن الفقهاء من أباح للزوجة أن تشترط على الزوج أن لا يضارها بزوج أخرى، وسنبين هذا في مقال آخر إن شاء الله تعالى. وأما حق الامتلاك للنساء كالرجال، فالشرع الإسلامي فيه أوسع الشرائع وأرحمها، ومن رحمته وحكمته أحكام الإرث، وقد تكلمت في ذلك حتى أسكتني الرئيس بانتهاء الوقت، فلا أذكر مما قلته شيئًا في هذا الإجمال، بل أدعه للتفصيل تفاديًا من التكرار، وكذلك الحق السياسي وحسبنا ما كتبناه اليوم. (يُنظر الجزء التالي) ((يتبع بمقال تالٍ))