سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء، وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد سلوًا؟ هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [١] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [٢] ولا غطرسة الأفغاني بأشد على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [٣] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا تنجب أمثال عبده وعثمان [٤] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة ... [٥] . مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية. (لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة: ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر ولم يوقف لهم فيه على أثر! ! إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم وطمبروا [٦] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم فاستعملوا معك سلطة الحكومة [٧] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين يوفون أجرهم بغير حساب؟ ! (لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ! دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع. حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة - وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [٨] ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [٩] . وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل، والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم. أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون. (أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع! ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا: (أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ ! فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك. وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة، فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم. ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من إصلاح أمة من الإسلام! عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه. (المنار) هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده. أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ ! وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات والجرائد النافعة والكتب المفيدة. نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.