للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها

(أول من وضع الكتابة في العالم عرب اليمن، وعنهم أخذ الفينيقيون
الذين هم من عرب البحرين وما جاورها، وعنهم أخذ اليونان. والحروف اللاتينية
لا تصلح للغة العربية، ولا للشعوب العربية والإسلامية أبدًا) .
بحث وتحقيق للأمير شكيب أرسلان
كان أمير البيان قد كتب مقالاً في تفنيد ما انخدع به بعض كتاب العربية
المتفرنجين من استحسان تقليد الترك الكماليين في شر ما جَنَوا به على لغتهم
وثقافتهم، ومدارسهم وصحافتهم، إتمامًا لما جنوه على دينهم وآداب ملتهم، وهو
كتابة التركية بالحروف اللاتينية، ونشر هذا المقال في جريدة العهد الجديد التي هي
من أخلص الجرائد العربية لأمتها ووطنها وأقدرها على خدمتها، ثم استزاده بعض
المعجبين بتحقيقه لأمثال هذه المباحث فراجع فيه قبل إتمامه بعض كبار المحققين
من علماء أوربة، ذلك وفي مقدمتهم الأستاذ (مورتيز) الألماني المعدود من أشهر
علماء هذا الفن في العالم كله، وله فصل طويل في الكتابة العربية نُشر في دائرة
المعارف الإسلامية، والأستاذ (هس) السويسري مدرس الألسن الشرقية في جامعة
(زوريخ) وهو من أصحاب القدم الراسخة في تاريخ الخطوط عامة والخط العربي
خاصة، وقد تلقى عنه أستاذنا الإمام الخط المسند في سويسرة، كتب إليه الأمير في
ذلك وتلقى عنه مقدمة لجوابه مع وعد بتتمتها، وكتب أيضًا إلى الأستاذ ليتمان
الألماني العلامة الشهير يستوري زنده في الموضوع فلم يجده في برلين لأنه كان
بمصر.
وكان ذاكره في هذا البحث مرارًا، ثم جاء برلين، وبحث مع الأستاذ مورتيز
في المسألة زهاء ساعتين، وشرع بعد ذلك في كتابة خلاصة هذه المباحث، وأرسل
ما كتبه إلى جريدة العهد الجديد فنشرته متفرقًا في شهر شوال الماضي.
المقالة الأولى
قال الأمير بعد مقدمة ذكرنا خلاصتها آنفًا:
الأستاذ (موريتز) يرى ما يراه هذا العاجز، وما كان سبق لي ذكره في مقالة
بهذه الجريدة، وفي مقالات أخرى من قبل، وفي تصريح صرحت به في أيام
الحرب لإحدى الجرائد الألمانية وهو أن الخط العربي الحالي الذي يسميه علماء
الخطوط بالخط النسخي هو نوع من الاختزال (الستينوغرافيا) وأن العرب لم
ينتقلوا إليه من الخط المسند الحميري الذي كانت حروفه منفصلة إلا حبًّا بالسرعة،
ومن بعد أن استبحر العمران، وكثرت العلائق التجارية عند العرب.
والأستاذ مورتيز موافق لي على القول بأن طريقة العرب في الخط النسخي
هي الطريقة التي يجدر أن يقال لها طريقة عصرية، وأن فيها اختصارًا لائقًا بكتابة
الأمم التي ازدحمت أشغالها وتناهت مدنيتها، وأن فيها أيضًا توفيرًا من الوقت ومن
القرطاس.
ثم إن الأستاذ موريتز يصرح تصريحًا لا مجال معه لأدنى مراجعة بأن
الحروف اللاتينية لا تصلح أبدًا للسان العربي، وأن اللسان العربي بالحروف
اللاتينية لا يمكن أن يُعرف.
ومن بعد أن قررنا هذا نقلاً عن هذا العلامة الشهير المشار إليه بالبنان في
الشرقيات لا سيما علم الكتابات السامية - يحسن أن نذكر خلاصة آرائه في تاريخ
الخط البشري.
فالأستاذ موريتز يذهب إلى ما هو معروف عند جميع العلماء من أن الكتابة
وقعت بالتدريج، وأنها كانت في البداية صورًا تامة، فإذا أريد التعبير عن الأكل
مثلاً رسم الكاتب صورة رجل يأكل، وإذا أُريد التعبير عن النوم رسم صورة رجل
نائم على فراشه، وإذا كانت العبارة عن الضرب رسم رجلاً يضرب رجلاً آخر
وهلم جرًّا، وهذا الخط التصويري الذي يسمى بالهيروغليف في مصر وبالمسماري
في العراق والذي منه آثار عند قدماء سكان أمريكا قد مست الحاجة إلى اختصاره،
وفي الصين لا يزال التصوير غالبًا على الخط.
يقول البروفسور موريتز: إن أول واضع للكتابة على شكلها الحالي منتقلاً
من الصورة التامة إلى الإشارة الجزئية يجب أن يكون رجلاً عربيًّا من أهل اليمن
ويقول إن الأستاذ ليتمان يرى هذا الرأي نفسه.
ويضرب مثلاً فيقول: كانوا في عهد الكتابة بالصور إذا أرادوا ذكر العين
صوروها كما هي أي هكذا (.) ثم عندما أرادوا الكتابة بالإشارات المختصرة عن
الصورة جعلوا حرف العين بصورة العين الباصرة فجلعوا حرف العين هكذا (٥
أو ع) ثم إن الباء مختصرة من صورة البيت فالبيت صورته هكذا D، كما لا
يخفى لأن الأصل في البناء يكون مكعبًا، فعندما أرادوا الاختصار رسموا البيت
هكذا (ب) وتجد أن هذه هي صورة حرف الباء المشتقة من البيت، أما نقط الباء
فهو متأخر العهد، والعلماء مجمعون على أن النقط في العربي لم يقع الاصطلاح
عليه إلا في القرن الأول للهجرة.
ويستدل الأستاذ على أن بداية الخط وقعت عند عرب اليمن بما يأتي:
أن المدنية البابلية ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، وإذا رجعنا إلى
حفريات الإنكليز والأمريكيين الحديثة في (أرز) الكلدانية نجد أن مدينة بابل كانت
زاخرة مستبحرة العمران قبل المسيح بأربعة آلاف سنة.
والقرائن تدل على أن مدنية بابل جاءت إلى بابل من بلاد العرب.
ووجدت في بابل أسماء (حمورابي) و (عميصادق) وهي هذه الأسماء
نفسها وجدت في اليمن بلفظ (عمي رافع) و (عمي صادق) وإنما تحرف في
بابل قليلاً، ومن هذا وغيره استدل علماء الآثار على أن أصل المدنية البابلية هو
من اليمن.
وأما (الألف باء (Alphabet) فقد وجدت في اليمن، بل في الدنيا كلها
قبل المسيح بألفي سنة، وأقدم خط عربي وُجد في اليمن، ويقال له المسند، وقد
أخذه الفينيقيون وأدخلوا عليه بعض تغييرات، هذا هو رأي المحققين الذي عوَّلوا
عليه أخيرًا بعد أن كان العلماء يظنون أن الفينيقيين هم الذين سبقوا الأمم كلها إلى
الكتابة.
ولعل الذي حمل علماء أوربة على نسبة إيجاد الكتابة إلى الفينيقيين هو كون
اليونان أخذوا الكتابة عن هؤلاء، وكان ناقل الكتابة من الفينيقيين إلى اليونان رجلاً
اسمه (قدموس) ومعناه (شرقي) .
فاليونان يعلمون أن الكتابة وصلت إليهم من الشرق، وهم نشروها في الغرب،
وكان اليونان يكتبون نظير الشرقيين من اليمين إلى الشمال، ولم يكتبوا من
الشمال إلى اليمين إلا فيما بعد، ولم يكن عند اليونان بادئ ذي بدء سوى عشرين
حرفًا، ثم صاروا يزيدون عليها.
وأما الخط الأقدم وهو المسند الذي هو أصل الخطوط كلها فهو ثلاثة أنوع،
وكلها كانت حروفها منفصلة كالحروف الإفرنجية الآن، وهذه الأنواع الثلاثة هي
الخط اللحياني والثمودي والصفاءلي (نسبة إلى حرَّة الصفاة التي وُجدت فيها
كتابات بهذا الخط) .
ومن الخطوط العربية الخط السبآءلي، قيل إنه وُجد قبل المسيح بستمائة سنة
إلا أن العلامة موريتز يقول إنه وُجد قبل المسيح بألفي سنة.
ومن الخط السبآءلي نوع جديد وُجد منه كتابات في الرحبة شرقي جبل الدروز
ترجع إلى ما بعد المسيح بثلاثمائه سنة، ووجدت خطوط سبائية بين الكتابات
اليونانية التي وُجدت هناك.
والخط الثمودي هو قبل السبآءلي، وهو والصفاءلي مختصران من المسند،
ومن هذه الخطوط جاء الخط النبطي الذي هو أول خط وُصلت فيه الحروف بعضها
ببعض (Corsif) والخط النبطي هذا هو أصل الخط العربي الموصول المسمى
بالنسخي، وقد تسنى للعلماء بحسب ما حققوه إلى هذا اليوم تتبع سير الخط العربي
منذ أول إيجاده إلى أن تقرر الخط النسخي الحالي، وأن هذه الآراء هي نتيجة ما
انكشف إلى الآن وستبقى معولاً عليها إلى أن يجد في الحفريات ما يغايرها أو يعدلها.
المقالة الثانية
تقدم لنا في (العهد الجديد) ذكر آراء بعض العلماء المستشرقين المتخصصين
في أمر الكتابات السامية، ومنهم الاستاذ موريتز الألماني الذي هو مجمع على أن
أقدم من كتب على وجه الأرض هو رجل عربي من اليمن، وعلى أمر آخر وهو
أن اللغة العربية لا يجوز أن تكتب إلا بالحروف العربية.
وإني لناشر غدًا ما دار بيني وبينه من المباحثات الشفوية هذه المرة جوابًا
بعث به إلي إلى لوزان منذ نحو شهرين، وسأنشر له خلاصة بحثه عن الكتابة
العربية في (الإنسيكلوبيديا الإسلامية) التي بدأت بها لجنة من العلماء قبل الحرب
ولما تكمل، أما نص كتابه الأخير فهو هذا (بعد الترجمة) :
(ألف شكر لك على كتابك اللطيف، وعلى ما تمنيته لي بمناسبة دخول
السنة الجديدة التي ننتظر منها الاستمتاع بصحة جيدة والعون في إيصال أشغالنا إلى
غاية حسنة.
في الفصل الذي حررته في إنسيكلوبيدية الإسلام على الكتابة العربية قد فاتني
بعض تفاصيل لم يتسع لها المقام، فالكتابة النبطية التي تُشتق منها الكتابة العربية
(يريد الكتابة الحالية) هي ذات شكلين: (أحدهما) الشكل العادي الأقدم الذي منه
كتابات على المباني الباقية من الأعصر الأولى، ومنه الكتابات الرسمية، وحروف
هذا الشكل ليست متصلة بعضها ببعض (والثاني) الشكل المتصل وهو الشكل
الذي اختير له الاختصار والبساطة لأجل الكتابات اليومية، وقد وصلوا فيه
الحروف بقدر الإمكان حبًّا بالسرعة.
ولا شك في أن هذه الكتابة الموصولة قد جرى الاصطلاح عليها في المدن
التجارية الكبرى مثل بتراء ومكة حيث كانوا يشعرون بالاحتياج الشديد إلى أن
يكتبوا سريعًا وكثيرًا، وأنه يوجد كتابات حجرية من القرن الثالث والقرن الرابع
قبل المسيح ليست من الكتابات الرسمية، يتجلى لك فيها هذا الشكل الجديد بكل
وضوح.
وأما من القرن الخامس قبل المسيح فلم تُوجد كتابة من هذا الشكل كما أن
كتابة زيد بقرب حلب وكتابة حران هي من الخط العربي الكوفي، وأما أصل
تسمية هذا الخط بالكوفي فلا أزال من أمره في ظلمات، ويحتمل أن تكون دولة لخم
الصغيرة في الحيرة قد اصطلحت على خط مشتق من الخط السوري، وقد أعطي
هذا الخط اسم الخط الكوفي لأن الكوفة هي خلف الحيرة - كما لا يخفى - فكأنهم
أرادوا إعطاءه اسمًا يميزه عن الخط السوري إلا أن هذا الافتراض لا يزال محتاجًا
إلى أدلة من كتابات على الحجر أو في الورق وهذه لَمَّا توجد.
وأما النقط فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة وذلك على
كتابات المباني والمسكوكات المضروبة وعلى البردي، وكان الباعث إليها حس
الاحتياج إلي الفرق بين بعض أحرف الخط المتصل التي بوصلها بعضها مع بعض
تشابهت كثيرًا، ويظهر أن أقدم النقط هي نقطة الباء (ب) ونقطة الذال (ذ) وقد
وُجدت مؤخرًا قطعة سكة قديمة من مجموعة البارون أوبنهايم عليها الكتابة الآتية هكذا
(ضُرب هذا الدينار سنة سبع ومائتين) انتهى.
وإليكم هذا المكتوب الآخر من الأستاذ هس المستشرق الشهير الذي يدرس
الألسن الشرقية في جامعة زوريخ، وهو ممن أقاموا مدة مديدة في مصر، وعرفوا
بلاد العرب، وكانت له صحبة متينة العرى مع المرحوم الشيخ محمد عبده،
وعندما ساح الأستاذ الإمام في أوربة نزل ضيفًا على البروفسور هس في منزله في
فريبورغ، ولقد تمكنت الصحبة بيني وبين الأستاذ المشار إليه منذ نحو عشر
سنوات، ففي هذه المدة استطلعت رأيه في بعض مسائل تتعلق بالكتابة العربية
فصادف كتابي إليه أنه كان ملتاثًا فكتب إلي ما يأتي:
(يا أميري العزيز لم أكن قويًّا أصلاً عندما وردني بهذا الصباح كتابك الثاني،
وإني مع ذلك أسالك العفو، فمنذ ثمانية أيام أنا عليل بالنزلة الوافدة، وعندما جاءني
كتابك الأول لم أظفر بالوقت الكافي لأجاوبك إذ كانت الأسئلة التي ألقيتها علي
تقتضي لجوابها لا أقل من نصف نهار، وسأجاوبك عليها قريبًا، وإنما أكتفي الآن
بالجواب على نقطتين: الأولى هي أن جميع العلماء يذهبون إلى أن الفينيقيين هم
الذين اخترعوا الكتابة وحروف الهجاء السامية، وسأعطيك البراهين على أنه ليس
الأمر كذلك، فأما الكتابة العربية فيجب التمييز جيدًا بين الكتابة المعينية والسبائية
مما يسميه علماء العرب الخط المسند أو خط حمير، والكتابة العربية الشمالية
المسماة بالنسخي؛ فإنه لا تعلق لإحدى الكتابتين بالأخرى، وليس عندنا شيء من
العلم عن أصل (الألف باء) السبائية التي فيها عدة من الحروف لا توجد في
الفينيقية، أما الحروف الهجائية الشمالية التي أقدم أشكالها تشابه تمامًا النسخي الحالي
(بدون تنقيط كما لا يخفى) فهي مشتقة من حروف الهجاء النبطية، وأن أقدم كتابة
عربية بلغة عرب الشمال التي عندنا في القرآن هي المنسوبة إلى مر القيس (امرئ
القيس ابن عمرو) التي وجدت في (عارة) بقرب دمشق، وتاريخها سنة ٣٢٨ بعد
المسيح وحروفها نبطية، والخط النبطي حروفه موصولة مثل النسخي.
وأنت تدري أن الكوفي هو مشتق من النسخي (وبعضهم ذهب إلى أن
النسخي مشتق من الكوفي) وقريبًا أكتب إليك مطولاً ... إلخ) انتهى، فمتى
وردني كتاب الأستاذ (هس) الثاني أبادر إلى نشره، وقد يصيب الإنسان في نشر
منقوله أكثر مما يصيب في نشر مقوله، لاسيما إذا كان لا يتوخى شيئًا سوى الفائدة
وتجلية الحقيقة، وهذا لا يمنعنا من تعليق ملاحظاتنا الخاصة عند اللزوم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان