ورد إلينا ما يأتي من حضرة الكاتب الفاضل عبد العزيز أفندي محمد وكيل النيابة في محكمة الزقازيق، فتلقيناه بالقبول مُقرِّين بفضله شاكرين له سعيه وهو: حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة (المنار) المفيدة: لما رأيت أن مجلتكم التي هي مجنى الفوائد العلمية وملتقى الشوارد الحكمية قد وسعت في صفحاتها مكانًا لنشر ما يختص بالتربية والتعليم، ورأيتكم تنتقون من ذلك أقوم الطرق وأجلها أثرًا - رجوت أن تتفضلوا عليّ بتخصيص موضع وإن صغيرًا منها أُقدم فيه لقراء هذه المجلة كتابًا جليلاً في التربية العملية، أنا مشتغل بنقله من الفرنساوية إلى العربية، وأود نشره فيها تباعًا، الكتاب من تصنيف الحكيم المربي ألفونس أسكيروس سمّاه (أميل القرن التاسع عشر) عارض به الحكيم الشهير جان جاك روسو في كتابه المؤلف في التربية المسمى (أميل القرن الثامن عشر) . هذا الكتاب النفيس حكى فيه مؤلفه حكاية زوجين فرنساويين قضى عليهما الله بالتفرق لسجن الزوج في فرنسا بسبب جريمة سياسية على ما يظهر، واغتراب الزوجة في إنكلترا، وقد شعرت الزوجة في أوائل أيام الفراق أنها حُبلى، فأخذت تكاتب زوجها ويكاتبها في طرق التربية اللازم اتباعها في شأن الولد، وقد تضمَّنتْ هذه الرسائل من تلك الطرق أصحها وأكفلها بوصول الإنسان إلى السعادة، ولا أريد أن أطيل في وصفها ففي الاطلاع عليها غناء. وفي هذا المقام يجب عليّ أن أخلص الشكر لحضرة الأستاذ الأكبر صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية؛ فإنه - حفظه الله - هو الذي نبهني إلى هذا الكتاب المفيد، وحثني على ترجمته ونشره كما هو شأنه في الإرشاد إلى كل ما ينفع الأمة والوطن، فجزاه الله عنهما خير الجزاء. وها أنا ذا مقدم لحضرتكم ما تيسر لي الآن تعريبه، وواثق منكم بقبول ما طلبته، ولكم مني ومن الناس خالص الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد العزيز محمد)
(أميل القرن التاسع عشر) (الباب الأول) (الأم)
من الدكتور أراسم إلى زوجته في ٣ يناير سنة -١٨٥ [١] قد مضى عليّ يا عزيزتي هيلانة ثمانية أيام طوال، عجزت فيها عن الكتابة إليك، وأعوزتني العبارة التي أرضاها لوصف ما أعانيه من مضض الألم، ليس ما يقاسيه الأسير من عذاب الأسر هو الحرمان من الغدو والرواح، والعجز عن الشيء مطلق السراح، بل عذابه الأكبر هو ضيق الصدر وابتئاس النفس، تلك القباب التي تواجه المسجون نفسها، وتلك الأعمدة ذاتها، وتلك الدهاليز بعينها هي التي تبلبل منه الأفكار وتوقعه في الدوار حتى يقذفه هذا العناء في مهواة الفناء، وهذه الأحجار- أحجار البناء - تمسخه فتحيله حجرًا مثلها. في أول عهدي بالسجن كنت صنمًا لا أرجع للناس قولاً، ولا أملك لهم ولا لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وكدت أعدم حركة الفكر وبقايا الشعور، بل كان يخيل لي أني فقدت وجودي، وفنيت عن نفسي، وانتقلت حياتي إلى السجن نفسه لحصره إياي في دائرة من الوجود مشؤومة صناعية لا جولان للفكر فيها، وإني أؤكد لك أن مَنْ هذه حاله يلزمه عمل كبير للرجوع إلى وجوده، وهذا العمل قد قمت أنا به، والآن قد ثابت إليّ نفسي وأصبحت مالكا لحسي، لا ترجنّ مني أن أصف لك.... فإن المسجون قلّما يعرف ما يسكنه من المحال، وإني قد نقلت من.... في غروب الشمس، ولما وصلنا إلى السجن كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يبق لي من الضياء إلا بقية لا أكاد أميز بها غير الأشباح السوداء لبروج السجن الصغيرة، وأسهمه وأسنته الحجرية المتطاولة إلى السماء المظلمة، وكان يخيل لي أن البناء قصر شيد بالظلمات، نزلنا من العجلة وصعدنا مشاة إلى طريق مدرّج منحوت في الصخر ومؤدٍ إلى سجن الحكومة، وكنت أمشي وأراني كأني في حلم، ومع هذا فقد راعني منظر شيئين، وهما الجمال الباهر في بناء السجن المتوج لقمة الجبل المظلم، والبحر التي تصطخب أمواجه وتضطرب، وقمة هذا الجبل ليست إلا قطعة من الصوان برزت من صحراء رملية، ورمل هذه الصحراء يمتد إلى البحر وعليه علائم الكآبة والحزن، وكنت أميز المحيط من بعد في ضوء الصفائح المائية المضطربة، وليس الحال كذلك في جميع الأوقات؛ لأن المحيط في إبان المد يغمر الساحل ويعلو ويصطخب ويحدق بالجبل من كل جانب فتتكسر عليه أمواجه. يصل النور إلى مخدعي من السجن - وهو مقابل للمحيط - من كوة صغيرة ككوى الأسلحة النارية في المعاقل، أو كالذي يسميه المهندسون (بربخًا) فكانت على ضيقها مسرحًا للنظر لا نهاية له، وهي من الارتفاع بحيث لا أشاهد منها سطح البحر إلا قائمًا على أطراف أصابع الرجلين، فإذا جلست لا يبقى لي ما أُمتع به نظري إلا السماء، ولا بأس في ذلك علي، أليس لي بمشاهدة السماء جزء من الكون؟ ! إني أشاهد في ساعات كاملة طائفة من ظواهر هذا العالم لم تكن تستلفتني إليها إلى هذا العهد وهي ألوان الضوء المتغيرة والصاعقة، وحبوب الثلج المتناثرة، والضباب والجمال الخيالي المظلم للأحداث الجوية، غيري من الناس يحب أن يشاهد السماء في البحر حيث تنظر في مرآته السحب إلى نفسها، أما أنا فعلى العكس منها، فإن البحر بالنسبة إلي هو الذي ينعكس على السماء فأراه في مرآتها. قد رأيت مما ذكرت أن لي منفذًا أشاهد منه العالم، فما الذي يمنعني من أن أتخيل في السحب سلاسل جبال، وفي سهول الأثير أريافًا ومزارع زرقًا، تلك المناظر الخلوية المعلقة في الهواء ليست كما أعلم إلا ظلالاً طافية لأفكاري وما أتذكر من معلوماتي، تبعث الإنسان وحدته على البحث في خياله عن صور الأماكن التي عرفها، والأشخاص الذين أحبهم، فأنا الآن بسبب استحضار مرائي ماضي الجميلة في حيز من النور قد انفتح فوق رأسي، وفي هذا الحيز أراك، هل أقدر على أن أصير خياليًّا؟ إن كان ذلك فهذا آخر عقاب لعقل لم يشتغل منه عشرين سنة بغير العلوم الحقة على أنني لست أشكو من شيء، فطوبى لمن يمكنه عند سقوطه أن يرتكن على فكرة أنه دافع عن حوزة القانون، وكان سبب دفاعه حقًّا، وإذا كنت أتألم فليس ذلك إلا لأني كنت سببًا في تألمك. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))