للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد الشبهات عن الإسلام
السلطتان الدينية والمدنية

نحن المسلمين نعتقد أن دين الله تعالى واحد في جوهره وأن البيان والهدى فيه
إنما يختلفان باختلاف الأزمنة وأن الناس كانوا في كل زمان يأخذون من هداية الدين
بقدر استعدادهم، وأن حالة الاجتماع في الأمم السابقة كانت قاضية بإضاعة كتب
الدين كلها أو بعضها إذا طال الأمد على من جاء بها، وأن أقرب الملل ظهورًا من
الإسلام لم تسلم من هذه الإضاعة، وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حفظ كتابه
كله وظهر في وقت ارتقت فيه حالة الاجتماع حتى يمكننا أن نحكم بأنه لم تتلاش
ثمرة من ثمار العقول بعد الإسلام ولن تتلاشى فهو مبدأ تاريخ جديد في البشر.
قلنا: إن أقرب الملل زمنًا من الإسلام لم تسلم من الضياع، وظاهر أننا نعني
اليهودية والنصرانية فكل من الفريقين قد فقد السند المتصل لكتبه المقدسة فهو غير
موجود قولاً ولا كتابة، وهذا هو المراد بقوله تعالى فيهم: {أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَابِ} (آل عمران: ٢٣) وقوله عز وجل في كل منهما: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) والحظ بمعنى النصيب أي أنهم حفظوا بعض ما أوتوه
ونسوا بعضه، ومتى ذهب بعض الدين صار الباقي غير موثوق به وإن سلم من
التحريف فيه والإضافة إليه، فكيف إذا لم يسلم، وقد أنزل الله تعالى القرآن
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: ٤٨) والمراد بالكتاب
الجنس والمهيمن المراقب الذي عنده نبأ ما يرقبه، فما صدقه القرآن من تلك الكتب
فهو من النصيب الذي أوتوه، وما أخبر به وليس موجودًا فهو من الحظ الذي نسوه،
وما كذبه فهو مما زادوه وأضافوه فهو الحكم العدل، وإنه لقول فَصْل وما هو
بالهزل، وكان الواجب أن يُحكموه فيما شجر، وينتهوا عما نهى ويأتمروا بما أمر،
وكذلك فعل المُوفَّقون، وصد عنه الآخرون، والسبب في الصدود هو السلطة
الدينية التي جعل ذووها الدين لمصلحتهم تقليديًا محضًا؛ عقود عقائده بأيدي الرؤساء
مثل الأحبار والأساقفة يقلدونها الناس ويحمونهم سواها وينشئون الأحداث، من
الذكران والإناث على اعتقاد وجوب التسليم لهم، والرجوع في كل أمر الدين إليهم،
ولا يزال أثر هذه التنشئة ظاهرًا فيمن يتربَّى في مدارس القسيسين فتراه يناظرك
في المسألة فإذا قامت عليه حُجّتك قال إن هذا الذي تقول ظاهر في نفسه ومعقول،
ولكنه من أمر الدين والقسيس يقول بخلافه ولا قول في الدين إلا ما يقول القسيس
ولا يشترط أن يكون قوله معقولاً ولا مفهومًا! !
فإذا قال النصراني: إن السلطة الدينية مثار التعصب الذميم، ومبعث العداوة
والبغضاء بين الجيران والأقربين، والحجاب دون المساواة بين أهل الوطن الواحد
في الحقوق، والقيد الذي تُقَيَّد به الإرادة والعزيمة، والغل الذي يغلل به العقل
والفكر، فالمسلم يصدقه ولا ينازعه يصدقه حامدًا لله تعالى أن ليس في دينه طائفة
جعل لها الإسلام حق السيطرة على العقول والأرواح تودع فيها ما تشاء وتحرمها
مما تشاء، وتتصرف في المسلمين باسم الدين كما تشاء، ثم يلتفت فيرى أن المسلمين
الذين قلدوا الرؤساء الروحيين عند النصارى لم يبلغوا أن صار لهم سلطة حقيقية
منتظمة يحاسبون بها الأفكار على خواطرها والعقول على معارفها بل هؤلاء هم
الذين كانوا يتسامحون مع الفكر والخيال ما لا يتسامح غيرهم ويعدون كل معرفة
تقرب من الله تعالى؛ لأنهم يقولون: إن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، ثم يلتفت
من جانب آخر فيرى أن هؤلاء المقلدين في السلطان الروحاني لا تعظم سلطتهم إلا
حيث يصغر العلم بالدين، ولا يقوى نفوذهم إلا حيث يضعف نفوذ الحكم الإسلامي،
وما عز لهم سلطان في مكان، إلا وكان وبالاً على المسلمين والإسلام، فإن كنت
نسيت حوادث مَهْدِيّ السودان، فأمامك حادثة خارجي مراكش الآن.
للعلماء والعقلاء والكُتّاب والخطباء أن يقولوا في السلطة الدينية النصرانية ما
شاءوا، ولهم أن يسعوا في فصلها وإبعادها عن السلطة المدنية ما استطاعوا، فإنها
سلطة كانت ولا تزال ضارّة حيث وُجِدَتْ وتوجد، وكان معظم ضررها أيام كانت
مقرونة بالسلطة المدنية، لهم أن يسموها سلطة فإن لها في كل مملكة رئيسًا عامًّا
يولي سائر الرؤساء في المملكة، وهؤلاء الذين هم أركان سلطته منبثون في كل
مدينة وفي كل قرية ولا يوجد حكام مدنيون في جميع القرى والمزارع كما يوجد
هؤلاء الحكام الروحانيون، ولهم أن يعادوا هذه الحكومة ويقاوموها، ولهم أن
يضعفوا من شوكتها ويضعفوا من صولتها، ولهم أن يعذروا الأمة الفرنسية إذا
حاولت اصطلام هذه السلطة بالكلية، فالمسلم يعذرهم في كل هذا؛ لأنه من
الإصلاح الذي جاء به الإسلام كما ألمعنا في صدر هذا المقال فمن لم يأخذه من
الإسلام مباشرة فله أن يأخذه من نظام الفطرة إذا هداه العلم إليه، وما الإسلام
إلا دين الفطرة الهادي إلى نظامها وسنن الله فيها.
ومن الظلم البين أن نرمي الإسلام نفسه بتقرير السلطة الدينية المعروفة عند
النصارى، والإسلام هو الذي أبطل كل سلطة يكون بها فريق مسيطرًا على روح
فريق وحاكمًا على حريته في غير ما يحرمه الشرع على كل رئيس ومرؤوس أو
يطالب به كل رئيس مرؤوس، إن الذين اتبعوا سنن من قبلهم وقلدوهم في مثل هذا
الأمر لم يتقنوا التقليد، وكان روح الإسلام مانعًا أن يبلغوا منه كل ما أرادوا، ولكن
الإسلام لم يسلم من أعداء يلصقون به كل عيوبهم ويقولون عليه الكذب وهم يعلمون،
نعم إنهم يعلمون أنهم يخلقون عليه إفكًا؛ لأنهم اطلعوا على ما كتبنا وكتب بعض
الأئمة في بيان نفي هذه السلطة، ثم يفتؤون يعيبون الإسلام بها ولهم غرض
يرمون إليه وراء تشكيك المسلمين في دينهم وتنفيرهم منه، وقد أشرنا إليه في
مقال مضى ووعدنا ببيان الحق فيه كما بيناه في غير ذلك من شكوكهم وشبهاتهم.
* * *
(شاهد في الموضوع الأول)
صدّرنا العدد ٢٢ من منار السنة الأولى بمقالة في (سلطة مشيخة الطريق
الروحية) قلنا أولها: (لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه، ومرت عليه
أجيال وأعصار، وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين
للقائمين عليهما النفوذ التامّ في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما سلطة
الدين وسلطة السياسة - أو كما يقول أهل العصر - السلطة الروحية والسلطة
الزمنية) .
ثم قلنا بعد كلام في حال هاتين السلطتين وتأثيرهما وحال الأمة التي تحكم
بهما ما نصه:
(وبالجملة إن أُمَّة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقِدْح الراكب لا تثبت على
حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضِعَة وعلم وجهل
وسعادة وشقاء فقد كان مرجعه إلى تصرف الأمراء والحاكمين، والرؤساء الروحيين،
ولقد كان الشرّ أغلب على الأمم من الخير والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن
الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت
وقد يهدم الرئيس الجاهل الغويّ في مدة قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال
الطويلة.
ولهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نَيْلها أو كمالها على تحديد القوانين
والشرائع الروحية والزمنية (المدنية) وجعل الناس فيها شرعًا (أي سواء) لا
مزية لرئيس على مرؤوس إلا بما يمتاز به المرؤوسون بعضهم على بعض وبما لا
تقوم الرياسة بدونه كوجوب الطاعة للسلطان ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء
الشريعة والقانون، ولكن لم تأتِ شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا
التحديد والمساواة حتى جاءت الديانة الإسلامية فحدّدت الشريعتين (المدنية
والروحية) معًا وجعلت الناس فيهما سواءً، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم
والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا
بالحُجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) فسّر العلماء البصيرة بالحجة الواضحة، وقوله
تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) .
(وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي
قائلين: هل هذا شيء قلته مِنْ عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو
من عندي جاءوا بما عندهم من الرأي، وربما رجع النبي إلى رأيهم كما جرى في
بعض الغزوات (منها بدر وأحد) وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام
عليًّا مع رجل من آحاد يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعد المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه
وبين خصمه؛ لأنه كنَّاه وسمَّى خصمه وفي التكنية تعظيم وتعظيم أحد الخصمين
ولو بمثل هذا مُنافٍ للعدالة والمساواة، وراجعت امرأةٌ عمرَ وهو على المنبر في
مسألة تحديد المهر محتجة عليه بآية {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: ٢٠) فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وأَبْلَغُ من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا
نصل له ولا ريش) في بطنه وهو مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر فقال: قد
أوجعتني فأقْدِني: فكشف له عن بطنه ليقتص منه فطفق يتمسّح به، وكان ذلك منه
توسُّلاً للتوصل إلى هذا الشرف العظيم وآذن الناسَ قبل موته بأن من له حق عنده
فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه وأَذِنَ لرجل أن يضربه حين ادّعى أنه
ضربه يومًا فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر: (شك من الراوي)
فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية.
(والنتيجة أن الإسلام قرَّر العبودية لله وحده والحرية في ضمن دائرة
الشريعة والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وإطلاق الإرادة والفكر من
سلطة كل زعيم وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا
كاملاً لله حرًّا كاملاً بالنسبة لِمَا سواه) .
هذا بعض ما قلناه في المسألة من نحو خمس سنين وبعده كلام في سلطة
مشيخة الطريق كيف ظهرت وماذا أعقبت.
* * *
(مجمل الدلائل على نفي السلطة الدينية في الإسلام)
(١) أَقْوَى الدلائل على أنه لا سلطة دينية في الإسلام كما في النصرانية
تحديد وظيفة الرسول في القرآن بأنه مُبَلّغ لا مسيطر ولا وكيل ولا جبار على
الناس قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) وقال عز وجل:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: ٢٧٢) : وقال عز اسمه:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: ٤٥) وقال تبارك شأنه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) وقال تعالى جَدّه: {فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) وقال جل جلاله:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: ١٠٧) فأين هذا كله من ملة يدّعي رؤساؤها
أنهم وكلاء الله في الأرض؟ هل يقاسُ النقيض على النقيض؟ ؟
(٢) سيرة النبي عليه السلام فقد سمعت آنفًا أنه كان يَقيد من نفسه ويرجع
عن رأيه إلى رأي أصحابه، وأَعْجبُ من هذا أنه رجّح الرأي الموافق لرأيه في
مسألة أسرى بدر وكان الرأي الآخر هو الأصلح فعاتبه الله عتابًا شديدًا حتى بكى
عليه الصلاة والسلام.
(٣) سيرة الخلفاء الراشدين كما سمعت آنفًا عن عمر، ويُؤْثَر مثله عن
سائرهم ولم تكن سيرتهم في المساواة وفي تحكيم الأمة بأنفسهم من مزاياهم
الشخصية، وإنما هو شيء أخذوه من القرآن ومن السيرة النبوية كما علمت وإنما
مَزِيَّتهم أنهم فهموا الإسلام كله وكانوا أشد من غيرهم غيرة عليه وعملاً به.
(٤) لو كان الإسلام شرع هذه السلطة المعروفة في الملل السابقة عليه من
البوذيين والبراهمة والإسرائيليين والنصارى أو أجازها لوُجِد لها في المسلمين
نظام ورؤساء كما وُجِد عند غيرهم ولكن شيئًا من ذلك لم يوجد وإنما وُجِدَتْ طائفة
تصدت للتربية والإرشاد ثم انقسمت إلى طوائف وجماعات ولم يكن لهم سلطة على
أحد وإنما يتبعهم مَنْ شاء باختياره ولم يسلموا مع ذلك من رمي الفقهاء لهم
بالانحراف عن الدين ومن تفريق الحُكَّام شملهم، ولذلك لم يكن لهم ظهور إلا حيث
يضعف علم الدين وحكمه كما قلنا آنفًا، وأما لقب (شيخ الإسلام) فهو من اختراع
الملوك والأمراء الذين بعدوا عن المظهر الديني فاستعانوا بمن له هذا المظهر لأجل
التأثير في نفوس العامة المقلدين.
نعم إن السلطة الدينية وجدت على حقيقتها في طائفة الباطنية، ثم وجدت لهذه
الفكرة حكومة مدنية في العبيديين (الفاطميين) ولكن مذهب الباطنية ليس من
الإسلام في شيء ولذلك لم يستطع العبيديون أن يؤيدوه بسلطتهم تأييدًا ظاهرًا فيقال:
إن السلطة الدينية قد اجتمعت مع السلطة المدنية في طائفة تنتمي إلى الإسلام في
الجملة، فعُلِمَ مما تقدم أنه ليس في الإسلام سلطة دينية فما هذا الذي يعيب الإسلامَ
به بعضُ كُتَّاب النصارى وما هذه النصائح التي توجهها تلك الأقلام إلى الأمة
الإسلامية لتقنعها بوجوب الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية؟ الجواب: أن
المراد بذلك أن يترك المسلمون شريعتهم كما يُعْلم من الفصل الآتي.
* * *
(الشريعة والدين في الإسلام)
جرى عُرْف الكُتّاب الأوربيين ومن تبعهم من الشرقيين لا سيما كتاب
النصارى بأن يطلقوا اسم الدين على ما يتعلق بالاعتقاد بالله وبالوحي وما يعد به من
أمور الغيب وما يفرضه من العبادة ويخصوا كلمة الشريعة بما يتعلق بالمعاملات
والأحكام القضائية والمدنية والسياسية، وكل باحث في التاريخ من هؤلاء الكتاب
يعلم أن الإسلام جاء بدين وشريعة ومن ذلك قول بعضهم: إن محمدًا (عليه الصلاة
والسلام) كوّن في عشرين سنة أُمّة وجاءها بدين وشريعة ولم يتفق لغيره في العالم
الجمعُ بين هذه الأمور الثلاثة: فهؤلاء يعلمون أن الشريعة قسيمة الدين في الإسلام
وأن ما يدين به المسلمُ ربَّه وما يعامل به الناس كله مقتبس من نور واحد وهو نور
الوحي الذي أوحاه الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
لا فَرْق في الإسلام بين القسم الديني البحت والقسم الشرعي إلا في شيء واحد
وهو أن الاعتقاد والعبادة لمّا كانا لا يختلفان باختلاف الزمان والمكان وأحوال الأمم
وجب الاعتماد فيهما على الوحي في الجملة والتفصيل والكليات والجزئيات، وأما
المعاملات الدنيوية فَلاخْتلافها باختلاف ما ذكر قد وضع الإسلام لها قواعد كلية
وأصولاً عامة وفوّض استنباط الجزئيات التي تحدث إلى أولي الأمر العارفين
بمقاصد الإسلام وبأصوله العامة وقواعده الكلية فهم يبيّنون الأحكام بالشورى في كل
ما يحدث للناس من المصالح استنباطًا من تلك الأصول والقواعد، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:
٥٩) فذكر أولي الأمر بصيغة الجمع، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) ذكر أولي الأمر بصيغة
الجمع أيضًا وأناط بهم استنباط الحكم الذي يُحتاج إليه أو يُتنازع فيه.
ثم إن الأحكام الشرعية المنصوصة أو المستنبطة تحتاج إلى منِّفذين ولا بد أن
يكون لهؤلاء رئيس لئلا تكون الأمور فوضى، وقد سمي الرئيس الأول في الإسلام
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خليفة له، وسمي مَنْ بعده أمير المؤمنين
واستمر هذا اللقب.
ووظيفة هذا الرئيس حماية الدين وتنفيذ أحكام شريعته فليس هو مسيطرًا على
الناس في دينهم ولا مستقلاً بوضع الأحكام الشرعية لهم وإنما هو حافظ للنظام ومنفذ
للأحكام، وسلطته هذه كما نرى شُورِيّة لا مطلقة ولا استبدادية، ولكنّ الإسلام أوجب
عليه أن يعمل بالشرع وحرم عليه أن يكون شارعًا بنفسه وأوجب طاعته بالمعروف،
كما أوجب على الأمة إزالة سلطانه إن حَمَلَها على غير المشروع؛ فصح بهذا الاعتبار
أن يقال: إن السلطة المدنية في الإسلام مستندة إلى الدين أو إنها سلطة دينية،
ولكن لا يصح أن تشبه بالسلطة الدينية عند غير المسلمين ولا أن يجعل صاحبها
جامعًا بين سلطتين إحداهما على الأرواح والعقول والثانية على الأجسام والأعمال.
هذا هو ديننا وهذه هي سلطته فبماذا يطالبنا ذلك الكاتب النصراني،
وبماذا ينصح لنا؟ هو يطالبنا بأن نجعل رئيسنا المدني شارعًا ومنفِّذًا لما يشرعه لنا
من الأحكام، وينصح لنا بأن نترك شريعتنا القائمة على أصول ديننا ويزعم أن بناء
الشريعة على قواعد الدين وجَعْل الحُكّام حماة للدين ومنفذين له هو الذي أزال الدولة
العباسية، وفرق شمل الأمة الإسلامية، ومن رأيه أن المسلمين لا ينجحون ولا تقوم
لهم قائمة ما دام سلطانهم مكلفًا بالعمل بشريعتهم الدينية وتنفيذها! ! ! .
لو جمعت كل ما ورد من الكلم في جميع اللغات ليدل على معنى التعجب
وأضفت إليه كل أمارات التعجب ودلائله في الحركات والإشارات العضوية والقلمية
وقدرت على تصوير جميع انفعالات المتعجبين وتأثراتهم النفسية وألصقت ذلك كله
بهذه النصيحة النصرانية للأمة الإسلامية لما وفيت حق البيان في كونها عجيبة
غريبة مدهشة للمتعجبين! ! ! .
* * *
(شبهات المشكِّك)
(١) يقول هذا الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن غرض الدين في
الأرض مناقض لغرض الحكومة في الأرض، فكيف يجمع الإسلام بين النقيضين؟
ونحن نقول له: إن الإسلام جاء للإصلاح في الأرض وكل ما يناقض الإصلاح
فهو إفساد تجب إزالته، فالواجب أن يكون غرض الحكومة الإسلامية موافقًا لغرض
الدين الإسلامي، ومما لا خلاف فيه بين فقهاء الإسلام أن أحكامه الشرعية كلها
مبنية على قاعدة (درء المفاسد وجلب المصالح) فأي حاكم من حكامنا يقدر أن
يأتينا بشرع أصلح من هذا الشرع إذا نحن تركناه عملاً بنصيحتك وجعلنا الحاكم هو
الشارع؟ ؟ ؟ .
(٢) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن من التناقض بين
وظيفة الدين ووظيفة الحكومة أن الدين وضَع قواعد وتقاليد للعقل وطرقًا لسير الفكر
فقيّد بذلك الحرية العلمية، والحكومة لا تكلف الإنسان بأن يسير في فكره على
طريق مخصوص، وإنما هي حامية لحرية النفس وما يتبعها من المال والدم
والشرف. ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك؛ فدين الإسلام مناقض له غيرُ مناقض
لوظيفة الحكومة التي ذكرتها، وذلك أنه تقرّر فيه حرية العقل فلا يخرج المسلم عن
حكمه في عقائده (كما بينا ذلك في الجزء الماضي) . وتَقرّر أن أحكامه ترجع إلى
خمس قواعد يسمونها الكليات الخمس، وقد جمعها صاحب عقيدة الجوهرة بقوله:
وحفظ دين ثم نفس مال نسب ... ومثلها عقل وعرض قد وجب
(٣) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: يجب أن تكون الحكومة
مساوية بين من تحكمهم، وإن اختلفت أديانهم، وأن تكون حامية لهم على السواء
أيضًا والدين مناقض لها في ذلك، ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك فديننا مناقض
له لا لما يجب أن تكون عليه الحكومة، وذلك أن المساواة من أصوله، وقد أشرنا
في الفصل السابق من هذا المقال إلى مساواة عُمَر بين الإمام عليّ ورجل من آحاد
اليهود ومطالبة عليّ له بالمساواة في اللقب أيضًا وهذه مساواة لم تصل إليها حكومة،
ولن تصل إليها حكومة إلا أن تكون مقيمة للإسلام على حقه.
وأما الحماية فمن الأصول المأثورة في ديننا هذه الكلمة الجليلة (وأن نحميهم
مما نحمي منه أنفسنا) وهذه الكلمة الفُضْلى (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) .
(٤) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إنه ليس من شأن
السلطة الدينية الدخول في الأمور الدنيوية؛ لأن الأديان شُرِعَت لتدبير الآخرة لا
لتدبير الدنيا. ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك فديننا ليس كذلك فإنه شرع لبيان
مصالح الدارَيْن، والإرشاد إلى طرق السعادتين، فكيف تحكم على الأديان كافة بما
تعتقده في دينك؟ وهل كنت أنت الواضع للأديان كلها فتقولَ: إنني وضعت دين
الإسلام هكذا أيضًا وأهله قد زادوا فيه فأنا الآن أطالبهم بالرجوع إلى الأصل؟ إن
المسلمين لا يقبلون ذلك؛ لأن أئمتهم عرفوا الدين بأنه وضع إلهيّ سائق لذوي
العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه صلاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل.
(٥) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن الجمع بين السلطتين
يُضْعف الأُمة ضعفًا مستمرًا؛ لأنه يقتضي اضطهاد العقل والذكاء ويعرّض الحكومة
لثورة الأمة بإغراء عدوّ يثيرها عليها، ويكون سبب الشقاق الديني بين الطوائف التي
تتألف منها الشعوب ويعرّض الدين لأكاذيب السياسة ومفاسدها، ونحن نقول: إن كل
هذا قد وقع في دينه فلا ننكره وإنما ننكر قياس ديننا عليه وهو مباين له، وحسبنا
أن الذي وقع عندنا هو نقيض ما وقع عندهم فإن الحكومة الإسلامية التي يسميها
جمعًا بين السلطتين (وقد فهمت معناها) قد أعطت الأمة قوة لم يقاوها فيها أحد في
زمنها، وما ضعفت الأمة الإسلامية إلا بضعف الشرع وعدم إقامته وهذا أمر لا
خلاف فيه.
وكذلك لم يُضْطَهد العقل والذكاء في الإسلام في عصر إقامة شريعة الإسلام
وإنما وقع شبه اضطهاد بعد ضعف الشرع والتهاون في تنفيذه، أما الثورات
التي يخافها الناصح على الحكومات الإسلامية إذا بقيت على شريعتها فهي أجدر
بالوقوع إذا خرجت الحكومات عن الشريعة؛ لأن الخروج على السلطان لا يجوز
في الإسلام إلا إذا خرج السلطان من الإسلام بترك الشريعة وإذا أخطأ فالواجب أن
ترجعه الأمة عن خطئه بالمعروف: قال صاحب عقيدة الجوهرة:
وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل
فليس ركنًا يعتقد في الدين ... فلا شذّ عن حكمه المبين
إلا بكفر فانبذن عهده ... فالله يكفينا أذاه وحده
وأما الشقاق الديني بين الطوائف والمِلَل فلم يعهد في بلاد الإسلام أيام إقامة
الشريعة والعمل بها بل كانت الطوائف في هُدُون وسلام؛ لأن الدين يوجب ذلك
وكان معمولاً به، والذي يوجب الشقاق هو جَعْل الدين مصلحة لرؤساء مخصوصين
يناهض كل رئيس بطائفته سائر الطوائف فهو ألصق بالفصل بين السلطتين وجَعْل
كل واحدة مستقلة لها رؤساء يديرونها منه بالجمع بينهما خصوصًا جمع الإسلام
بالمعنى المتقدم.
وقد ذاقت الأمة النصرانية بأس هذه الرياسة وكانت هي التي
ابتدعت الحرب بين طائفتين من أهل دين واحد للخلاف في الدين، ولو لم يكن لكل
طائفة رؤساء مخصوصون لما وقع شيء من ذلك، وقد سرت عدوى النصرانية إلى
غيرها وأصاب المسلمين شرر تلك النيران فحدث بين أصحاب المذاهب شيء من
الشقاق لتعصب كل طائفة لإمام مخصوص وعلماء مخصوصين، وقد علمت أن
رجال الدين لم تنتظم لهم في المسلمين رياسة لأن طبيعة الإسلام تأبى ذلك ولهذا لم
يعظم النفور والشقاق بين أصحاب المذاهب الإسلامية كما عظم بين أرباب
المذاهب النصرانية على أن المذاهب المتعددة في الدين هي مخالفة لوضع
الدين؛ لأنها تفرق فيه والله يقول: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:
١٣) ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام
: ١٥٩) ولكن جاءنا من كتاب النصارى في هذا العصر من يقول: إن التفرق إلى
شِيع من طبيعة ديننا ولا علاج لهذا إلا ترك حكامنا لشريعتنا! ! !
وأما تعريض الدين لأكاذيب السياسة ومفاسدها إذا كانت الشريعة مستمدَّة من
الدين فهو نقيض المعقول وخلاف الواقع فإن السياسة كما قال الكاتب مبنية على
الرياء والمخاتلة ولا علاج للرياء إلا الدين، وقد شدد فيه الإسلام حتى سماه
(الشرك الأصغر) فإذا بُنِيَتْ السياسة على قاعدة الدين سلمت وسلم معها الدين،
وإذا انفصلت من الدين فسدت وأفسدت الدين ولذلك استعاذ منها الإمام كاتب مقالات
(الإسلام والنصرانية) بما استعاذ ووصفها بما وصف، وقد قلب الحقيقة الناصح
أو المشكك فجعل انفصال الحكومة من الدين هو سبب السلامة! ! !
* * *
(الوَحْدة الدينية، والوطنية)
يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن الوحدة الدينية التي يطلبها
الإسلام مستحيلة الوقوع، ومحاولتها كان أكبر أسباب الفتن التي حدثت في الإسلام
والمسيحية، ويزعم أن البشر قد ارتقوا عن طلب الوحدة الدينية التي كانت عامة
فيهم إلى الوحدة الوطنية وتدحرج في البيان إلى ذكر فرنسا التي ارتقت فيها هذه
الوحدة الجديدة التي حصر فيها سعادة البشر حتى حكمت بإبطال مدارس الرَهْبنات
وحتى حرمت على رئيسها ذِكْر اسم الله تعالى أو ذكر العناية الإلهية في خطبه،
وههنا شعر بأن هذا التدحرج قد انهار به في هُوَّة الباطل فعاد يعترض على هذه
(الطريقة الجديدة) ويذكر من مفاسدها، وهكذا شأن مَنْ يَهْرِف بما لا يعرف، وقد
استدلّ على استحالة الوحدة الدينية بما كان في أوربا من المفاسد والفتن بسببها بعدم
نجاح البابا فيها وبسعادة أوربا بعد إقامة السد بينه وبين الأحكام، ثم جرى على
عادته في تشبيه الإسلام بالنصرانية فزعم أن الذي أسقط دولة العباسيين هو عجزهم
عن حفظ المملكة بالوحدة الدينية وعدم اهتدائهم إلى الوحدة الوطنية! ! ! سبحان الله،
ما أَعْلَمَ هذا الكاتبَ بالتاريخ وما أَقْدَرَهُ على استخراج طبائع الملل منه! ! !
خبّرونا أيها المؤرخون والمطلعون على كتب التاريخ، أيّ مؤرخ قال: إن
سبب سقوط بني العباس هو حكمهم بالشريعة الإسلامية، أو قال: إن أصحاب
الملل المختلفة في بلادهم كانوا ساخطين على الحكم بالشريعة وطالبين أن تستبدل
بها قوانين غيرها يضعها الحكام أو المحكومون وأنهم لذلك ثاروا على الدولة حتى
أسقطوها بالحروب الأهلية التي مثارها العصبات الدينية؟ لم يقل بذلك عالم ولا
جاهل وإنما هو زعم افتحره وافتجره واخترعه وابتدعه ناصح المسلمين الأمين أو
مشككهم في الدين.
لسقوط دولة العباسيين أسباب أهمها أمران: ذكرهما مؤرِّخ الدولة العثمانية
الأكبر جودت باشا ناظر العدلية (رحمه الله تعالى) قال بعدما ذكر فضل المأمون
في ترويج العلوم وتوسيع نطاق المدنية ما تعريبه (إلا أنه أخطأ خطأ بيّنا في أمر يتعلق بتدبير المملكة وهو أنه أعطى ولاية خراسان لرجل يسمى طاهرًا مكافأةً له على
قتل أخيه الأمين فاتخذ نيسابور عاصمة لها، وجعلها موروثة له ولأعقابه من بعده
فكان ذلك باعثًا على إزالة رهبة الخلافة من صدور العمال، وسببًا في الخروج
عن الطاعة والنزوع إلى الاستقلال، ثم جاء بعده الخليفة المعتصم فجمع بعض الأحْداث من الترك وجعلهم عسكرًا خاصًا به، ولما اشتد ساعدهم خرجوا عن طاعته
وأحدثوا ثورات هائلة كما وقع قديمًا في عسكر قياصرة روميّة.
وظاهرٌ أن ما عمله المأمون مخالف للشريعة الإسلامية ومنافٍ للوحدة الدينية،
وأن ما عمله المعتصم كان لإخلاله بأصول الأحكام الإسلامية من الشورى وكفالة
الأُمة للإمام، والتحري في اتخاذ البطانة فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (آل عمران: ١١٨) .
الآية , وللمفسرين وجهان في قوله: {مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: ١١٨) قيل:
هم المنافقون، وقيل: الكافرون، وكان أولئك الأحْداث أحد الفريقين فإنهم اتخذوا
بطانة ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم كما علم من مقالات (الإسلام والنصرانية) وقد
تحقق فيهم قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (آل عمران: ١١٨)
ولكن ناصحنا الأمين حرّف قول الإمام في هذا المقال إلى فتنة سياسية، فزعم أن
مراده الحكم بأن الترك والفرس لا يعتد بإسلامهم وأن الدين خاص بالعرب أي أنه لا
يعتد بإسلام مثل البخاري ومسلم وأبي حنيفة والغزالي، إلخ! ! ! نعوذ بالله،
نعوذ بالله.
يا حسرةً على أعداء الشريعة الإسلامية التمسوا لها عيبًا فيها فأعياهم
وأعوزهم، فالتمسوه في المقيمين لها (كأبي بكر وعُمَرَ) فأعياهم وأعجزهم؛
فنقبوا عنه فيمن انحرفوا عن صراطها فنكبوا فأصابوه وألصقوه بها وقالوا: إنها
شريعة ضارة يجب تركها واختراع شريعة بدلها! ! !
كانت رابطة الوحدة في الاجتماع البشري محصورة في البيوت (العائلات)
ثم اتسعت فصارت في القبائل، ثم اتسعت بناموس الترقي فكانت الشعوب والأمم
الكبيرة التي وحدتها الجنسية باللغة أو الدين أو البلاد (الوطن) وكان الدين خاصًّا
لا يتعدّى الشعب الذي وجد فيه إلى أن ظهر الإسلام فإن في الأناجيل المعتمدة عند
النصارى إلى اليوم أن المسيح عليه الصلاة والسلام قال:
(لم أُرْسَل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وقال: (ما جئت لأنقض الناموس
وإنما جئت لأتمم) والناموس هو شرع الإسرائيليين الخاصّ بهم وتتميمه ببيان الحق
فيما اختلفوا فيه منه وفي بيان أسراره والتوسع في القسم الرَّوحاني منه، وأما ما
ينقلونه عنه من أنه قال: (اكرزوا بالأناجيل في الخليقة كلها) فهو مخالف لما تقدم
في الظاهر ويمكن أن يتفق معه بجعل (أل) في الخليقة للعهد أي الخليقة المعهودة
وهي الأمة الإسرائيلية حيث كانت وأين وجدت.
بعد هذا استعد البشر بناموس الارتقاء إلى وحدة أوسع من كل ما تقدم - إلى
وحدة يمكن أن تدخل فيها جميع الشعوب والقبائل والأمم والأجناس المختلفين في
البلاد واللغات والأديان - إلى وحدة لها رابطتان (إحداهما) جثمانية اجتماعية
عُمْرانية دنيوية، وهي أن يُحْكَمُوا بشريعة عادلة تساوي بينهم في الحقوق لا يمتاز
فيها كبير على صغير ولا غني على فقير ولا عربي على عجمي ولا متدين بدين
على متدين بغيره. (وثانيتهما) روحانية أخوية أخروية تختص بمن يجمعهم
الاعتقاد الصحيح المبني على البرهان الصريح، وهذه الوحدة هي الوحدة التي جاء
بها الدين الإسلامي وعمل بها المسلمون في الصدر الأول فكان المخالفون لهم في
الدين يفضلون حكمهم على حكم المتحدين معهم في الدين واللغة والوطن، ولم توجد
المساواة ولا العدالة الصحيحة إلى اليوم إلا في الإسلام، فهذه الدول الأوربية الراقية
بالوطنية لا تساوي بين أبنائها وأهل مستعمراتها في الأحكام، بل ألزمت الحكومات
الضعيفة في غير بلادها بالخروج عن العدل والمساواة وتمييز أجناسها على رعايا
كل حكومة من تلك الحكومات، فالمصري يُقْتَل في مصر إذا قَتَلَ أجنبيًّا ولكن
الأجنبيّ لا يُقْتل بالمصري، وقد كنا أوضحنا هذا المبحث في مقالة عنوانها
(الجنسية والدين الإسلامي) فلتراجع في هذا المجلد الثاني من المنار، وفي سائر
مجلدات المنار مباحث كثيرة تؤيد هذه المسائل المتفرقة وتعضد القضايا المتعددة في
هذا المقال.
فتبين بمجموع ما تقدم أن الوحدة التي جاء بها الإسلام هي أعلى ما يترقبه
البشر , وأفضل ما يتوجهون إليه ولكن الرياسة الروحية في الديانة النصرانية التي
جعلت الدين مصلحة من المصالح ينتفع بها الرؤساء، وخروج الحكام المنتسبين
للإسلام عن قواعدها هما السَّدَّان المانعان من انتفاع البشر بها وسَتَدُكّ الحرية السدَّيْنِ،
ويَجمع البشر بالإسلام بين السعادتين.