للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تفسير
] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

(س٢٠) من صاحب الإمضاء في بركة السبع (مصر) .
فضيلة الأستاذ: السلام عليكم ورحمة الله؛
لي الشرف الرفيع والقدح المعلى بمثول مسطوري بين يديكم، وإنني وإن لم
أحظ من الأستاذ بالمعرفة الشخصية فقد عرَّفتني به آدابه الجمة، وهداني إليه منار
علمه الغزير، ومشكاة فضله العميم، ولا غَرو بعدُ إذا رفعت هذا إليكم مستفتيًا عن
الآتي: جاء في كتاب (الإسلام دين الفطرة) للأستاذ المفضال (الشيخ عبد العزيز
شاويش) تنديد على بعض مفسري الزمن الغابر.
نرى فضيلته قد ذهب مذهبًا غير الذي ذهب إليه المفسرون كالجلالين والنسفي
وغيرهما. ولقد جاء في كلامه المنشور على (ص ٣٣و٤٤) من الكتاب المشار
إليه في تفسير الآية التالية ما لا يتفق مع السابقين:
{عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ
بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: ٩-١١) فسر الأوائل المعقبات بالملائكة
تتعاقب على العبد ليل نهار. ورووا في ذلك حديثًا عن كنانة العدوي قال: دخل
عثمان بن عفان على رسول الله فقال: أخبرني عن العبد كم معه من ملك. قال (ملك
على يمينك على حسناتك وهو أمين على الذي على الشمال. وملكان من بين يديك
ومن خلفك، يقول الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ} (الرعد: ١١) وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا
تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على
محمد عليه الصلاة والسلام، وملك على فيك لا يدع الحية تدخل إليه وملكان
على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون وملائكة النهار فهؤلاء
عشرون ملكًا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل) . اهـ.
وفسَّر الشيخ شاويش المستخفي بالليل والسارب بالنهار فقال إنهما المتخذان
لهما حرسًا وجلاوزة، إلخ وهنا يتضح من سياق كلامه أنه جحد وجود ملائكة
تحفظ العبد، وصفوة القول إني حيال هذه التفاسير المتضاربة وتلك الآراء المتباينة
كريشة في مهب الرياح.
بيد أن تقتي بكم واعتمادي على علو كعبكم في العلوم الدينية سيدنيان مني
الغرض ويقصيان عني الريب.
وها أنا (ذا) على أحر من الجمر، حتى يرد عليَّ القول الفصل، وما هو
شفاء للصدور. ورجائي أن تشمل الإجابة الأسئلة الآتية:
(١) أي الطرفين أصاب وما وجه إصابته وأيهما الجدير بالاتباع.
(٢) لم لا يعود الضمير في قوله تعالى: (له معقبات) على من ذكر اسم
الله كقول المفسرين ولم لا أثر لذلك في الآية أصلاً كرأي فضيلة الشيخ شاويش؟
(٣) ما هو تفكيك نظام الآية الذي جاء به المفسرون وكيف قطعوا الحال
من صاحبها وفرّقوا بين الأجزاء التي تتألف منها؟
(٤) كذب الشيخ شاويش الحديث. وبأي وجه يحتمل تكذيبه له مع أن راويه
البخاري وهو كما تعلم من رؤوس الرواة وأصحها سندًا؟
المخلص محمد السيد الجارحي
(ج) اختلف مفسرو السلف في المعقبات هنا فأخذ الشيخ عبد العزيز
شاويش بما أعجبه، وشنع على من قالوا بغيره، وما كان ينبغي له ذلك - وقد ذكر
الحديث المرفوع فيه - وإننا لم نطلع على ما كتبه، ويظهر مما كتبه السائل أنه رد
الحديث من غير أن يبني رده على علَّة فيه أوطعن في سنده. وأن عبارته توهم أن
ما اعتمده في تفسير المعقبات مما استنبطته قريحته الوقادة وكان دليلاً على تفضيل
الأواخر على الأوائل! وقد عهدنا منها في مجلته رد الأحاديث الصحيحة المتفق
عليها إذا لم يعجبه معناها. وحديث كنانة العدوي في تفسير المعقبات ليس في
الصحيحين، وقد عزاه في الدر المنثور إلى ابن جرير، وخرجه ابن جرير في
تفسيره بسند ضعيف قال: (حدثني المثنى قال: حدثنا عبد السلام بن صالح القشيري
قال: ثنا علي بن حرب عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة
العدوي) وذكره. وعبد السلام بن صالح اختلفوا فيه فقالوا: إنه يروي المناكير
واتهمه بعضهم بالوضع، ولكن أنكر الحافظ قول العقيلي فيه: إنه كذّاب. وفي
غيره من رجال السند مقال لا محل لبسطه. ولو صحّ هذا السند عن ابن جرير
لما رجح عليه غيره. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير المعقبات: يعني
السلطان يكون عليه الحرّاس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، إلخ. كذا في
الدر المنثور. وفي تفسيره بسنده عنه قال: ذكر ملكًا من ملوك الدنيا له حرس من
دون حرس. وفي رواية أخرى له عنه قال: يعني ولي الشيطان يكون عليه
الحرس. وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال في أصحاب المعقبات: هم هؤلاء
الأمراء. وقال في رواية أخرى أنه قال في المعقبات: المواكب من بين يديه ومن
خلفه. قال ابن جرير بعد ما روى القولين في المعقبات عن ابن عباس وعن غيره:
(وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: الهاء في قوله: (لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ) [راجع إلى] (من) التي في قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ
بِالنَّهَارِ) ، وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه هي حرسه وجلاوزته. كما
قال ذلك من ذكرنا قوله، وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأن قوله:
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أقرب إلى قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) منه إلى قوله:
(عَالِمُ الغَيْبِ) فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره (فيها) وأن يكون المعني
بذلك، هذا مع دلالة قول الله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} (الرعد:
١١) على أنهم هم المعنيون بذلك. وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصية له
وأهل ريبة يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون من عند أنفسهم بحرس
يحرسهم ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية
الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حرسهم ولا يدفعهم عنهم
حفظهم. اهـ ما قاله وهو الذي نختاره.
أما حديث أبي هريرة في الصحيحين والنسائي فهذا نصه: (يتعاقبون فيكم
ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. ثم
يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟
فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ورواه البزار بلفظ: (إن
لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) إلخ. فأنت ترى أنه
لم يرد تفسيرًا للآية.
ولا أدري أكذب عبد العزيز شاويش هذا الحديث وأنكر أن يكون في الملائكة
حفظة يتعاقبون في المكلفين؟ أم أنكر أن يكون ذلك هو المراد من الآية؟ ظاهر
عبارة السؤال: الأول، ولا يبعد ذلك على هذا الرجل فقد عُهد منه مثله، ولا عبرة
بقوله، فلا هو من أهل العلم بالحديث رواية ولا دراية، ولا بغير الحديث من علوم
الدين، ولكن له مشاركة في الفنون العربية وبعض العلوم العصرية، فتصدى بذلك
للتشبه بالمصلحين الذين يجمعون بين الدين والعقل، فتجرأ على رد الأحاديث
الصحيحة بغير علم. وقوله هو المردود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو
المقبول. ولعل ما ذكرناه يغني عن بقية مباحث السؤال اللفظية غير الواضحة.