ألمعنا في العدد الماضي من جريدتنا إلى كثير من البدع والمنكرات التي تحصل في المسجد الأحمدي في طنطا في إبان الموسم الذي يسمونه: (مولد السيد) ، أتينا عليها في عرض القول وإطواء الكلام، وإننا نعد منها الآن ما يعن لنا نشره سردًا مع إجمال من الشرح، ثم نبحث في إزالته فنقول: (الأول) من تلك المنكرات: إبطال قراءة العلم وإفادة المتعلمين، تخلية للمسجد لتلك الجمعيات التي شرحنا بعض حالتها بحيث يصح أن يقال لنا على ذلك باختيارهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: ٦١) . (٢) ترك صلاة الجماعة الراتبة التي يحضرها أهلها المواظبون عليها في ذلك المسجد، نعم، إن تلك الجمعيات يتخللها بعض صلوات تقام بين عزف العازفين وصراخ الصارخين ومدافعة المارين، إلى غير ذلك مما يخرجها عن صورتها الشرعية الكاملة. (٣) التشويش على المصلين بدق الطبول والدفوف، والنفخ بالشبابات والمزامير، وصراخ المستصرخين بالسيد (قدس سره العزيز) ، وصياح المنادين له، وجلبة الذاكرين، وضوضاء الوفود والجموع الذين يموج بعضهم في بعض ومرور الجم الغفير بين يدي المصلي، حتى لا يدري ماذا يعمل. (٤) الصلاة إلى قبر السيد (رضي الله تعالى عنه) الذي يلجئ إليه الازدحام مع الجهل، نعم إن هذه البدعة السيئة لا تختص بأيام الموالد، ولكنها تزيد فيها، وإزالتها من أهم مهمات الدين، فقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، وهو يحذر منها، ويبين أن الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد من الأمم السالفة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. (٥) الطواف بقبر السيد (رحمه الله تعالى) كما يطاف بالكعبة سواء بسواء. وتمثيل هيئة أي عبادة مشروعة منهي عنه كما هو معروف في الفقه، والزيارة لا تتوقف على هذا الطواف. (٦) تقبيل أعتاب المقصورة التي فيها قبر السيد (سقى الله لحده) ، ولمس قفصه والتمسح به وتقبيله " وكل ذلك بدع منكرة إنما يفعلها الجهال "، كما قال السبكي وغيره من الأعلام. (٧) طلب الحوائج والمصالح من السيد (تغمده الله تعالى برحمته) ينادونه بصريح القول: يا سيد اشفِ مريضي، يا أبا فراج فرج كربتي، يا شيخ العرب تصرف بعدوي، إلى غير ذلك من المهمات التي تعرض للناس، ومنها ما لا ينبغي ذكره، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلاء أنهم يستنهضون همة السيد ويتقربون إليه لقضاء مصالحهم بالدراهم، فقد وضع بجانب القبر صندوق كبير مخروق سطحه خرقًا مستطيلاً بحيث يلقى منه كل نوع من النقود المتداولة، وبنذور أخرى تحار العقول في فهمها وفي سفاهة من ينذرها ويتقرب بها. منها: أن المرأة تنذر أن تلبس لبوس الرجال وتركب فرسًا وتطوف بالأسواق والشوارع الغاصة بالناس في يوم المولد، وكذلك يفعلن. ترى كثيرات متسرولات بالسراويل الرسمي (البنطلون) ، ومرتديات بالكساء المعروف (بالبالكو) ، ومتلفعات فوق (الطربوش) بمنديل من النوع الذي يسمى (الشال) ، وراكبات على الخيول بين الجموع والوفود، ومنهن من تنذر الوقوف مع الذاكرين في الحلقات، وغير ذلك مما يُستحيا من ذكره. ومن سفهاء المعتقدين من يتغوث ويستنصر بالسيد مدلاًّ عليه بألفاظ البذاء والهجر والتهديد والوعيد، لاسيما إذا طلب منه حاجته بلطف ورفق، ولم تقض عن قريب. ولا سبيل إلى حصر وسائلهم الجهلية ومقاصدهم الجاهلية، كما لا سبيل إلى تعميم الحكم على نذورهم المالية بالفساد. لعدم إمكان استقراء جميع الأفراد. ولكن كلامنا في المنكرات الظاهرة للعيان. التي لا ينكرها ولا العميان. (٨) تقذير المسجد وتنجيسه، لا سيما من الأطفال الصغار الذين يكون المسجد ملعبهم ومبيتهم، وقد نص بعض الفقهاء على أن تنجيس المسجد ردة ومروق من الدين، ولعله محمول على ما إذا قصد به الإهانة، ومهما كان من أمر الحكم بالكفر والمروق. فلا خلاف في العصيان والفسوق، يشترك فيه أولياء الولدان وأولياء الشيطان الذين يغشون مجالسهم في العشي والإبكار، ويستبدلون الإقرار بالإنكار. (٩) تمكين الأحداث والمعتوهين من تبوء المسجد والتمكن منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) . (١٠) اختلاط النساء بالرجال في كل نوع من أنواع الاجتماع، حتى في النوم وما يسمونه: (الذكر) . تبصر النساء في الليل مضطجعات على جنوبهن، ومستلقيات على ظهورهن يتخللهن كثير من الرجال (اللهم إنهن مستترات) ، وتتخطاهن جموع الوفود الذين يردون المسجد ذهابًا وإيابًا. وتراهن في الذكر قائمات قاعدات. وإن شئت قلت: متثنيات أو راقصات. ومنهن من يأخذها اضطراب وارتجاف وانتفاض وقشعريرة، كما يحدث للمحموم والمصروع. رأيت (شيخة) منهن تضطرب جميع أعضائها وتتخبط تخبط من أخذته نوبة عصبية، وقد أمسك بها ثلاث كيلا تقع على الأرض، وأحدق بها الناس والممسكات بها مزدهيات معجبات، قريرات العين بإقبال الناس على هذه الأسرار والكرامات، وربما كانت المرأة مصابة بالهستيريا وجاءتها النوبة في المسجد، وربما كان كل ذلك تعملاًّ وتصنعًا. (وأما كرامة الله لأوليائه فهي أجلّ من هذا الهزء والجنون الذي لا ينخدع به إلا الجاهلون) . (١١) العزف والتطريب في الذكر بضرب الدفوف والطبول، والنفخ في الشبابات والمزامير، وقرع الصنوج وغيرها، إلى ما يلتحق بذلك من الأغاني الغرامية. (١٢) إحياء ما أماته دين الإسلام من المكاء والتصدية الذي كان في عهد الجاهلية قال تعالى {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: ٣٥) ، تراهم يصفقون في الذكر وينفخون ويصفرون. (١٣) العرافة والتكهن (الإخبار عن شؤون الإنسان الخفية الماضية والمستقبلة) ، يتصدى لذلك أفراد من الشيوخ والشيخات فيلقون بكلامهم الفتن بين الناس والعداواة والبغضاء بين الأقارب والأصدقاء، لما يأتون به من العبارات المجملة والكلمات المبهمة، التي تذهب النفس بتأويلها كل مذهب، ويسهل على معتقدها حملها على شؤونه وأحواله في كل زمان ومكان. ذلك أنهم يقولون للمستنبئ: إن لك عدوا من أهلك طويل القامة، وفي بدنه علامة، يهيئ لك المهالك، ويوعر أمامك المسالك، إن الذي سرق متاعك رجل أسمر اللون، واسع العينين، نحيل القوام، قليل الكلام، سوف تقبل عليك السعادة، ويصدها عنك جماعة يظهرون ودك، ولا يحفظون عهدك، تصدقهم وهم كاذبون، وتأمنهم وهم خائنون. وأمثال هذه الجمل التي تثير رواكد الأوهام وتبعث على سوء الظن بالأبرياء، وتوقظ عين الفتنة بين الأهلين والجيران وتمثل الأصدقاء الأبرار، بصور الأعداء الأشرار، ولا تسل عن عاقبة الجاهلين. (١٤) الدجل والتمويه بادعاء الولاية الذي قال فيه بعض العارفين: إنه يورث سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، ويتبع هذا المنكر منكرات منها: (١٥) التعويذ والتنجيس (تعليق خرق أو عظام نجسة للوقاية من الجن) يخدع الناس هؤلاء المعوذون المنجسون بتمائم وتعاويذ وتناجيس يوهمونهم أنها تجعل العاقر ولودًا، والعقيم منتجاً، وتقي من الجن والشياطين، وتحفظ من كيد العادين والظالمين، وتمنع الحرث والنسل من الجوائح السماوية، والهوام الأرضية. وتجذب قلب المعشوق إلى العاشق، وتنفر به عن صحبة العذول المماذق، وتشفي من الأمراض المزمنة، والأدواء المستحكمة إلخ إلخ، ومنها. (١٦) تشويه الخلقة ولباس الشهرة، وقد ألممنا بشرحه في مقالة العدد السابق ومنها. (١٧) أكل أموال الناس بالباطل، فإنهم إنما يأكلون بدينهم، وقد فصل الإمام الغزالي القول في حظر هذا الأمر أحسن تفصيل. (١٨) مَسَن الرجال، وفُتوك النساء (أي مجونهما) ، وما هو إلا مداعبة وملاعبة. وهجر وبذاء يتحاماه المتدين ويأباه كل مهذب، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في العدد السابق. (١٩) البيع في المسجد: يباع فيه الأكل واللبوس من نسيج وأكسية والكتب والسبح والأمشاط والأعطار وأنواع من الأدوية وغير ذلك. ويرون أن ما يشترى من المسجد له فضيلة وبركة. وبعض العلماء لا يحرم البيع في المسجد إذا وقع عرضًا ونادرًا، ولم يشغل المصلين ولم يضيق المسجد ولم يكن فيه امتهان له بجعله كالحانوت. وأظن أنه لا يبيحه أحد بالصورة التي تحصل الآن في الجامع الأحمدي. (٢٠) الإنفاق من مال الوقف على إضاءة المسجد الليل كله لأجل هذه الأعمال الممزوج حلالها بحرامها، والغالب قبحها على حسنها. وربما كانت هذه النفقات من النذور أو بعضها من الوقف وبعضها من النذر، ومهما كانت هذه الأعمال محظورة وواجبة المنع فالوقوف والنذر عليها غير صحيحين. هذا ما تذكرناه الآن مما علق بذهننا من منكرات الموالد وهو أشدها نكرًا، ومن هذه المنكرات: ما يحصل في غير أيام الموالد، لكنه يزيد فيها. ونحن إنما ننكر الأفعال المخالفة لهدي الدين، لا الموالد نفسها؛ لأن المولد عبارة عن اجتماع الناس من أرجاء القطر وأنحائه في بقعة واحدة لأعمال مخصوصة. والاجتماع له فوائد مادية وأدبية لا تنكر، بل ليست المدنية إلا الاجتماع للتعارف والتآلف والتعاون على الأعمال النافعة للأمة. وبحثنا في المنكرات بمناسبة الموالد إنما هو لكثرتها فيها. ونمسك الآن عن الخوض في فوائد هذه المجتمعات التجارية والأدبية، حتى نقف عليها بالاختبار في المولد الكبير، إن أمهلنا الزمان، ونطلب الآن من علماء الشريعة وأنصار الدين أن يوجهوا أنظارهم الشريفة لإبطال هذه البدع والمنكرات، وينتصروا للدين الذي ائتمنوا عليه، فإنهم هم المسؤلون عن ذلك عند الله تعالى، ولا يغني عنهم التأفف في بيوتهم، والحوقلة والاسترجاع في زوايا خلواتهم، والتبرؤ من الحول والقوة إذا طلب منهم السعي والعمل فإن لهم بالله قوة على تلافي ذلك كله، فقد أعطاهم سلطة روحية على شعب عظيم، هو أشد الشعوب خضوعًا وانقيادًا إلى رؤسائه، وبذلك كان أعظم الشعوب قابلية للتربية والتهذيب. إن سكوت العلماء في مصر على هذه الطامات الكبر، مع بروزها بالصبغة الدينية لمما يوقع في الدهشة والعجب. يقرون في دروسهم أنه يكره المواظبة على بعض السنن والمستحبات لئلا تتوهم العامة أنها واجبة، (ولو اعتقدوها واجبة ما زادتهم إلا إيمانًا) ، ولا يبالون باعتقاد العامة أن تلك البدع والمنكرات من الدين، مع أن في استحلال بعضها ردة ومروقًا منه. إذا هان على بعض المتسمين بسمة العلماء الذين لم يرسخ علم الدين في قلوبهم، ولم يملك القرآن أعنَّة نفوسهم أن يتهاون في شؤون هذه المنكرات بحيث يغشى مجالسها ويهنئ المقترفين لها (وهم الذين نددنا بهم في المقالة السابقة) ، فلا نرتاب في أن الراسخين في العلم يتململون من اجتراح الأمة لهذه السيئات، كما يتململ السليم، ويودون أن تقلع عنها. لكنهم يظنون أن هذه العادات رسخت بكرور السنين، فلا ينجع في الآتين بها وعظ واعظ، ولا تنبيه منبه. وهذا هو السبب في سكوتهم وسكونهم، لا الرضا والتسليم، أو الخوف من تصرف السيد (قدس الله روحه) فيهم إذا انتصروا للدين، وتواصوا بالحق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. بخلاف الذين يشاركون العامة في أوهامها، ويشايعونها على أفعالها، وهم الذين أطلقنا القول في العدد الماضي بالانتقاد عليهم. والذي نستلفت [١] إليه أنظار هذا الفريق من العلماء الذين وصفهم الله تعالى بخشيته أن يسلكوا في إبطال هذه البدع والمنكرات طريقين اثنين؛ أحدهما: قريب، والآخر: بعيد، ولابد منهما كليهما. فأما الطريق القريب: فهو أن تؤلف لجنة برئاسة الأستاذ الأكبر مفتي الإسلام وشيخ الجامع الأزهر ويدعى إليها الأستاذ الكبير شيخ الجامع الأحمدي، وتقر على ما يظهر لها بعد المذاكرة أنه أقرب الوسائل لمنع كل ما يخالف الشرع، ويخل بالآداب الإسلامية في المسجد الأحمدي، ولو أدى ذلك إلى إقفاله في أيام المولد، إلا في وقت الصلاة مع مراعاة الحكم الشرعي في ذلك، وعندنا أن أنجح الذرائع لإبطال ما ذكر أن ينشر قبل المولد بأيام (إعلان) في الجرائد يصرح فيه بمنع الناس من كل ما اعتادوا فعله في المسجد إلا الصلاة، وأن شيخ الجامع يقيم على أبوابه خفراء يمنعون النساء والأطفال والباعة والمشعوذين وأصحاب المعارف من الدخول إليه ومن كل عمل غير مشروع فيه. يفصلون ذلك في الإعلان بحيث يفي بالغرض، ثم ينفذون ذلك فعلاً في أيام المولد. ولا شك أن شيخ الجامع إذا طلب من الحكومة نفرًا من الأعوان والشرط لأجل هذا العمل الشريف، فإن الحكومة تجيب طلبه، لاسيما إذا كان يطلب عن قرار لجنة العلماء، أو كان الطلب من اللجنة نفسها. وأما طلب إبطال الموالد بالكلية، فربما لا تجيب الحكومة طلب الشيخ أو العلماء فيه؛ لأنه ليس من الأمور الدينية المنوطة بهم بخلاف ما يحصل في المسجد. وأما الطريق البعيد: فهو طريق الوعظ والتعليم، وهو الإصلاح الحقيقي الذي يجب الاجتهاد به من كل من له غيرة على الأمة والدين، وهذا الطريق يتشعب منه ثلاثة شعاب وهي: (١) الخطابة. (٢) تدريس علم الأخلاق والآداب الدينية الصحيحة. (٣) التصوف أو الإرشاد المنوط بأهل الطريق. وكل شعب من هذه الشعاب ركن عظيم لسعادة الأمة في الدين والدنيا. وقد أهمل الاعتناء بها في كل البلاد الإسلامية فآل الامر بالمسلمين إلى ما نرى. وسنتكلم عليها في العدد الآتي كلامًا موجزًا يتعلق بحالة الموالد. وندع الخوض فيها من سائر الوجوه للفرص المناسبة وبالله التوفيق. ((يتبع بمقال تالٍ))