للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة
الأوقاف العمومية هي المحبوسة على المصالح الإسلامية العامة كالمساجد
والمدارس والتكايا أو عمل البر والخير مطلقًا أو مقيدًا، ومنها أوقاف الحرمين
الشريفين والجامع الأزهر، فمنها ما وقف على ذلك ابتداءً ومنها ما آل صرفه إلى
بعض هذه المصالح بعينه أو مطلقًا، كأوقاف الملوك التي لا تراعى شروطها،
والأوقاف التي جهلت شروطها، أو تعذر صرفها فيها، وقد كانت هذه الأوقاف قبل
النظام الجديد الذي أوجده محمد علي الكبير في مصر تابعة لحال حكومتها في
الفوضى والاختلاع والضياع، ثم أدخلت في سلك النظام حتى جعلت نظارة من
نظارات الحكومة قبل الاحتلال الإنجليزي، ثم جعلت مصلحة مستقلة ناظرها
الشرعي هو الحاكم العام للبلاد الخديو، وهو يوكل عنه مديرًا يتولى الأعمال
الإدارية العامة، وأضيف إليها كثير من الأوقاف الخصوصية للثقة بضبطها، وما
يناط بالقاضي الشرعي من تلك الأعمال كالإذن بالاستبدال وتولية النظار وعزلهم
يرجع فيه إلى قاضي مصر. وقد ترقت هذه المصلحة بالتدريج وكثر دخلها، وعُمِّرَ
كثيرٌ من مبانيها وأرضها. ولكن الناس ينتقدون إدارتها وديوانها بأشد مما ينتقدون به
نظارات الحكومة ومصالحها، وكان المخلصون منهم يتمنون أن يكون نظامها أتم
من نظام تلك النظارات والمصالح وارتقاؤها أكمل لتكون حجة على اقتدار
المصري على الأعمال العامة بدون مراقبة الأجنبي وسيطرته، حتى لا يكون
للمحتلين وجه للتعرض لها ووضعها تحت سيطرتهم.
حدثني شيخنا الأستاذ الإمام في سنة ١٣١٦ عند حدوث مسألة إصلاح المحاكم
الشرعية أنه كان قال للأمير منذ سنين: إن في يد مولانا وفي الأصل أفندينا ثلاث
مصالح لا يمد الإنكليز إليها أيديهم الآن لأنها دينية، إذا أصلحتها تحيي بها المسلمين
وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية، فهذه الكلمة المسجلة في المنار منذ سنين
تدل على أن أهل الرأي من المسلمين كانوا يخافون من أوائل العهد بالاحتلال أن
تفضي سيطرته إلى الدين بجعل معاهد العبادة والتعليم الديني والقائمين به
وبالوظائف الدينية تحت سيطرة غير المسلمين، وكذلك ريع الأوقاف الإسلامية
المحبوسة على مصالح المسلمين، فلا يبقى للمسلمين استقلال ما حتى في أمر دينهم،
فماذا يكون لهم من الاستقلال في أمر دنياهم؟
وإنما جاء هذا الخوف مما يعلمونه من تصرف بعض الأوربيين في
مستعمراتهم الإسلامية كتصرف فرنسة في أوقاف الجزائر وتونس وفي جعلها
المساجد والتعليم الديني تحت سيطرتها، وذلك أشد ما بغضها إلى مسلمي تلك البلاد
وإلى جميع المستنيرين من مسلمي الأرض، ولكن الإنجليز أوسع من الفرنسيين
صدرًا، وأكبر أناة وروية وصبرًا، وأعلم بمداراة شعور الأمم وأدق خبرًا، وأدرى
بمسالك التدريج في إحكام النفوذ والسلطة وأصح فكرًا، وبهذه المزايا التي نبغوا فيها،
وبما في مصر من الاستعداد الطبيعي للعمران في أرضها وأهلها وحكومتها،
وبتغلغل الأوربيين فيها وما لهم فيها من الامتيازات والأملاك والديون، بهذا كله
أمكن لهم أي للإنكليز أن يسلكوا في إدارتها والسيطرة على حكومتها مسلكًا لطيفًا لم
تشعر الأمة بثقل وطأته ولا بأنها فقدت شيئًا كان لها قبله، ذلك بأنهم كانوا يتقون
كل ما له علاقة بالدين، ويعملون سائر الأعمال بالأوامر الخديوية العالية وقرار
النظار الوطنيين، وبأن الجرائد المعارضة لم تكن تنتقد أحدًا من رجال الإنكليز إلا
قليلاً، وإنما كانت تبالغ في انتقاد الوزارة المصرية وتلصق كل ما تنكره من
الأعمال بها وكانت عاقبة هذا أن كل إصلاح حصل في مصر حفظ ونسب إلى
المحتلين، وكل ما كان ينتقد عليهم أو على الحكومة المصرية بسببهم قد نسيه
الجمهور، إما لأنه سلبي، وإما لأنه ألف، وإما لأنه عمل عارض ليس له صورة
باقية. وأما تأثير هذا المسلك في خارج القطر المصري فهو أنه قد جعل للإنكليز
اسما سميًّا، وقدرًا عليًّا، وصار مسلمو الشرق والغرب، يفضلونهم به على جميع
الإفرنج أو جميع دول الأرض.
لأجل هذا عجب كثير من الناس في هذه الأيام من تصدي لورد كتشنر إلى
تحويل مصلحة الأوقاف الإسلامية إلى نظارة مع علم الناس بأن النظار مجبورون
على أن يكونوا تحت سيطرة المعتمد الإنكليزي في مصر كما هو الواقع، وكما
صرح به ناظر خارجية إنكلترة رسميًّا، وكما يفهم من اقتراح لورد كرومر من قبل
وسيأتي نصه، ولكن اللورد أعد للأمر عدته، وأقنع به حكومته، وحكومته وثقت
من حكومة الآستانة بأنها تساعدها على ما تريد عمله في مصر من هذا الأمر وغيره
وإن كان له علاقة بالدين، لتعمله بنفوذ الخليفة الذي جربت بريطانية نفوذه الديني
في الهند. وكانت الأسباب في مصر ممهدة بما أضعف قانون المطبوعات من حرية
الجرائد، وما كان يخشى إلا من الأزهر، وقد شاع في البلدان أن الأزهريين
شرعوا في معارضة قوية لكن الحكومة تلافتها بسرعة وحزم، فقدر اللورد كتشنر
على ما تمناه لورد كرومر ولم يتجرأ على تنفيذه.
مدح لورد كرومر في تقاريره مصلحة الأوقاف، ولا سيما تقرير سنة ١٩٠٢
ووصف تقدمها وشهد بأنها تعطي جميع المستحقين كل بارة يستحقونها في وقتها،
وأنهم لم يكونوا يصلون إلى حقوقهم من قبل هذا النظام، وأشار في بعض التقارير
إلى انتقاد بعض الناس عليها وحاجتها إلى الإصلاح، وقال في تقريره عن سنة
١٩٠٤ وهي السنة التي عقد فيها الاتفاق الإنكليزي الفرنسي وصدق عليه غيرهما
من الدول، إن دخل الديوان بلغ في هذه السنة ٣٠٣.٠٠٠ ج م ونفقاته ٢٢١.٠٠٠
ج م فالزيادة ٨٣.٠٠٠ ج م، وإن مال الأوقاف الاحتياطي بلغ١٧٥.٠٠٠ج م في
آخر ديسمبر سنة ١٩٠٤ قال وفي سنة ١٨٩٦ كان العجز في حساب ديوان الأوقاف
٢٧.٠٠٠ ومن ذلك الوقت انقلب العجز إلى زيادة تتعاظم عامًا فعامًا حتى بلغ مجموع
الزيادات في الثماني سنوات الأخيرة لا أقل من ٤٠٩.٠٠٠ ج م أي زهاء نصف
مليون جنيه مصري، ثم قال في خاتمة الكلام عنه بعد ذكر تنظيم هراري باشا
لحساباته ما نصه:
ولم يجر في الأوقاف ما يذكر غير ذلك، ولا تزال إدارتها قاصرة جدًّا كما
يعترف بذلك أولو الألباب من المسلمين. غير أن هذا الموضوع ليس من المواضيع
التي يتعرض لها مشيرو الدولة البريطانية كثيرًا. اهـ أي لتعلقه بأمر الدين.
ثم قال في تقريره عن سنة ١٩٠٥ بعد التصريح بأن ديوان الأوقاف أصلح في
السنوات الأخيرة بعض الإصلاح ما نصه: واعتقادي أن الإصلاح الوحيد المرضي
هو وضع هذا الديوان تحت إدارة ناظر مسئول يكون عضوًا في مجلس النظار
وتتيسر مراقبة أعماله كما تراقب سائر النظارات أما الآن فإنه تحت إدارة مدير
عمومي مستقل عن مجلس النظار على الغالب. اهـ. وإنما قال: على الغالب؛
لأن حسابات الأوقاف تحت مراقبة نظارة المالية.
فيعلم من هذا أن معنى جعل مصلحة الأوقاف نظارة هو وضعها تحت
مراقبة الإنكليز أي أن الأموال التي تقام بها شعائر الإسلام في المساجد، ومنها
ما هو للحرمين الشريفين، والتي ينفق على التعليم الديني تكون تحت مراقبة
وسلطة المستشار المالي الإنكليزي والمعتمد السياسي البريطاني ما دام هذا هو الشكل
الذي تدير به بريطانيا حكومة هذا القطر، ولا يوجد مسلم يرضى بهذا باختياره،
فكان من المنتظر أن تقوم قيامة القطر بالمعارضة والاحتجاج على هذا العمل، ثم
تردد صداه جميع البلاد الإسلامية، ولكن حال دون ذلك ما أشرنا إليه وما نبينه
من الأسباب والتمهيدات التي اتخذت والإسراع في التنفيذ. وكيف كان ذلك؟
إن الذي شاع وذاع في البلد هو أن اللورد عرض المشروع على الخديو وقال:
إن حكومة لوندرة جزمت به، فعارض الخديو أولا، ثم اتفقا على استفتاء الآستانة
بناء على أن هذا المشروع يتعلق بالدين والسلطان هو الخليفة صاحب السلطة
الدينية العليا، فرفع الأمر إلى الآستانة فجاء الجواب حالا في أيام العيد بأن تحويل
مصلحة الأوقاف إلى نظارة جائز لأن الأمر في الآستانة كذلك. فقطعت فتوى
الخليفة كل كلام في شكل المشروع كما قطعت جهيزة قول كل خطيب، إلا أن
بعض الجرائد كالمؤيد بينت الفرق بين نظارات الآستانة ونظارات مصر، بأن تلك
مستقلة تحت سلطة الخليفة، وشيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس النظار،
وهذه تحت مراقبة دولة أجنبية، ولكن اللورد تلافى هذه الاعتراض قبل وقوعه بما
أعلن وأشيع من خبر اتفاقه مع الحكومة على أن لا يكون لنظارة الأوقاف الجديدة
مستشار إنكليزي، بل تكون مستقلة في أعمالها، ويكون لها مجلس أعلى من
المسلمين تقيد به تصرفات الناظر كالمجلس الأول في الجملة.
الحق أقول: إن هذا كان مؤثرًا، وإن جواب الآستانة لم يفعل في القلوب
والأفواه فعله في الجرائد والأقلام، فالذين لم يقولوا فيه شيئًا بأقلامهم، قد قالوا
بقلوبهم وأفواههم، ولكن أيقنوا بأنه لا بد من تنفيذ المشروع، فصار همهم في جعله
مُسَوَّرًا بما يكفل استقلال أوقافهم، وصرف أموالها في مصالحهم، وجعل القول
الفصل فيها لهم دون الأجانب، فكان جمهور الأمة يود تأخير صدور الأمر العالي به
إلى أن تنعقد الجمعية التشريعية في أوائل السنة الآتية، وما هي ببعيد، لتصدق
عليه وتقرره فتطمئن به قلوب الأمة، وقد كررت جريدة المؤيد القول في هذا الاقتراح
وكتب سعد باشا زغلول الشهير بمعارفه القانونية والاجتماعية وباستقلال الرأي
مقالا في المقطم نقلته سائر الجرائد اقترح فيه أن يكون رأي الجمعية التشريعية
قطعيًّا نافذًا فيما يعرض عليها من ميزانية نظارة الأوقاف وما يوضع له من اللوائح
والنظام، وقد أيد اقتراحه بالبيان الذي صادف استحسان جمهور المسلمين، وإنما
قلت جمهور المسلمين؛ لأنه يوجد في المسلمين كما يوجد في غيرهم من الشعوب
من لا يبالي بالمصالح الدينية العامة، ومن لا يبالي بالمصالح الدنيوية العامة أيضًا،
ومن لا يعرف له رأي لأنه إمعة يتابع كل أحد في مجلسه، وناهيك بمن يدهنون
لأصحاب السلطة والنفوذ في كل شيء.
ونشرت نبذة في جريدة المؤيد عزيت إلى عالم من كبار العلماء تتضمن اقتراحًا
آخر ربما كان أصدق معبر عن رأي الجمهور في هذا الأمر؛ لأنني سمعت بعض
الأذكياء يتحدثون به قبل نشر المؤيد له، ويقولون: إن هذا هو الذي يوده جميع
المسلمين وهاك نص تلك النبذة:
الرأي الإسلامي العام في مسألة الأوقاف
لعالم من كبار علماء المسلمين
عرف القراء رأي المؤيد الخاص في هذه المسألة المهمة، وقد كان همنا في
هذه الأيام مصروفًا إلى الوقوف على الرأي الإسلامي السائد في جميع الطبقات
المفكرة من المسلمين فيها، فعلمنا بعد كثرة السؤال واكتشاف الآراء أن جمهور
المسلمين لم تظهر لهم فائدة معقولة في هذا التغير والتحويل في إدارة هذه المصلحة
الإسلامية فكان هذا داعية الوسواس وسوء الظن، وسرى فيهم اعتقاد أن هذا التغيير
تمهيد لصرف أوقاف المسلمين في بعض الأمور العمومية التي يجب الإنفاق عليها
من خزينة الحكومة أو من جميع طوائف الأمة، فيشارك المسلمين غيرُهم من
الطوائف في منفعة أوقافهم التي وقفها سلفهم لمصالحهم وشعائرهم الخاصة عبادة لله
تعالى وتقربًا إليه. ونحن نبرئ الحكومة وكذا المحتلون من إرادة ذلك أو الرضاء به،
ونقترح على أولي الأمر مولانا الخديو ورجال حكومته أن يجعلوا في نص لائحة
الأوقاف الجديدة أو الأمر العالي الذي يصدر في هذه المسألة ما يزيل وسواس الأمة
وتطمئن به قلوبها، وهو أن لا يصرف شيء من أموال الأوقاف في غير الشعائر
الإسلامية والتعليم الإسلامي وسائر المصالح الخاصة بالمسلمين، حتى يعلم الخاص
والعام أن أوقاف المسلمين سالمة لهم كغيرهم من الطوائف التابعة للحكومة المحلية.
ثم صدر الأمر العالي بالمشروع وفي مقدمته إشارة إلى معنى هذه الاقتراح،
وفيه من الضمان ما يراه القراء وهذا نصه:
صورة الأمر العالي بتحويل مصلحة الأوقاف إلى نظارة
نحن خديو مصر
بعد الاطلاع على أمرنا الصادر في ١٣ يوليو سنة ١٨٩٥ بالتصديق على
لائحة الأوقاف ومراعاة لرغبتنا في زيادة تحسين السير في جميع المصالح العمومية
بحكومتنا، وتمكين رعايانا من الاشتراك في مراقبة مرافق الأمة طبقًا للقوانين
النظامية.
ونظرًا للازدياد الذي طرأ على الأعمال القائم بها ديوان عموم الأوقاف واتساع
نطاق الأمور الموكولة إليه وتعددها فضلا عما هو منظور لها من النماء.
ونظرًا إلى الفائدة التي تترتب حينئذ على جعل هذا الديوان نظارة يتولى
شئونها ناظر بعنوان ناظر الأوقاف، يدخل في هيئة مجلس النظار، ويعطى له
توكيل منا بالصيغة المقررة من قديم الزمان، ويدير الأعمال التي من اختصاص
ديوان عموم الأوقاف بنفس المسؤولية الملقاة على عاتق سائر النظار في نظاراتهم،
بحيث يبقى لمصلحة الأوقاف استقلالها الذاتي، وتكون ميزانيتها قائمة بنفسها على
حدتها، ويكون على هذا الناظر السهر على حسن سير تلك المصلحة، واستعمال
أموالها في شئون الأمة الإسلامية، والمحافظة على الاحترام الواجب للشروط
والقيود المدونة في الوقفيات طبقا لأحكام الشرع الشريف، مع الاهتمام بإقامة
الشعائر الدينية والأعمال الخيرية المتعلقة بها كما يجب، والرجوع إلى المحكمة
الشرعية في جميع الأحوال التي نصت اللائحة الحالية على الرجوع فيها إليها.
ولما كان من الضروري دقة البحث في التعديلات والتحسينات التي قد تدعو
الحاجة إلى إدخالها في نظام مصلحة الأوقاف، ومن المفيد أن يضم إلى الناظر
المشار إليه مجلس يعاونه في هذه المهمة ويحل محل مجلس الأوقاف الأعلى الحالي
بنفس الاختصاصات المخولة له، بحيث تبلغ نتيجة هذا البحث إلى مجلس النظار،
كما أن كل تعديل في النظام الحالي يجب تقديمه إلى الجمعية التشريعية للمناقشة فيه
ثم عرضه علينا لصدوره في صيغة قانون:
فبعد موافقة رأي مجلس النظار أمرنا بما هو آت:
المادة الأولى: تنشأ نظارة للأوقاف يتولى إدارتها ناظر يعاونه وكيل نظارة،
وتحل محل ديوان عموم الأوقاف.
المادة الثانية: يتألف المجلس الأعلى من ناظر الأوقاف بصفة رئيس ومن
شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، ومن ثلاثة أعضاء آخرين يكون
تعيينهم منا بناء على طلب مجلس النظار.
فإذا حدث مانع لناظر الأوقاف تكون رئاسة المجلس الأعلى لوكيل نظارة
الأوقاف، وإذا حدث مانع لواحد من العالمين المشار إليهما فيقوم مقامه عالم آخر
يعينه مجلس النظار.
وتكون مداولات المجلس صحيحة إن حضره أربع من الأعضاء على الأقل،
وعند انقسام الآراء يكون رأي الرئيس مرجحًا.
المادة الثالثة: تكون ميزانية الأوقاف نافذة المفعول بمقتضى إرادة خديوية
تصدر منا بناء على طلب نظارة الأوقاف وتصديق المجلس الأعلى وبعد أخذ رأي
الجمعية التشريعية.
ويقدم للجمعية التشريعية أيضا الحساب الختامي لكل سنة بعد انقضائها.
المادة الرابعة: تلغى جميع النصوص المخالفة لأمرنا هذا، وفي جميع
النصوص الأخرى يكون اسم ناظر الأوقاف ونظارة الأوقاف، بدلا من مدير عموم
الأوقاف، وديوان عموم الأوقاف.
المادة الخامسة: على رئيس مجلس النظار تنفيذ أمرنا هذا ويسري العمل به
بمجرد نشره في الجريدة الرسمية.
صدر بسراي القبة ٢١ ذي الحجة سنة ١٣٣١ نوفمبر ١٩١٣.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس حلمي
هذا هو نص الأمر العالي الخديوي بجعل مصلحة الأوقاف نظارة، وخير ما
فيه النص في مقدمته على صرف أموال هذه الأوقاف في مصالح المسلمين ومراعاة
الأحكام الشرعية فيها، فإن هذا النص يُؤَمِّن المسلمين من ضياع شيء من أوقافهم
على غير مصالحهم إذا روعي والتزم، وبهذا تكون هذه المصلحة خيرًا مما كانت
عليه من هذا الوجه فإن كثيرًا من أهل العلم والدين ينتقدون تخصيص خمسة آلاف
جنيه من أوقاف المسلمين لمدرسة الجامعة المصرية التي هي مدرسة دنيوية عاملة،
لا تعاليمها إسلامية ولا معلموها ولا طلابها من المسلمين وحدهم، وقد صدر الأمر
العالي الخديوي بتعيين أحمد حشمت ناظر المعارف ناظرًا للأوقاف وهو الذي اتفق
على الثقة به الأمير والعميد، وله في الأمة ذكر حميد، وههنا بحث شرعي مهم:
نظارة الأوقاف في نظر الشرع الإسلامي:
لم نكتب في هذه المسألة شيئًا قبل انتهائها؛ إذ ليس من عادتنا الدخول في
السياسة أو الإدارة المصرية العملية، وإنما نكتب في بعض المسائل لأجل العبرة
والتاريخ. وقد كان سألنا بعض كبراء الإنكليز هل تحويل مديرية الأوقاف إلى
نظارة جائز في الدين الإسلامي أم لا؟ فكان مما قلناه في الجواب: إذا كان المراد
من هذا التحويل تسمية المتولي لأمور الأوقاف والمتصرف فيها ناظرًا فهذه التسمية
هي الموافقة لاصطلاح الشرع، إذ الذي يعرف في كتب الفقه لفظ ناظر الوقف
ونظار الأوقاف، وأما لفظ مدير الوقف فلا يذكر فيها، وإذا كان المراد من هذا
التحويل تغيير نظام إدارة الأوقاف وجعل الناظر المتولي لها تحت سيطرة أجنبية
كما هو شأن نظار الحكومة المصرية غير مستقل بعمله فيكون له حكم آخر.. .
وذكرنا له ذلك الحكم بالإجمال وإن التفصيل فيه يتوقف على معرفة ذلك التغيير ما
هو.
تعيين نظار الأوقاف وعزلهم من حقوق قضاة الشرع. وكان ناظر الأوقاف
العمومية التي يديرها الديوان قبل هذا التحويل هو الخديو عباس حلمي باشا، وكان
مدير الأوقاف وكيلاً شرعيًّا عنه، والمفهوم من نص الأمر العالي أن الأمر في هذا
بقي كما كان، وأن الناظر الجديد ناظر سياسي يكون وكيلاً للناظر الشرعي فهو كما
جعله ناظرًا سياسيًّا يجعله وكيلاً شرعيًّا عنه، فجميع تصرفاته الشرعية تكون له
بصفة الوكالة عن الناظر الشرعي، والذي له بالأصالة وصفة النظارة هو ما عدا
ذلك كالمشاركة في أعمال مجلس النظار.
ومن هنا يظهر الفرق بين الناظر في الآستانة والناظر في مصر عند الفقهاء،
فالذي يولي النظار هناك هو صاحب السلطة الشرعية العليا هناك وهنا، وهو الذي
يولي شيخ الإسلام وقاضي مصر ويأذن لشيخ الإسلام بتولية قضاة الشرع وعزلهم،
وهو الذي يولي خديو مصر نفسه فليس له من السلطة الشرعية إلا ما أعطاه في
فرمان توليته.
وبقي من مباحث هذه المسألة أن الحكومة جعلت شيخ الجامع الأزهر ومفتي
الديار المصرية عضوين في المجلس الأعلى لهذه النظارة ليطمئن المسلمون على
كون أوقافهم لا يتصرف فيها إلى على وفق شرعهم وحسب مصالحهم، وكون
معاهد التعليم الديني تبقى مضمونة التقدم والارتقاء، ورضاء المعتمد الإنكليزي بهذا
مع عدم تعيين مستشار إنكليزي لهذه النظارة مما يقصد به إقناع المسلمين بأن
الإنكليز لا يريدون من هذه النظارة شيئًا ينافي مصلحة المسلمين المحضة.
وقد يقال هنا: لِمَ لَمْ يجعل نصف أعضاء هذا المجلس من علماء الشرع
ونصفه من علماء الإدارة والنظام مع كون الترجيح في هذه الحالة بين النصفين
يكون للناظر الذي هو من القسم الثاني، وإن لم يحضر من أعضائه إلا واحد فقط؟
وإذا فرضنا الآن أن الشيخين ارتأيا في المجلس رأيًا أو اقترحا اقتراحًا مبنيًّا على
جعل بعض الأعمال مطابقًا لحكم الشرع أو لمصلحة المعاهد الدينية وخالفهما فيه
سائر الأعضاء وهم الأكثر فكيف يتحقق ما ذكرناه من حكمة تعيينهما، وهما لا
يرجح لها رأي في المجلس إلا إذا وافقهما الناظر وسائر الأعضاء، وهؤلاء إذا
خالفوا الشيخين نفذ رأيهم حتمًا؟ لا أجد لهذا السؤال جوابًا يؤيد الحكومة إلا أن
وجود الشيخين يضمن ما ذكر من موافقة الشرع والمصالح الإسلامية ببيانهما
للمجلس ما عساه يخفى على سائر الأعضاء من الأحكام وحاجات المعاهد الدينية،
ولا يخشى حينئذ أن يخالفهما سائر الأعضاء، وكلهم من المسلمين الذين تجتهد
الحكومة في جعلهم من أهل الاستقامة واستقلال الرأي. والحق أن استقامة أعضاء
المجلس الأعلى لهذه النظارة واستقلالهم وكفاءة النظر هي التي عليها المدار في
الإصلاح المطلوب، فنسأل الله تعالى لهم التوفيق.