(العادات المصرية) ثلاثة تشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزار مضى الكلام على العرس والمأتم، وهما آفتان من آفات الجمعية المصرية، سالبتان للأموال، جالبتان للأحزان، وبقي الكلام على شر الثلاثة وهو: (الزار) ولا تجد في مفردات اللغة كلمة تفي ببيان ضرره وشره، بل ولا جملة تكفي لإيضاح ما يجمع من القبائح والفضائح، وكفى به عارًا أن تكون المخدرة مطية من مطايا الجن. ولو اجتمع جماعة من المجانين في مكان لما بلغت غوغاؤهم معشار ما يحصل في مجلس الزار من الصياح والجلبة، ولو اجتمع في المستعطف المستميح ما تظهره السيدات الأميرات المترفعات المتكبرات من الخضوع والخشوع والذلة والمسكنة أمام شيخة الزار أو كودية الزار - لكفى لانعطاف أشد القلوب قسوة، ولو حُسب ما يُنفق على الزار من سائر الطبقات وما يصاغ له من الحلي من الذهب والفضة في مدة قصيرة لبلغ مبلغًا يمكن أن تشاد به مدرسة للبنات من أعظم المدارس، يخرجن منها متعلمات مطهرات من أدران هذه المفسدة الشيطانية، ولو تنبهت المشيخة الأزهرية إلى الإعلان بتحريم هذا الزار وتفسيق من يعين عليه وتبكيت من يرضى به لأهله، لكتب لها به عمل صالح، ولكن بعض علمائنا الأعلام وجهابذتنا العظام يرون أن وظيفتهما العلمية توفي بمثل الاعتراض والتنديد على من يدخل المسجد برجله اليسرى مثلاً، وما لهم ولما يكدر خواطر الكبراء ونساء الأمراء، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولو امتنع الرجال على الإنفاق على الزار لكان أجدر وأحرى بمن يطيع الشرع والعقل ويخالف الشيطان والمرأة، ولكن المصيبة كل المصيبة أن ينتهي أمر المرأة مع الرجل بعد تسخيره إلى تبخيره، فقد سمعنا عن كثير ممن يجلبهم الناس ويعظمونهم أنهم قد طأطأوا رءوسهم إلى الكودية تبخرهم وتناجي عفاريتهم. والله لولا أن يعاقب صاحب ... ويقول بعض القارئين تعمدا لذكرت أسماء عظيمًا قدرها ... اتخذت لها ورد الضلالة موردا وأحكم ما جرى على لسان أحمد بن الحسين قوله: ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام ولو وقفت في مجلس الزار ورأيت ما يجري فيه من المضللات والمكفرات بتزيين القرابين والركوب عليها والطواف بها وشرب الدماء وتلطيخ الوجوه والثياب بها، وشي أحشاء الذبيحة - لرأيت نفسك كأنك واقف في معبد من معابد اليونان لعبادة الأصنام والأوثان. أما ما يجري في الزار فإننا نذكره ببعض التفصيل؛ لأن كثيرًا من الناس يسمعون فيه إجمالاً ولا يعرفونه تفصيلاً وإليك البيان: إن السبب الصحيح في انتشار الزار هو التقليد لا غيره، فترى المرأة تدعي المرض، ومن يتمارض يعجز الطبيب فيه، فإذا عجز الطبيب طلبت الزار وأقنعت زوجها بأن فلانة كانت مريضة بمثل مرضها ولم تبرأ إلا به وكأنها تنشد: ألا يا طبيب الجن هل لك حيلة ... فإن طبيب الإنس أعياه دائيا ثم تستحضر شيخة الزار، وهذه تطلب منها إجراء العقد على اصطلاحهن، والعقد عبارة عن ربع ريال يوضع في إناء ويصب عليه ماء الورد ويوضع هذا الإناء على كرسي محاطًا بأطباق فيها من أنواع الجوز واللوز والبندق واللبن الحامض، ثم تغتسل الممسوسة وتلبَس ثيابًا بيضاء وتخضب يدها ورجليها وتضع هذا الكرسي بما عليه عند رأسها تلك الليلة، وفي الصباح تحضر الشيخة، فتثقب ربع الريال، ثم تضع فيه خيطًا وتعقده على عضدها، ثم تصنع رقاقًا بالسمن والعسل وتطعمه الممسوسة، وتكلفها بأن تجهز لنفسها في مسافة ما بين ليلة العقد وليلة الزار حليًا معروفة لهم عند الصائغ، وهي عبارة عن خلاخل ودمالج ومعاصم ومعاضد وخواتم وأقراط مرصعة باللؤلؤ والمرجان، ومناطق وقلائد وخناجر وسيف ومصقلة وسوط وصولجان، وخوذة وسكاكين وغيرها، وجميعها إما أن تكون ذهبًا خالصًا او فضة صافية، وتكلفها أيضًا بإحضار كثير من ملابس الرجال والنساء المختلفة من أردية وملاءات وأوشحة وأخمرة، وكلها من الحرير الملون المزركش بالذهب والفضة، فإن لكل عفريت وعفريتة لباسًا خاصًّا، وقد تكون الممسوسة ذات أخدان كثيرة يترادفونها، فإذا حانت ليلة الزار دعت صاحبته صواحبها، ونصب الكرسي ووضعت عليه الحلي، وقامت الشيخة عليها مع توابعها وفي أيديهن الدفوف يضربن عليها، ثم يبخرن الحلي، وبعذ ذلك يفتتحن مجلس الزار بكلام مقفى ملحن تدور فيه أسماء العفاريت وكُناهم، فإذا بدأن بالنقر والألحان وذكرن أسماء من هذه الأسماء قامت الممسوسة من صاحب هذا الاسم أو صاحبته وعملت ما يعمله، فإن كان العفريت هو البدوي وضعت اللثام وأخذت الحسام، ولعبت به لعب الريح بفضل منطقتها، وسط حديقتها، وصالت كما تصول الأبطال، وقالت للأتراب: نزال نزال. وإن كان العفريت هو المغربي احتدَّت وغضبت، وحسرت عن جبهتها وقطبت، وأبدلت الجيم بالزاي، وقالت لفتاتها: يا مولاي، وأسرعت في الكلام، وابتدرت بالخصام. وإن كان العفريت هو أوروبي، لبست الطربوش على حرف، وغمزت بالحاجب والطرف، ثم اختالت وتمايلت، واستمالت وغازلت. وإن كان العفريت هو الصعيدي، علقت في الهِرّاوة جراب الزاد، وأكثرت من قولة: عاد. وإن كانت العفريتة رينة، كشفت عن ساقيها، وشمرت عن ذراعيها، وأخذت المصقلة وأومأت إلى العمل بها، فلا تزال كأنها تنشر ثيابًا وتطوي، وتصقل وتكوي. وإن كانت العفريتة سفينة، لعبت برأسها في طست من الماء لعب السفينة في الدأماء. وإن كان العفريت طفلاً أو طفلة تكلمت بألفاظ الأطفال، وحذفت من كلامها الحروف الثقال، فكمل جمالها بهذا النقص، كما كمل حسنها بذلك الرقص. وهكذا كل واحدة في دورها تلبس لبس عفريتها، وتمثل عمله، حتى تتأثر صاحبة الزار عند ذكر اسم عفريت من هذه الأسماء، فتقوم وتعمل عمل صاحبه، فيعلم حينئذ أنه العفريت الذي مسها. ولا يزلن في رقصهن وتمثيلهن حتى تضعف القوى، وتنحل الأعصاب فيترامين مغشيًّا عليهن، ولا يفقن حتى تأخذ الشيخة في فمها شيئًا من ماء الورد، ثم تمجه في وجوههن، فإذا أفقن عدن إلى ما كن عليه من دق الدفوف ودعاء العفريت حتى يقلقن الجيران، وكلما هم جار بالشكوى اعترضته زوجته خوفًا عليه أن يمسه عفريت، وقالت له: (إياك والاعتراض) حتى إذا أشرقت الغزالة برز الكبش يتهادى في الحلي والحلل، بين الخدم والخول، بعد غسله وتطهيره، وتعويذه وتبخيره، وقد ركبته صاحبة الزار، وأحاط بها ضاربات الدفوف، فتطوف بهذا الزفاف سبعًا حول ذلك الكرسي الذي بات وعليه النقل واللبن والشموع متقدة بين يديها، فإذا انتهت من الطواف أخرجنه إلى الجزار فذبحه، وتلقين الدم في إناء فتدهن الممسوسة به قلبها وتلطخ وجهها ويديها وثيابها، وتشرب منه، ثم يتناوب الحاضرات ذلك فيفعلن فعلها، وبعد ذلك يستحضر إناء كبير من المزر (البوزه) ويشربن منه، ويأكلن أحشاء الكبش بعد شيها، ثم تدق الدفوف ويحرق البخور ويخلن في المكان راقصات صائحات بقولهن: (يا شايل الدم، يا شارب البوزه، يا رينه يابتاعة الزار، يا رينه حلقك مرجان، سفينة في البحر عوامة، تقلع وتلبس وهدومها غرقانة) ولا يزال الحال على هذا المنوال إلى أن ينضج الشواء، فتضع الكودية على كل قرص من الفطير قطعة من الشواء، وتناول كل واحدة نصيبها. وهذا الترتيب بعينه من تطهير الذبيحة وتبخيرها وتحليتها وزفها والطواف بها وذبحها والتلطخ بدمها وشي أحشائها وتفرقة أجزائها مع الفطير، كان يعمل عند عبدة الأوثان في تقديم قرابينهم ونذورهم. وبعد الأكل يعدن إلى ما كن فيه إلى أن يطوى النهار، فتذهب كل واحدة من الحاضرات إلى بيتها بعد أن تقبل يد الشيخة وتتبرك بها. ولا تسل عما يصيب كل واحدة منهن من وهن الجسم واضطراب الأعصاب واختلال الصحة، فما أشبههن في هذه الحالة التي يعتبرنها شفاء لأمراضهن بحالة أولئك الذين كانوا يقومون من تحت حوافر الفرس مرضضين في تلك العادة القبيحة (عادة الدوسة) التي أحسنت الحكومة كل الإحسان في إبطالها، وياليتها تلتفت الآن لإبطال هذه العادة الوثنية، فتطهر الآداب من أرجاسها، إذا لم يكن بالأزواج نخوة تدفعهم لمحو هذا العار من بيوتهم، وتنزيه نسائهم أن يكُنَّ من مطايا الجن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مصباح الشرق)