للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد والشكر، ثم لمحمد رسولك خاتم النبيين الذي بلغنا عنك،
فَصَلّ اللهم عليه وعلى آله وصحابته المبلغين عنه ما آتيته من كتابك وحكمتك،
وعلى أتباعهم الحافظين عنهم ما بَلَّغُوا من بيانه وسننه، وجميع الناشرين للعلم
والعاملين به، وسلم تسليمًا.
أما بعد، فهذه أثارة من علم حافظ الملة، وإمام الأئمة، أبي عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل، كانت من مخبآت الخزائن، فاستخرجها منها بعض الأعوان على
الخير؛ لنشرها على الأمة بنعمة الطبع.
كان أكبر هَمِّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجل عنايته مصروفًا إلى
رواية الحديث ونقد رجاله تلقينًا وتصنيفًا، وإلى حفظ السنة النبوية المتبعة المأثورة
بالعلم والعمل، على الهدي الذي كان عليه الصحابة والتابعون وصلحاء السلف،
وما كان يريد أن يكون ذا مذهب في الفقه يُدَّون ويُتَّبع رأيه فيه؛ لأنه ما كان يبيح
لأحد أن يقلده ولا أن يقلد غيره في فهمه ورأيه؛ وإنما كان يدعو الناس إلى الاتباع،
وينهاهم عن الابتداع، حتى إنه كان يتحامى القياس ويرغب عنه، وقد روي عنه
أنه قال: سألت الشافعي عن هذا القياس فقال: هو كلحم الميتة يباح للضرورة - أو
قال كلمة بمعنى يباح والشك من الكاتب - ولذلك كتب الحديث والآثار والسنة وصفة
الصلاة والرد على المبتدعة، ولم يصنف شيئًا في الفقه، ومن ثم قال الإمام أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب الأحكام أنه لم يذكر فيه خلاف الإمام أحمد؛
لأنه كان محدثًا لا فقيهًا.
والحق أن الإمام أحمد كان محدثًا فقيهًا يرجع إليه العلماء فيما يشكل عليهم من
مسائل الفقه، كما يرجعون إليه فيما يشكل عليهم من روايات الأحاديث ورواتها،
ليعلموا ما يصلح وما لا يصلح للعمل به منها، وكان يجيب السائلين؛ ولكنه ما كان
يحب أن يُنقل عنه ولا عن غيره شيء في الفقه إلا الحديث والسنن، وتفنيد
المحدثات والبدع.
قال صاحبه أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذي - وهو من شيوخ البخاري
- عنه، أي: عن أحمد: سألت أبا عبد الله فقلت له: أكتب كتب الشافعي؟ فقال:
ما أقل ما يحتاج صاحب الحديث إليه. وقال صاحبه عبد الملك بن عبد الحميد
الميموني الرقي أبو الحسن: سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها فقال: إيش تكتب
يا أبا الحسن؟ فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها، وإنه عليَّ لشديد، والحديث أحب
إليَّ منها. قلت: إنما تطيب نفسي في الحمل عنك، إنك تعلم أنه منذ مضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب
يلزمون ويكتبون. قال: من كتب؟ قلت: قال أبو هريرة: وكان عبد الله بن
عمرو يكتب ولم أكتب فحفظ وضيعت. فقال لي: فهذا الحديث؟ فقلت له: فما
المسائل إلا حديث، ومن الحديث تشتق. قال لي: أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه
القوم. قال: لا. لمن يكتبون؟ قال: لا إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن إلا الواحد
بعد الواحد الشيء اليسير منه، فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست
أعرف فيها شيئًا، وإنما هو رأي لعله قد يدعه غدًا ينتقل عنه إلى غيره. ثم قال لي:
انظر إلى سفيان ومالك حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل كم فيها من الخطأ؟
وإنما هو رأي يرى اليوم شيئًا وينتقل عنه، والرأي قد يخطئ. فإذا صار إلى هذا
الموضع دار هذا الكلام بيني وبينه غير مرة. اهـ.
أقول: ذكر هذا عنه القاضي أبو الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى الكبير في
مختصر (طبقات الحنابلة) وقال قبله في ترجمة الميموني هذا: وعنده عن أبي
عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا، وجزأين كبيرين بخط جليل مائة ورقة - إن
شاء الله تعالى - أو نحو ذلك، لم يسمعه منه أحد غيري فيما علمت من مسائل لم
يشركه فيها أحد، كبار جياد، تجوز الحد في عظمها وقدرها وجلالتها. اهـ.
بحروفه ص ١٥٦ من الطبقات.
وهكذا كان يسأل الإمام أصحابه وغيرهم عما يعرض لهم من المسائل؛ لأن
إمامة العلم ورياسته قد انتهت إليه في بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم، فأما أهل
الرواية كالميموني فكانوا يروون عنه هذه المسائل، ومنهم صاحبه أبو داود في
المسائل المجموعة في هذا الكتاب، وأما سائر الناس فكانوا يعملون بما يقوله ويفتي
به، وإفتاء العامي فيما يعرض له واجب على أولي العلم؛ ولكن أحمد كان ينهى أن
يتخذ فهمه دينًا يقلد فيه، وكذا سائر الأئمة كما صرح به الإمام المزني عن الشافعي
في أول مختصره، وأنه كتبه لأجل النظر فيه، أي مساعدة على فتح باب الفهم،
وأن الشافعي نهى عن تقليده فيه؛ وإنما يعمل الناظر في العلم بما يقوم الدليل عنده
على صحته، وقد بكى مالك في مرض موته؛ إذ بلغه أن الناس يعملون بقوله لذاته،
مع أنه قد يرجع هو عنه.
ولما دَوَّن أتباعه الفقه على مذهبه جمعوا ما وصل إليهم من المسائل المجموعة،
والروايات المتفرقة، ووضعوها في أبوابها، ومن أجل هذا تجد الروايات
والأقوال عنه كثيرة مختلفة، وقد وضعوا للاختلاف فيها وترجيح بعضها على
بعض قواعد، ولو كان هو المدون للفقه لما احتاجوا إلى ذلك؛ لأنه كان يكون عند
الكتابة يدون ما يرى أنه الحكم، أو يذكر في المسألة وجهين على الأكثر، ووضعوا
اصطلاحًا لألفاظه المختلفة في التعبير عما يراه، وعما لا يراه في المسألة كقوله:
لا ينبغي، لا يعجبني، لا يصلح، أستقبحه، هو قبيح، أكرهه، لا أحبه، هذا أقبح
أو أشد. وفي مقابله: أحب كذا، يعجبني، هو أعجب إلي، هذا حسن أو أحسن،
وقد بين هذا وذاك العلامة ابن مفلح في فاتحة كتابه (الفروع) وإنما كان يقول هذا
حتى لا يكون جازمًا بأنه هو حكم الله تعالى، وما كان يخطر ببال أحدهم أن الناس
سيتركون ما صح في السنة والحديث تقديمًا لأقوالهم عليها، هذا ما كانوا يخافون
من كتابة الفقه، وليس فيما عداه إلا النفع للأمة والإعانة على العلم، وفتح أبواب
الفهم، فجزاهم الله خير الجزاء.
لا أعلم أن شيئًا من المسائل التي نقلها عن الإمام راوٍ واحد رويت عمن سأله
عنها، ودونت في زمن راويها إلا هذه المسائل التي رواها عنه أشهر أصحابه أبو
داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن المشهورة، فإن النسخة
المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق قد سمعت وكتبت في سنة ٢٦٦ للهجرة،
وكانت وفاته سنة ٢٧٥ فهي قد كتبت في عصره، ومن العجب أن علماء المذهب
لم يعتنوا بها بعد ذلك بما ينبغي لمثلها من الرواية والشرح حتى إن صاحب مختصر
الطبقات لم يذكرها في ترجمته، ولم نجد لها ذكرًا في كتاب (كشف الظنون) ولا
في فهرس المكتبة المصرية الكبرى، وإن ما فيها من الفقه لهو من أصح ما يعزى
إلى أحمد أو أصحه؛ لأنه كتب بلفظه في عصره، ولا يستغنى عنه بغيره.
لهذا نعد من حسنات هذا العصر، عصر تجديد العلم ونشر كتب السلف
بالطبع أن وفق الله تعالى الشيخ إبراهيم بن حمد الصنيع السلفي النجدي أحد كرام
تجار جدة لطبع هذا الكتاب بعد العثور على نسخة المدينة المنورة واستنساخها، وأن
أشار عليه بعض أهل المعرفة والرأي أن يكلف الأستاذ الأمين المدقق عالم الشام
الشيخ محمد بهجة البيطار معارضتها على نسخة المكتبة الظاهرية وتصحيحها
بالمقابلة عليها، وقد تبرع الأستاذ بهذا العمل الشاق وجرى فيه على الطريق الوعر
بأن أحصى كل ما رأى من الاختلاف بين النسختين، وأثبت في حواشي النسخة
المدنية التي جُعِلَت هي الأصل للطبع ما يخالفها في النسخة الظاهرية من تحريف
وتصحيف وزيادة ونقصان وهو كثير جدًّا، وترى بيان هذا بقلمه في آخر الكتاب.
وكان من سوء الحظ أن نسخة المدينة كثيرة الغلط حتى إن منه ما هو تحريف
أو تصحيف ظاهر لا يحتمل الصواب، وأن النسخة الظاهرية تخالفها في أكثره إلى
الصحيح كما صرحت به في بعض تعليقاتي عليه، ومثل هذا الاختلاف لا يصح أن
يُجْعَل اختلاف رواية ولا اختلاف فهم، وقد كتب الأستاذ رأيه في بعض الخطأ
اللفظي والمعنوي في الكتاب، ومنه اختلاف قولي الإمام في المسألة الواحدة،
ونصح لمريد طبع الكتاب أن يطبعه في مطبعة دار المنار بمصر، وأن تكلفني ما لا
يكلَّف مثله صاحب مطبعة من النظر في المشكلات المعنوية والمسائل الخفية،
وضبط الروايات وأسماء الرجال المشتبهة والتي لا تعرف لما وقع فيها من التحريف،
وكتب في ذلك جدولاً فيه عشرات من هذه المسائل، وقد أرسل إليّ هذا الجدول
بعد الاتفاق مع مدير المطبعة على شروط الطبع، ومنها أن يكون تصحيح المطبعة
على الأصل المرسل تحت إشرافي ومراجعتي.
وقد قمت ولله الحمد بأكثر مما كلفته من تصحيح المسائل المشكلة والخفية
وأسماء الرجال التي أحصاها الأستاذ ابن البيطار، ومنها ما كتبت له حواشي
وضعت اسمي في آخرها أو أولها، وربما تُرك ذكر الاسم أو سقط من بعضها،
ومنها ما لم أضع له حاشية لئلا تكثر الحواشي بغير فائدة، ولم يكن من الممكن بيان
جميع المسائل الخفية في الأصل وهي صحيحة مع كثرتها إلا بشرح مطول لها
يكون أضعاف الأصل في حجمه؛ فإن هذه المسائل لم يُقْصَد بشيء منها أن تكون
بيانًا تامًّا لمسألة فقهية أو اعتقادية أو حديث أو تاريخ راوٍ لأجل تلقينها لطلاب العلم
أو المستفتين؛ وإنما هي إشارات وجيزة من حافظ عليم إلى مشكلات عنده لإمام
أعلم منه، فيكفيه أن يشير إليها بلفظ مفرد أو جملة وجيزة تامة أو غير تامة،
ويقنعه من الجواب عليها مثل ذلك، فمن لم يكن على علم بموضوع المسألة من هذا
النوع فلعله لا يفهم السؤال والجواب، وناهيك بالسؤال عن حديث بذكر كلمة منه
ولو في بعض رواياته، أو بذكر أحد رواته باسمه أو لقبه أو كنيته، على ما في
هذه الأعلام من الاشتراك والاشتباه، ثم ناهيك بالجواب عنه بكلمة مبهمة أو باسم
آخر، وغير ذلك مما كان معروفًا عند السائل والمسؤول، وأشباه هذا مما تكرر في
هذه المسائل، ولو ضربت له الأمثال هنا لأطلت في غير طائل.
عرفت كثيرًا من التحريف والتصحيف لأسماء رجال الحديث في إحدى
النسختين أو كلتيهما بشهرتهم، وكثرة مرور أسمائهم على ضعف حفظي وذكري
للأعلام كالأرقام، وشككت في بعضها فراجعت عما أحاله عليَّ الأستاذ ابن البيطار
من المشكوك فيه فصححته، بل قمت بأكثر مما عُهِدَ إلي من التصحيح بقدر الإمكان،
كما قام هو بأكثرها مما عُهِدَ إليه أيضًا، فنسأل الله أن يثيبنا على هذه الخدمة.
ولو نقلت نسخة المكتبة الظاهرية بالتصوير الشمسي، أو كتبت عنها نسخة
وصححت عليها، وكلفنا الطبع عنها مع معارضتها على النسخة المدنية لَمَا تعبنا
عُشْر هذا التعب في تصحيحها، ولما زادت حواشيها على عُشْر هذه الحواشي،
ولجاء المطبوع أصح وأظهر في القراءة وأقرب إلى الفهم، لعدم الحاجة إلى
الحواشي عند القراءة إلا قليلاً، ومن ذا الذي كان يعلم هذا الفرق كله بين النسختين؛
فيخبر مريد طبع الكتاب به، ويقترح عليه العمل به.
أما أنا فلم أقرأ شيئًا من النسخة المخطوطة التي أرسلت إلى مطبعة المنار؛
لأنني لم أكلف قراءة الأصل، ولم أشعر بالحاجة إليه بعد العلم بتصحيح الثقة الأمين
الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار له بالصفة التي يعرفها القراء مما وصفه لهم؛
وإنما كنت أنظر فيما جمع منه في المطبعة للإشراف على تصحيح مصححها،
وللنظر فيما عهده إلي من (مشكلاتها الفقهية والحديثية وأسماء الرواة) ولم أفطن
لفضل النسخة الظاهرية على المدنية إلا بعد طبع كراسات منه، وأظن أن ما وقع
لي من هذا مثل الذي وقع للأستاذ ابن البيطار في معارضة النسختين، وما كان له
ولا لي أن نتصرف في الأصل المدني فنصحح ما نظن ولا ما نجزم بأنه خطأ فيه،
لاحتمال خطأ الظن في الأول، ولعدم ثقة جميع القراء بصحة ما تجزم به إلا أن
نبين الأصل المصحح، والدليل على أن ما جزمنا به هو الصواب، وهذا لا يكون
إلا بالتوسع في هذه الحواشي، وجعلها سفرًا كبيرًا، وهو ما لم نكلفه، على ما
يقتضيه من التعب الكثير والزمن الطويل، وأنا أقر بأنني لست أهلاً للاضطلاع به
في أقل من سنة كاملة أخصه بها.
بيد أني أقول: إن مما قمنا به من خدمة هذا الكتاب هو الممكن الذي أطقناه،
وهو قد أظهر لمحبي العلم والمشتغلين بفقه الإمام أحمد، وبعلوم الحديث نسخة منه
جامعة لكل ما في النسختين المخطوطتين اللتين لم يوجد منه غيرهما، مع زيادات
من البيان والتصحيح لا يُسْتَغْنَى عنهما، فإذا قدره علماء الحنابلة وعلماء الحديث
قدره، وأحبوا إكمال فائدته بما ينتفع به جميع القارئين له، فلينتدب بعضهم إلى
شرحه، وإن شرح القسم الخاص بالحديث ورجاله ليسير على المشتغلين به من
إخواننا علماء الهند، وأما القسم الفقهي فلا يستطيعه إلا فقيه حنبلي ضليع وما
أعرف أحدًا جامعًا بين الأمرين، فإن وجد فهو قليل لا كثير.
ويتوقف الفهم التام لهذا الكتاب في جميع مسائله على معرفة اللغة العرفية
لعلماء بغداد في عصر الإمام أحمد (رحمه الله تعالى) فقد كتبت بلغة النطق، لا
بلغة التصنيف والفرق بينهما قليل؛ فمنه عدم التزام حركات الإعراب، ومنه
استعمال مفردات غير عربية الأصل وهي قليلة جدًّا، وقد نبه الأستاذ ابن البيطار
لبعضها في حواشيه وزدت عليه في ذلك، وأرجعت بعضها إلى أصل عربي
كالوقوف على المنصوب بالسكون على لغة ربيعة، ثم رأيت هذا يكثر في أثناء
الكلام بدون وقف، ولا ترى مثل هذا في مصنفات الإمام أحمد التي كتبها - كيف
وقد شهد له الإمام الشافعي (رحمهما الله تعالى) بإمامة اللغة كإمامة الدين، وناهيك
بشهادة الشافعي.
قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي رضي الله عنه: أحمد إمام في ثماني
خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في
الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة. اهـ. من طبقات الحنابلة.
وجملة القول أن هذا الكتاب قد جَمَعَ من فقه الإمام أحمد، وعلمه بالحديث
ورجاله ما يعد من بقايا المآثر، وأعلاق الذخائر التي تركها الأوائل للأواخر، فنسأل
الله تعالى أن ينفع بها، ويحسن جزاء من رواها، ومن نسخها، ومن صححها، ومن
طبعها، إنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، آمين.
... ... ... ... ... ... ... وكتبه محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار