للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تعارض العقل والنقل في الإسلام [*]
جمال الدين القاسمي

(نص السؤال)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب المكرم الأخ في الله مفيد السائلين وقدوة الناسكين، إمام المحدثين،
سالك منهج الراشدين: شيخنا الفاضل الأمجد محمد جمال القاسمي سلمه الله من كل
شر وجعلنا وإياه من أتباع سيد البشر آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته. أما بعد، فإنه وصل إلينا
عزيز كتابكم، تلوناه مسرورين بسني خطابكم، وحمدنا الله على ما أولاكم، أصلح
الله أحوالنا وأحوالكم، وأحسن عواقب الجميع إنه ولي التوفيق.
وبعده، إني نظرت في أماكن من كلام الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مثل
توسطه في ذم السياسة وذم التقليد ومحبته لطريق السلف وحثه على النظر فيه في
أصول الاعتقاد وحثه على مآخذ الأئمة من الكتاب والسنة واحترام أهل الحديث
وأهل الإثبات وتمييزه طريقهم عن غيره، فحق لي أن أقول: هو العالم الحبر الذي
ينبغي أن تشد إليه الرحال. وودت أني سألته في حياته إيضاح قاعدة في أصل
الاعتقاد قد رسمها في كتاب الإسلام والنصرانية في تقديم العقل على ظاهر الشرع
عند التعارض، قال في كتابه:
(اتفق أهل الملة الإسلامية - إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه - على أنه إذا
تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم
بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه.
والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما
أثبته العقل. (وقال) وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل) اهـ كلامه.
فقسمها ثلاثة أقسام: الأول: التقديم عند التعارض مطلقًا، والثاني: التفويض،
والثالث: التأويل، فالأول: لولا ذمه لتقليد الفقهاء فضلاً عن الآراء الفلسفية؛ لقلنا
هذا تقليد لهم بناءً على أصلهم، والثاني: التفويض وفيه ما فيه، والثالث: لولا
تمييزه وإعلاؤه طريقة السلف؛ لقلنا: عنى بالتأويل اصطلاح المتفلسفة الذي حقيقته
التبديل. وكذلك (قال) وهذا الذي عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم. ففهمنا من
ذلك أنه بنى تلك الأصول على وجه يمكن أنه من السنة لكن لم نحط به علمًا خلاف
ما يتوهم؛ ولأنه بعيد من الغباوة والتقليد بغير الوقوف على الحقائق. وإني لعلى
نظر بل على قدم أن العقل عقلين: عقل صحيح وعقل فاسد، وأن النقل نقلين: نقل
صريح صحيح، ونقل غير صحيح. فالعقل الصحيح، موافق للنقل الصريح،
لا تعارض ولا تنازع بينهما وما حصل من التنازع فهو من سوء الأفهام ليس هو
اختلال في العقل الصحيح، ولا قصور من النقل الصريح، ومع هذا لم يرتفع عني
وجه الإشكال بالكلية، بل على هنية، لما في ذلك من الإجمال واحتمال التفاصيل؛ ما
يحتاج إلى فهم سيَّال، وفكر وقاد، فاستشكلت ذلك جدًّا.
وطلب التسليم لقاعدة صاحب الإسلام والنصرانية أعوذني إلى أن أنظر في
كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بـ (الجمع بين العقل والصحيح والنقل
الصريح) وهو بهامش كتابه (منهاج السنة في الرد على الرافضة) فسرحت نظري
في أول الكتاب واسترسلت به نحو فصلين؛ فعسر علي التسليم للتقديم مطلقًا؛ فأوقفني
ذلك الكتاب على نثيل أبحاث موارد طرق شتى متباعدة الأعماق، متخالفة المساق،
متبانية المذاق، فمنها ما هو ملح أجاج آسن كدر، ومنها ما هوعذب صاف فرات
سائغ للشراب، وما بينهما في الأقل والأكثر مزج من الجانبين. فصوبت نظري
مليًّا في ذلك؛ فإذا الناس في تنوع طرقهم إلى مواردهم يهرعون سراعًا أقطاعًا
وأرسالاً وأشتاتًا، لا يصدهم وذح قذى ما في مواردهم، فسبحان الله! لقد استعذب كل
أناس مشربهم.
ثم علوت أعلى نثيل تلك الموارد، دنف البدن من زواعج التفكير، شعث
القلب لهفًا، متفطر الكبد ظمأً، مرتجف الأعظم وجلاً، مفتقرًا للم شعث قلب، وضم
فطرة كبد، ونعش ظمأ، وسكون أعظم، وتمريض طبيب، فاستجرت بذلك إليكم؛
كي أستضيء بنور علمكم، وأستصبح بمشكاة فهمكم، وأستعين بباسق فضلكم،
إلى معرفة أصول الإيمان الذي أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وما يتوقف
وجود الإيمان على وجوده، وما يعدم من عدمه، ولكم في ذلك إن شاء الله الأجور
الوافرة، والمقامات الفاخرة في الدنيا والآخرة، وفقنا الله وإياكم السداد، وألهمنا
وإياكم الرشاد، إنه رؤوف بالعباد، هذا ما يلزم.
وأبلغ سلامي فريد عصره، نابغة دهره، مفيد المستفيد، إمام وقته، بركتي
ومحبتي الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ الأخ محمد ديب وإخوانكم السادة الأبرار،
وأولادكم الأطهار، ومحبيكم الأخيار. ومن لدينا مخدومكم محمد وابن عمه أحمد
والمشايخ أهل النهى السادة الفضلاء كافة بيت الآلوسي: علي أفندي ومحمود
شكري أفندي وكافتهم، والشيخ عبد الرزاق الأعظمي وكافة من تلامذة هؤلاء وأساتذة
تصحبهم، فعند ذكركم يودعونا السلام عليكم ومن يحبكم، وأنتم في أمان الله وحسن
رعايته والسلام.
... ... ... ... ... ... غرة ربيع ثاني سنة ١٣٢٤ هـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحب الداعي
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن محمد السناني
ثم ذيله بقوله:
صاحب هذه القاعدة المذكورة [١] أقواله في الحث على التمسك بالدين الحق
وإيضاح مآثره وتقديمه وتقديسه لأصوله في سائر أقواله في كتبه ومجالسه ومحافله
يخالف ما تتخيله من التناقض فيها اللهم إلا وهمًا وليس العصمة لغير الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليه أجمعين.
(جواب الشيخ جمال الدين القاسمي)

باسمه تعالى وبحمده
إلي الشيخ الإمام الرباني، الشيخ عبد العزيز السناني، أبقاه الله مفيدًا للطالبين،
وداعيًا للحبل المتين، وقائمًا بنصر السنة القويمة، والمحجة المستقيمة، سلام الله
عليكم ورحمته وبركته ورضوانه.
أنهي إليكم أنه وصلني عزيز خطابكم، وكريم كتابكم، فحمدت المولى على
صحتكم، ودعوت لكم بدوام إفادتكم، وعموم النفع بمباحثتكم.
تضمن كتابكم الجميل، أهم بحث جليل، ومسألة جديرة بالتحقيق، وإعارتها
النظر الدقيق، مسألة اضطربت فيها الأنظار، وأعملت فيها من عهد السلف الأفكار،
وصنفت فيها المصنفات، وتنوعت فيها المذاهب والمقالات، مسألة هي أشهر
المسائل الكلامية، ومحك أفهام الفئة السلفية والخلفية، مسألة من وقف منها على
الصواب، بعد اجتيازه عقبات الارتياب، فقد فاز فوزًا عظيمًا، وكان في الأمة
إمامًا حكيمًا.
قبل أن نتكلم في هذ البحث أريد أن أذكر أمرًا أراه من أوجب الواجبات،
وأهم المهمات، ألا وهو: إطراح العصبية المذهبية، والحمية القومية، والالتفات في
كل مسألة إلى دليلها، والبحث مع برهانها، فإنا عن الحق نبحث، وإليه نسعى،
والحق ما قوي فيه الدليل واتضح معه البرهان، فمن أدلى ببرهان ناصع وحجة قويمة
فهو المحق الواجب اتباعه، المتحتم اقتفاؤه، من أي مذهب كان، ومن أي فرقة
وجد، وفي أي جيل نشأ. والحاصل أنا أبناء الدليل، وأتباع البرهان، أقول هذا
أولاً.
ثانيًا: في الآداب التي يفترض - فيما أراه - سلوكها والأخذ بها، والدعوة
إليها، وهي من لوازم التمهيد الأول: رفع التنافر من الفرق، ومحوالتضليل
والتفسيق من النفوس، وإقامة الأعذار، لسائر أهل الأنظار، ما داموا داعين إلى
الدين، متمسكين بشرعه المتين، يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، وأن يتحقق أن
الكل طالبون للحق، جادون للحصول عليه، ساعون وراءه، فيعذرهم بذلك
ويرحمهم، ثم من أخطأ منهم الدليل، ونكب عن سواء السبيل، فيما يعتقد خصمه؛
فإنه بعد بذله جهده معذور بالاتفاق ومأجور بنص الشارع، وعلى خصمه أن يحمد
مولاه، على ما هداه، ويشكره على ما أولاه، ويقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما
كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
لا أنكر أن المرء إذا بحث وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي
يخالفون به أهل الحديث كله انحرافًا، ووجد أن الحق مع أهل الحديث باطنًا
وظاهرًا، ولكن آسف لأن تكون هذه المسائل مدعاة للتفرق، سائقة للتحزب
والتعادي، باعثة على التنابز بالألقاب، مثيرة أحيانًا للطعن بإنسان إثر الترامي
بشظايا اللسان، هذا وديننا واحد، وكتابنا واحد، وقبلتنا واحدة، وأصول إيماننا
واحدة، من أين أتينا ومن أي صوب رمينا؟ أتينا من نبذ الوحدة، والزهد في
التآلف، والرغبة عن التضام، من دخلاء أفسدوا جامعتنا، أو من غلاتنا، أو من
مقصرين عن فهم روابط الدين، فإنا لله! !
نحن في عصر أحوج إلى الرجوع إلى المتفق عليه، والدعوة بالحكمة إليه،
فمن انقاد، واعتنق سبيل السداد، وإلا فلا تفسيق ولا تضليل، ما دام على قانون
التأويل، وقد صرح بذلك حجة الإسلام عليه الرحمة.
إنما عجلت بهذا التمهيد أنا لسنا من قوم يتحزبون لفريق دون آخر، ولا ممن
يعادي المخالف عداوة قلبية، بل ممن يبين الحق الذي يراه، ويجادل بالحكمة
والموعظة الحسنة من يأباه، فإن اهتدى فلنفسه، وإن أصر معتقدًا حجية ما لديه
وصحة ما ينتحله فيكشف له غلطه، فإن رجع (فذاك) وإلا بأن عاد إلى مشربه،
وقد استحكم في قلبه قواعد مذهبه، فما عليك إلا إبانة الرشاد، والله الهاد.

(مبحثنا في دعوى تعارض العقل والنقل)
ماذا يقول العاقل من هذه الجملة التي دبت على الألسنة، ومشت مع الزمان،
وصقلها مرور الأيام، وامتزجت بكلام أهل النظر وتآليفهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً
بعد جيل، حتى أصبحت أصلاً أصيلاً، وغدت ركنًا ركينًا، يتحاكم أهل النظر
إليها ويعولون في مشكلاتهم عليها.
لعمر الحق إن بثها في أسفار العلم، وتلقينها لرواد الفهم، لمما يندهش له
الفكر، ويتألم له القلب السليم، لا يعده ذوالفطنة الوقادة، والفطرة الصحيحة، إلا
من الدخائل على أصول الدين، دخائل الخلف المبتدعين.
من ينكر أثر هذه الجملة على أصول الدين؟ ومن لا يألم لما جنته على قواعد
اليقين؟ يكاد ينخلع القلب مما ترمي إليه من إمكان تعارض العقل والنقل، وتباين
الأمرين، ومعاذ الله أن يوجد تعارض أو شبه تعارض أو إمكان تعارض بين العقل
والنقل، بل العقل في النقل والنقل في العقل، وما هما لتعرف الحق إلا كالرؤية
المشروطة بسلامة البصر وانبساط الضياء، فلا عقل بدون نقل، ولا نقل بدون
عقل. العقل والنقل متآخيان في هذه الملة الحنيفية، وممتزجان في أصولها
وفروعها، كلياتها وجزئياتها، امتزاج الماء في العود والروح في الجسد،
ومتلازمان تلازمًا لا يقبل الانفكاك بوجه ما كلزوم نظام الكواكب لسيرها
المقدر.
(شهرة هذه القاعدة)
حدثني تحرير إمام أن حشويًّا من بيروت نقم على الأستاذ عليه الرحمة هذه
القاعدة بدعوى تفرده بها، وعدم سماعه لها، فأسِفت لأن يصل الحال بالحشوية إلى
إنكار المشهورات سيما مثل هذه القاعدة التي هي أصل للمتكلمين أجمعين، وما بنا
من حاجة إلى التعريف بشهرتها من الأسفار الموجودة وتأييدها، فإنها بديهية، إلا
أن البديهي قد ينبه عليه، لغشاوة تحول دون النظر إليه، قال السيد الزبيدي في
كتابه (إيثار الحق على الخلق) : تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض؛ لأن
السمع عُلم بالعقل فهو أصله ولو بطل السمع والعقل معًا. وهذه من قواعد المتكلمين.
وقال الإمام ابن فورك في كتابه (تأويل المتشابه) : ما صح من الخبر المروي
في باب الصفات فهو مرتب على دلائل العقول ليجمع بين الدليلين، ويوفق
بين الحجتين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) : ما قضى العقل
باستحالته فيجب فيه تأويل السمع به.
ويكفي أن شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان ألف كتابه المسمى
(موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، لمناقشة هذه القاعدة حيث قال في أوله:
(قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل
والعقل ونحو ذلك من العبارات فإنه يجب تقديم العقل، هذا الكلام قد جعله الرازي
وأتباعه قانونًا كليًّا فيما يستدل به من كتب الله وكلام أنبيائه) إلى آخره، وكلام
الأئمة في هذه القاعدة شهير إلا أن الحشوي لا يعلم ولا يريد أن يعلم.
أذكرني كلام هذا الحشوي - والشيء بالشيء يذكر- ما وقع من حشوي آخر
غبي قيل له: إن السبكي في (جمع الجوامع) رد على من زعم انقراض الاجتهاد
من عصر الأربعمائة وصحح بقاءه إلى عصره فأخذته الرجفة، وآلى بأنه قرأه
ودرسه، وسبره وفحصه، ولم ير لتلك المقالة من أثر، فقيل له: لو قرأته
لدريته ثم ترامى على محاوره فتوسل إليه ألا يضن عليه بموضع ذلك من الجمع
فقال له: راجع ما قاله في بحث خلو الزمان عن مجتهد. وهو قوله: (والمختار
أنه بعد جوازه لم يثبت وقوعه) أي: وقوع الخلو، فسقط بين يديه، وكاد يقضى
عليه، والقصد أن تلك العبارة شهيرة وإن كانت في كل كتاب تكسى من الألفاظ أسلوبًا
خاصًّا قد يخفى أنها هي هو.
(سبب تأصيل هذه القاعدة)
قدمنا ما يلم بالنفس من التألم لدعوى تعارض العقل والنقل، وأنها عبارة ما كان
ينبغي إعارتها أدنى نظر، فإنه متى أجرى بالنقل على طريقه الصحيح تصافح مع
العقل بادئ بدء. ولكن يضطرنا للكلام عليها ما يتوكأ عليه كثير من الخائضين في
الكلام مع الفرق، والباحثين في علم الكلام، أرى بعد ثبوتها في كتب الأئمة
واندراجها في مباحثهم أن لها وجوهًا بعضها صحيح وبعضها فاسد. وإليك البيان:
لما حدث في عهد السلف الخوض في الصفات والبحث في المعاني عن
مروياتها وذاع ذلك وانتشر بين حملة الآثار وبين أرباب النظر، انقسمت الناس في
ذلك ثلاثة أقسام: فريقان منهم متطرفان وفريق معتدل:
أما الفرقة الأولى المتطرفة: فهي الفئة المشبهة فإنها غلت في الإثبات غلوًّا
خرجت به عن المعقول رأسًا، فأجرت كل ما ورد على ظاهره المعهود في
المخلوقين. والمفهوم عند الإطلاق على الأجسام، فانتهى بهم الأمر إلى التجسيم
البحت، والتحديد الصِّرْف، وأخذت آراؤهم الحمقى يتلاعب بها الهوى كيف شاء،
وتفرقوا إلى مشبهة الحشوية ومشبهة الشيعة الغالية ومشبهة الحلولية، كما تراه في
كتب المقالات.
ولعل هذه الفرقة هي التي استثناها الأستاذ الإمام رحمه الله بقوله: (إلا قليلاً
ممن لا ينظر إليه) ، وفي الواقع هم شرذمة قليلون إذا نسبوا لغيرهم ولقوة جمودهم
لم يتم لهم وزن كما أقيم لغيرهم.
وأما الفرقة الثانية: فقامت في مقابلة أولئك، وغلب عليها النظر والتأويل
وأوهمت أن الأولى تنقل ما لا يليق بالتوحيد، وتروي ما لا يصح في الدين، فرمتها
بكفر أهل التشبيه والتمثيل، ومروق أهل الإلحاد والتعطيل، وقضت على تلك
المرويات بأنها مجازات وردت على مناحي معروفة للعرب، معهودة في لغتهم
وأساليبهم، ثم برهنوا على ذلك بأنه حملها على حقيقتها محال؛ لما يلزم من الحدوث
وحلول الحوادث به. يعنون بحقيقتها ما هو معروف لهم من صفات الخلق وأحوالهم،
قالوا: فلما جاء النقل بما يوهم محالاً عند العقل؛ كان للعقل التقديم على
النقل وملاحظته أولاً وبالذات، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا:
هو من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها. وبالجملة فجعلوا قاعدتهم
الكلية العقلية أصلاً محكمًا، والمروي المنقول فرعًا له، فكان العقل عندهم مقدمًا على
النقل مطلقًا. وهؤلاء الفرقة أيضًا من الغلاة في التنزيه المتعصبة فيه.
ولذلك كانت فرقة جائرة غير معتدلة ولا مقتصدة؛ فإن دعواها في سائر
المرويات أنها مجازات، وأن العقل مسيطر على النقل يصرفه كيف شاء - كدعوى
أن النقل يقبل كيفما كان أحاله العقل أم لا، صح سنده أم لا؟ في أن كليهما طرفان
جائران، والقصد والتوسط خيرهما. ولذا قال السيد الزيبدي: (ومن البدع بدع
المشبهة على اختلاف أنواعهم وبدع المعطلة على اختلافهم أيضًا فغلاتهم يعطلون
الذات والصفات والأسماء ومنهم الباطنية ودونهم الجهمية، ومن الناس من يوافقهم في
بعض ذلك دون بعض. ثم قال: فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم
ما لا يعلمون، ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه
لسلموا، فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف
أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم ما لا يعلم فتعارضت أنظارهم
العقلية وعارض بعضهم بعضًا في الأدلة السمعية؛ فالمشبهة ينسبون خصومهم
إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه. والمعطلة ينسبون
خصومهم إلى التشبيه ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة، والكل حرموا
طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على
جليات الأبصار، وصحاح الآثار. انتهى.
وطريق الجمع هو طريق السلف المقتصد ويأتي بيانه على حدة. وهو طريق
الفريق المعتدل. والمقصود أن الفرقة الثانية القائلة بالتنزيه البحت، المحكمة للعقل
في النصوص تحكيمًا مطلقًا، القائلة بتقديمه على النقل بطريقها الذي بيناه؛ فقاعدتها
المذكورة فاسدة بإطلاقها؛ إذ لو قيل لها: ما هو العقل؟ وما ميزانه؟ وهل يمكن عدم
التناقض في مناحيه؟ وهل يمكن حمل الأمة على سبيله حملاً لا ينازعهم وجدانهم
في قضية منه؟ لكان الجواب: الحيرة في الأولين، والسلب في الآخرين؛ فإن العقل
لا يمكن تحديده في هذا المقام بالكنه ولا بالعرض، وليس له ميزان ومعيار خاص
لتباين الآراء في التأويلات العقلية، وجواز أن يهدم في اليوم ما بنى منها في الأمس.
والمشاهدة قاضية بمنازعة الوجدان لكثير من مسائله، وتناقض الأنظار فيها
تناقضًا جليًّا بما لا يجد الواقف عليه سكون نفس ولا اطمئنان قلب؛ فإذن ليس مع من
يدعي تقديم العقل مطلقًا أو معارضة المعقول ما يجزم بأنه معقول صحيح متفق عليه
معلوم بالضرورة، وما سبيله كذلك؛ فلا تصح الدعوى المذكورة فيه على إطلاقها.
ومن ادعاها أظهر تناقضه واضطر إلى ما يعدل رأيه، ويلطف مشربه، ويصحح
مذهبه.
وأما الوجه الآخر الذي تصحح به هذه القاعدة، وتسلم عند كل منصف، ويكون
عليها مسحة من الحق ولمعة من الصواب؛ فذلك في مثل ما قصده الأستاذ -
عليه الرحمة - في حج خصمه النصراني وإفحامه، فقد زعم خصمه أن من قضايا
الدين ما يعلو على متناول العقل والفهم بل يناقضه، وأنه يجب مع ذلك التسليم به
تدينًا، وأنه لا أثر للعقل في باب الدين أصلاً لاطراحه معه جانبًا، ولزوم الخضوع
الأعمى، شاء العقل أم أبى، فناقشه الأستاذ بأن هذه يستحيل أن تقبله الفطرة السليمة
أو تأتي به شريعة موحاة، وأنه من أوضاع الذين انحرفوا بعد ما تبين لهم الهدى،
وأنه لو صح ذلك على زعم الخصم لكان الأحرى به أن ينبذه وينتهج ما هو خير له،
وذلك في دين أساسه العقل، وقوامه العقل، ودعائمه العقل، ومبانيه العقل، فقصده -
عليه الرحمه - هدم ما بنوه من ذلك الأصل الفاسد الذي يتبرأ منه العقل السليم،
وإبانة أن الدين الحنيفي نزل مؤاخيًا للعقل بل العقل مرده وإليه تحاكمه. ولذلك أكثر
التنزيل من التنبيه على العقل والنويه به في مثل قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يس:
٦٨) (لعلهم يعقلون) {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: ٤٣) في آيات
لا تحصى. وبالتحاكم إلى العقل يعلم الخصم أن ليس مرد ديننا هو الخضوع الأعمى
لكهنة الباطل الذين انتحلوا لأنفسهم الربوبية في التشريع وردوا عقائد شعبهم إلى
أهوائهم وكلفوهم ما لا يطيقون من اعتقاد ما يحيله العقل كالثالوث والاستحالة ...
بل الدين الحنيفي دين العقل، دين النظر، دين التدبر، فمن استعمل عقله
ونظره وفكره من الملاحدة وتأمل في محاسنه وقابل بينه وبين غيره من الأديان لم
يلبث أن يعتنقه اعتناقًا يمتزج به في لحمه ودمه حتى يستميت في الذود عن حماه.
ثم ترقى الأستاذ عليه الرحمة إلى نكاية الخصم بأن العقل يقدم على النقل إذا
عارض قضاءه؛ ليعلم الخصم أن الأساس الأكبر والمرجع الأعلى هو العقل، وأن
ليس في الدين ما ينافيه، ولا ما ينقضه لابتنائه عليه، حتى لو وجد ما يعارضه
بادئ بدء لروجع العقل فيه فيجريه على أصله وقاعدته ويقضي للواهم أن لا
تعارض.
رأي الأستاذ - رحمه الله - أن التفويض والتأويل كليهما من قضاء العقل
في المسألة؛ وهو كذلك لأنه لولا ذلك لكان الأمر إما على حقيقته المعهودة كما فهمه
الجل وهو محال، وإما على أنه فوق العقل وذلك غير معهود في مبدأ الدين المتين.
وإنما كان التفويض أحد وجهي قضاء العقل؛ لأن للعقل أن يقول للباحث: بعد
ما وضح وثبت صدق الخبر بذلك من المعصوم الذي استنارت حجته فما عليك إلا
الإيمان بما جاء به تفصيلاً فيما فصل وإجمالاً فيما أجمل، ومنه أوصاف الربوبية
وما يضاف إلى سموها؛ فيكفيك الإذعان للمنقول منها، ولم تكلف الخوض في
اكتناهها فهو ما لا تبلغه قوتك، ولا تصل إليه قدرتك، وربما عثر بك الحال، إلى
الزلل في المتعال، فتكون جاوزت قدرك، وتعديت طورك، وهذا القضاء قضاء
مرضي لا يأباه القلب ولا يجافيه ذو اللب.
كما أن قضاء العقل بالتأويل قضاء مقبول، لا تحيله العقول، بل هو الذي
آثره جمهور النظار الفحول، وقد طالعت من ذلك كتاب ابن فورك - رحمه الله -
فرأيته توسع في توجيه المروي من الصفات توسعًا غريبًا أقام في كل فصل من
الشواهد العربية نظمًا، ومن مُثلِهم نثرًا ما يقنع الباحث بل يدهشه حتى يخيل للناظر
أن ليس وراء ذلك مرمًى. وقد حاول رد طريقة السلف وما روي عنهم إلى مشربه،
ورد شبه الطاعنين على المحدثين في طريقة غريبة، وإن تعسف في كثير من
التأويل، ونوقش في توجيهه كل ما روي في الباب ولو موضوعًا. فذاك بحث آخر.
والقصد أن تأويلاته سائغة، وفي لغة العرب متسع لها وترحيب بها، ومن ينكر
وفرة المجاز في اللغة ورقة أساليبه، وبديع كناياته، ولطيف مواقعه، وأسرار
إعجازه وبلاغته. لا جرم أنه باب من أبواب الخطاب عظيم، وركن من أركان
اللغة قويم، على أن من المروي ما لا يمكن معه إلا المجاز مهما حاول محاول لحديث
(قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) وحديث (الحجر الأسود يمين الله
في الأرض) .
نعم ثمة في باب الصفات ما هو أرقى من المذهبين المذكورين مذهب التأويل
والتفويض. وذلك من إثبات تلك الصفات بلا تأويل ولا تمثيل إثباتًا حقيقيًّا يليق
بالذات العلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه الرحمة والرضوان - في رسالته
المدنية: (مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من
الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل
يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل، وقد أطلق غير واحد ممن حكى
إجماع السلف منهم الخطابي مذهب السلف أنها تجري على ظاهرها، مع نفي
الكيفية والتشبيه عنها، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى
حذوه، ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك
إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا. ولا نقول: إن
معنى اليد القدرة ومعنى السمع العلم) .
ثم قال عليه الرحمة والرضوان: (وبعض الناس يقول) : مذهب السلف أن
الظاهر غير مراد. ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد. وهذه العبارة خطأ إما
لفظًا ومعنًًى، أو لفظًا لا معنًى لأن الظاهر قد صار مشتركًا بين شيئين: أحدهما: أن
يقال: إن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب
الانتقام. وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف. فلا شك أن من
قال: هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من
الآيات والأحاديث. فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السنة أن الله تعالى ليس
كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة من أصحابنا
وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة. لكن هذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى
هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث. وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإن
ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم لمن يفهم بتلك اللغة. ثم قد يكون ظهروه
بمجرد الوضع، وقد يكون بسياق الكلام.
وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله هي السابقة إلى عقل المؤمن بل
اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها
من الصفات أعراضًا تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله بمثلها. فكذلك أيدينا
ووجوهنا ونحوها جسام محدثة لا يجوز أن يوصف الله بمثلها. ثم لم يقل أحد من أهل
السنة: إذا قلنا: إن لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا أن ظاهره غير مراد. ثم يفسره
بصفاتنا. فكذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر اليد والوجه غير مراد ولا فرق بين ما
هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم. ومن قال: إن ظاهر شيء من أسمائه وصفاته
غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما من اسم يسمى الله به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق
غير مراد به. فكان قول هذا القائل يفضي إلى أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد
أريد بها ما يخالف ظاهرها. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد.
والمعنى الثاني: إن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق
بجلاله، نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته. فيعلم أن العلم
صفة ذاتية للموصوف، ولها خصائص، ولا يدرك لها كيفية. كما يعلم أن له
ربًّا وخالقًا ومعبودًا ولا يعلم كنه شيء من ذلك. بل غاية علم الخلق هكذا يعلمون
الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب.
ثم قال: أفيجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير؟ لا يمكن، فمن قال:
إن الظاهر غير مراد بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة قلنا له: أصبت في
المعنى، لكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقًا إلى
غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن
صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو
نقصه. ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني - وهو مراد الجهمية ومن
تبعهم من المعتزلة والأشعرية وغيرهم - فقط أخطأ. اهـ كلامه.
وقد سبق شيخ الإسلام إلى هذا الإمام ابن بطة - رحمه الله - حيث قال في
الفصل الثامن من كتابه: (ثم نهاية شغبهم أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه
والتجسيم لما نراه في الشاهد. وهذا الشغب ينعكس عليهم ويعلم بطلانه بذلك، ألا
ترى أن في الشاهد أن الفاعل للأشياء المتقنة العالم الخبير الحي السميع البصير
جسم؟ والله سبحانه حي سميع بصير عليم خبير فاعل وليس بجسم، فإثبات الصفات
له على ما جاء به النص عنه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب التجسيم
ولا التشبيه بل كل شيء يتعلق بالمحدث مكيف، وصفات البارئ لا كيفية لها،
فالتجسيم والتشبيه منتفيان عنه وعن صفاته. وبالله التوفيق) .
وكذلك جود في إيضاح هذا المشرب الإمام ابن القيم رحمه الله في (طريق
الهجرتين) في مباحث التوبة فننقله عنه ونجعله مسك الختام.
قال رحمه الله بعد أن ناقش من أوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب
الاحتمالات والتجوزات:
(فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فنسلك فيه، أو: من
طريق ليستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم بحمد الله الطريق واضحة المنار بينة
الأعلام مضيئة للسالكين، وأولها أن نحذف خصائص المخلوقين، عن إضافتها إلى
صفات رب العالمين؛ فإن هذه العقدة هي أصل بلاء الناس فمن حلها؛ فما بعدها
أيسر منها، ومن هلك بها؛ فما بعدها أشد منها، وهل نفى أحد ما نفى من صفات
الرب ونعوت جلاله إلا لسبق نظره الضعيف إليها واحتجابه بها عن أصل الصفة
وتجردها عن خصائص المحدث؟ فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن
القاصر إذا رأى ذلك اللازم في محل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقًا فهو يفر
من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرد في ظنه عن ذلك اللازم، وهذا كما فعل من
نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضاء والغضب والكراهة والمقت والبغض
وردها كلها إلى الإرادة فإنه فهم فرحًا مستلزمًا لخصائص المخلوق من انبساط دم
القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذلك
فهم محبة ورضًا وكراهةً ورحمةً مقرونةً بخصائص المخلوقين؛ فإن ذلك هو السابق
إلى فهمه وهو المشهور في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه، ولم يحط علمه
بغيره ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدًّا من نفيه عن الخالق، والصفة لم تتجرد
في عقله عن هذا اللزم فلم يجد بدًّا من نفيها) .
(ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البين وهو
إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال بل يثبتها مجردة عن
خصائص المخلوق، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها، فإن كان
إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذور الذي فر منه فكيف لم يستلزمه إثبات
ما أثبته؟ وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورًا فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟
وهل في التناقض أعجب من هذا؟ والمسلك الثاني: مسلك النفي العام والتعطيل
المحض هربًا من التناقض، والتزامًا لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذًا الحق
المحض في الإثبات المحض الذي أثبته الله لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله من
غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل) اهـ.
وبالجملة فهذا المذهب الأخير مع المذهبين قبله كلها إجمالاً من المعقول، أعني
مما أبان العقل فيها معاني سليمة مما يوهم محالاً عنده، وبه يعلم أن ليس في
الدين ما ينافر العقل أو يعارضه بل هما كالسدى واللحمة في كونهما قوام الثوب،
وكالروح والجسم في حفظ الحياة.
هذا ما رآه الفكر القاصر في القصد من تنويه الأستاذ المرحوم بالعقل، أعني
حج خصمه وإعلاء منزلة العقل في الدين الإسلامي، وتنبيه خصمه على أن بالعقل
يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال فيفرق تبعًا لذلك بين الشرائع، فلا بد أن
يعثر بسبب تعضيد العلم والبدائه على الدين الذي يجب أن يكون خاتمة الأديان
كلها، وباقيًا بقاء النوع الإنساني.
والأستاذ المرحوم - وإن كان يجري في كلامه أحيانًا على قواعد النظار
والمتكلمين ويدافع بها - فهو لم يخرج عن حبه للسلف واعتقاده بمشربهم وأذكرنا ليلة
كنا في ضيافته في داره وسمرنا معه أكثر من ثلث الليل أيام رحلتنا إلى تلك الأقطار،
وقد كنت قرأت في مواضع من كلامه ميلاً لمذهب الخلف المؤولين من الأشاعرة
وغيرهم وقد أفضى البحث بنا إلى مسألة الصفات أني قلت له: (إني لأعجب من
هؤلاء المتأولين المندفعين على رفع الظواهر المكبرين لإطلاقها، أفهم أَغْيَرُ من
الله على ذاته المقدسة حيث أطلق في كلامه وعلى لسان رسوله تلك النعوت الجليلة
التي تأبى كثرتها التأويل الذي لا يؤمن في أكثره من التعطيل؟! أفليس الإثبات على
الطريقة السلفية هوالأصوب والأقرب؟!) ، فرأيته - رحمه الله - أقر على ما قلت
وصدق ما ذكرت، ولم ينتصر لمذهب الخلف، ولم يشر إليه مع أنه ليلتئذ في غير
هذا المبحث حاور وناقش وحقق ودقق، هذا ما أتحققه منه، رحمه الله ورضي عنه.
(نتيجة البحث)
أوضحنا أن قصد الأستاذ هو التنويه بالعقل في الشرع وملاحظة أنه الأصل في
إثبات قواعد الإيمان وهذا مما لا ريب فيه، فإن وجود الله تعالى ووحدته في
ألوهيته، وما يجب له من جلائل النعوت، وتصديق رسوله برسالته بما نصبه دليلاً
على صدقه - كل ذلك مما نظر فيه العقل وتدبره فآمن به. وهذه الأصول التي هي
قوام الشرائع إنما مستند ثبوتها النظر العقلي اتفاقًا، فملحظ تقديم العقل على النقل
إنما هو رعاية العقل في النقل بالوجوه التي قدمناها. وبه يظهر أن كلامه - رحمه
الله - موجه لما تقتضيه حكمة التشريع في الإسلام، وسره وتفوقه على ما عداه من
الأديان التي حرفها أربابها. وعلى تسليم أنه وافق آراء الفلاسفة في هذه القاعدة كغيره
من أئمة المتكلمين؛ فلا غضاضة عليه في ذلك فقد خرجناها على وجه لا يبعد
عن الصواب.
وجلي أنه ليس كل ما للفلاسفة مذمومًا، بل المذموم ما نقض شرعًا أو هدم
ركنًا. وكلمة فيلسوف معناها (محب الحكمة) ، والحكمة متقبلة من أي لسان؛ لأنها
مساوقة للحق كما أشرنا له قبل. قال الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب وإمامه في
كتابه (جامع بيان العلم وفضله) في باب جامع في الحال التي تنال بها العلم:
(وروينا عن علي رضي الله عنه أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو
من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه) .
أشرتم إلى أن التفويض فيه ما فيه والحق لكم؛ لأنه في طيه إشعار بأن الناس
خوطبت بما لا تعقله ولا تفهمه، ولا هو من لغتها مع أن اللسان عربي مبين لقوم
ساروا في الفصاحة ونبغوا في البلاغة ولم يتطالَّ عليهم فيهما، ومعلوم أن أشرف ما
في القرآن المأمور بتدبره هو ما جاء فيه من نعوت الرب وصفاته الجليلة، فإذا لم يعلم
أحد معناها فأنى يستدل بها؟! وفيه سد لباب الهدى والبيان منها، وحينئذ فقول أهل
التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف قول فيه ما فيه، واحتجاج من
احتج لهم بالوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران:
٧) من الغلط في الاستدلال فإن المراد بتأويله ما يؤول إليه الأمر، فتأويل ما أخبر
الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر هو نفس الحقيقة التي أخبر عنها ذلك في حق الله
تعالى، هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك وربيعة
وغيرهما: (الاستواء معلوم والكيف مجهول) وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن
حنبل وغيرهما من السلف: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا
تفسيره ومعناه.
فلفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن وهو الذي تعرفه
السلف وهو الذي أراده الله في مثل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ} (الأعراف: ٥٣) ، وقال يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} (يوسف: ١٠٠) فجعل في الآية الأولى ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود
النار تأويلاً , وفي الآية الثانية نفس سجود أبويه له تأويل رؤياه.
وأما التأويل الذي هوالتفسير وبيان المراد به فهذا لا يصح إرادته من الآية؛
لأن الصحابة والتابعين فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون
تفسيره، وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وكذلك لا يعلمون
كيفيات الغيب؛ فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا
خطر على قلب بشر فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله.
نعم من وقف في الآية على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} (آل عمران: ٧) أراد منها هذا المعنى، وأنه يعلم تأويله وهو منقول عن ابن
عباس أيضًا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة. والقول
الأول منقول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن
الزبير وغير واحد من السلف والخلف، فلا منافاة بين القولين، لانفكاك
الجهتين.
والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، ولشيخ الإسلام بسط لهذا المبحث في
كثير من المؤلفات الشهيرة.
وأما ما ذكرتموه من أن التأويل حقيقته التبديل الذي هو اصطلاح المتفلسفة؛ أي:
ولذلك اعترفوا بأنه غير أسلم؛ لما فيه من خطر رفع الظواهر المنتهي إلى تغييرها
وتغيير البراهين أو أكثرها مع أن القصد بإيحائها والإعلام بها هو إفادة الأمة
ونصحها وهدايتها، فمن التكلف أن يعدل عن البيان الناصح الرافع للبس المزيل
للإجمال إلى أسلوب يوقع الأمة في أودية التأويلات، وشعاب الاحتمالات
والتجويزات.
ما بحثتموه في التفويض والتأويل هو من نقد المدققين في باب الصفات الذي
تجلى لهم ذلك المشرب المعتدل في أزهى حلله، ومع ذلك فنقدهم لا يحبط من قدر
من ذهب إلى التفويض والتأويل، ولا يقضي عليه بالتفسيق والتضليل؛ فإن ذلك
قصارى جهدهم، وغاية نظرهم، وقدمنا أن للعقل قبولاً ما ولا ملام على من بذل
جهده، وأخلص قصده، نعم يلام من جمد على التقليد المحض بعد أن وضحت
الحجة، استبانت المحجة.
وقد قدمنا أن الحجة قويت في الإثبات بلا تشبيه ولا تأويل، وقد نقل
الشعراني في (اليواقيت والجواهر) عن الشيخ ابن عربي رحمه الله أنه حذر
من التأويل وناقش منتحليه في مواضع من فتوحاته فمنها قوله:
(اعلم أنه يجب الإيمان بآيات الصفات وأخبارها على كل مكلف) ، قال: (وقد
أخبر الله تعالى عن نفسه على ألسنة رسله أن له يدًا ويدين وأصبعًا وأصبعين وعينًا
وعينين وأعينًا ومعية، ضحكًا وفرحًا وتعجبًا وإتيانًا ومجيئًا واستواءً على العرش
ونزولاً منه إلى الكرسي وإلى سماء الدنيا، وأخبر أن له بصرًا وعلمًا وكلامًا وأمثال
ذلك) ، قال: (وهذا كله معقول المعنى مجهول النسبة إلى الله تعالى يجب الإيمان
به؛ لأنه حُكم حكم به الحق على نفسه فهو أولى مما حكم به مخلوق وهو العقل) .
وقال أيضًا: (جميع الأحاديث والآيات الواردة بالألفاظ التي تنطلق على
المخلوقات باستصحاب معانيها إياها لولا استصحاب معانيها إياها المفهومة من
الاصطلاح؛ ما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب بها مما يخالف ذلك اللسان الذي
نزل به هذا التعريف الإلهي قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤) يعني: يبين لهم بلغتهم ما هو الأمر عليه. ولم يشرح لنا
الرسول المبعوث بهذه الألفاظ هذه الألفاظ بشرح يخالف ما وقع عليه الاصطلاح،
فننسب تلك المعاني المفهومة من تلك الألفاظ إلى الحق جل وعلا كما نسبها إلى نفسه،
ولا نحكم في شرحها بمعان لا يفهمها أهل ذلك اللسان الذين نزلت فيهم الألفاظ
فنكون من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ومن الذين يحرفونه من بعد ما
عقلوه وهم يعلمون بمخالفتهم، فيجب علينا أن نقر بالجهل بمعرفة كيفية النسبة) قال:
(وهذا هو اعتقاد السلف قاطبة لا نعلم لهم مخالفًا) ، وأطال في ذلك.
وقال أيضًا رحمه الله: (اعلم أن من أعجب الأمور عندنا كون الإنسان يقلد
فكره ونظره وهما محدثان مثله، وقوة من القوى التي جعلها الحق تعالى خديمة للعقل
وهو يعلم من ذلك كونها لا تتعدى مرتبتها في العجز عن أن يكون لها حكم قوة
أخرى كالقوة الحافظة والمصورة والمخيلة، ثم إنه مع معرفته بهذا القصور كله يقلد
قواه العاجزة في معرفة ربه، ولا يقلد ربه فيما يخبر به عن نفسه في كتابه وسنة نبيه
فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكل صاحب فكر أو تأويل فهو تحت
هذه الغلط بلا شك) .
(فانظر يا أخي ما أفقر العقل وما أعجزه حيث لا يعرف شيئًا مما ذكرناه إلا
بواسطة القوى المذكورة وفيها من العلل والقصور ما فيها، ثم إنه إذا حصل شيئًا من
هذه الأمور بهذه الطرق يتوقف في قبول ما أخبر الله به عن نفسه ويقول: إن
الفكر يرده فيقلد فكره ويزكيه ويجرح شرع ربه) ، وأطال مع ذلك ثم قال:
(وبالجملة فليس عند العقل شيء من حيث نفسه، وإذا كان كذلك؛ فقبوله ما صح عن
ربه وأخبر به عن نفسه أولى من قبوله من فكره بعد أن علم أن فكره مقلد لخياله
وخياله مقلد لحواسه) انتهى.
(بقية البحث)
ذكرتم أنه يفهم من كلام الأستاذ - رحمه الله - أنه بنى تلك الأصول على
وجه يمكن أنه من السنة ... إلخ، وكذلك ظاهر كلامه بادئ بدء إلا أنا بمعونة ما
قدمناه من أن قصده من مبحثه هو التنويه بالعقل في نظر الشرع يعلم أن مراده أن
الكتاب العزيز وصحيح السنة والعمل النبوي - كلها مما مهدت السبل بين يدي العقل
فكان العقل يقفوها أينما اتجهت، ويساوقها كيفما سارت، إلا أن ثمة أثرًا من السنة
يؤيد مذهب التأويل الذي يتبادر من سياق تقديم العقل، وللأستاذ في تآليفه أسلوب
غريب يباين المعهود فقد لا يراد من سبكه البليغ ما عهد إرادته من غيره.
هذا ما سنح لسقيم البال، في فهم كلام هذا الإمام المفضال، وما كنت أظن أن
أختلس من وقتي هذه الكلمات فلدي من العوائق عنها، ما لا يسمح لي بالدنو منها،
اللهم إلا أن بركة دعائكم، واغتنام بديع فوائدكم، مما يرجى معه شرح الصدر،
وتسهيل الأمر، وأرجو أن تدققوا فيما كتبت، وترشدوني إلى ما فيه سهوت؛ فإن
القصد الوقوف على الحق، وإعتاق الفكر من أغلال الرق، والحقيقة بنت البحث،
وأراني بانتظار جوابكم الميمون، وإرشاكم الحصون، نفعنا المولى ونور أذهاننا
بمعارفكم، إنه خير مجيب.
ما حملني على إطالة الجواب وتكبير البحث نوعًا ما إلا إبلاغه لمسامع
إخواني وصحبي ممن لم يتأهلوا بعد لمطالعة الكتب الكبيرة في هذا الموضوع،
وفيهم حرص على الوقوف على تحقيق ذلك، فأردت أن أقدمه بين يدي مستقبلهم
نموذجًا يشرفون منه على مجمل تلك المباحث الكبيرة، فلا ملام فيما تخلله من
النقول المعروفة لديكم.
زارني أثناء كتابتي هذه الأستاذ العلامة الشيخ طاهر الجزائري فقرأ كتابكم
وجانبًا كثيرًا مما كتبت، فاستحسن التوسع في هذا الموضوع، وقال: إنه يقل دونه
مجلد، وأكد عليَّ أن تدققوا فيما كتبنا وأن لا تضنوا علينا بما ظهر لكم من المناقشة
لتعم الفائدة وهو يسلم عليكم.
وإني أهدي أعظم التسليمات لحضرات السادة الآلوسيين الكرام شموس الهدى
الأعلام السيد محمود شكري أفندي والسيد علي أفندي وحضرة العلامة الشيخ عبد
الرزاق أفندي الأعظمي ومن يصحبهم من الأساتذة، ومن كمل التلامذة، بارك الله
في حياتهم، ونفع الأمة بعلومهم، ومن عندنا العلامة الشيخ عبد الرزاق أفندي
البيطار والشيخ محمد ديب الغنيمي وأشقائي يهدونكم السلام ويرجون دعواتكم
الصالحة في الأوقات الكالمة الراجحة.
قاله بفمه وأمر برقمه وكتب هنا بقلمه الفقير محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
في ٧جمادى الأولى سنة ١٣٢٤.
(جواب الجواب)
لم يمض على إرسال الجواب لذلك السؤال ردح من الزمن حتى أرسل إلينا
صاحب السؤال العالم البركة الصالح الشيخ عبد العزيز السناني المتقدم ذكره بجواب
كنا نود وايم الحق أن نستعيض عن تلك المدائح بالمناقشة والانتقاد، ولكن أبى الحق
إلا أن يظهر ويكون له التأثير القوي، والنفوذ الخارق في أمثال هاته المباحث
الخطيرة ولو كره المعاندون، ونحن نذكر نص الكتاب حفظًا لتلك الآثار خشية أن
تغتالها أيدي الضياع مع تصرف يسير، وحذف لجمل خصوصية لا تفيد فائدة عامة
وهاك صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب الأجل الأمجد العالم الفاضل أوحد زمانه، مفزع السائلين، مرشد
الناسكين، إمام المحدثين، الموفق لمنهج الراشدين، شيخنا وبركتنا الشيخ محمد
جمال الدين القاسمي سلمه الله تعالى من كل شر وجعلنا وإياه من أتباع سيد البشر
آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته ومرضاته.
وبعد، وصل إلينا كتابكم الشريف، المفيد بالجواب السداد الموجز المنيف،
المقيد لشوارد المسائل المهمة، والأنموذج لما حوته جل كتب الجهابذة المحققين أهل
النظر الكبار، فيا له من جواب ما أجله وأشرفه!! كيف لا وقد حل حزازة الصدر،
في الذود بما عقده الأستاذ الحكيم من أصول الدين، وانبلج به مأخذ الوجه المستقيم من
الكتاب والسنة وأفادنا فوائد، وعاد إلينا بعوائد كنا عنها في سدف، فاستضاءت لنا
وجوهها، فأتى بما فوق ما أملنا، فلا خاب أملنا، ولا أفلس مفزعنا، تالله لقد حط عنا
مؤنة النظر والتكلفات، وحذرنا صعب العقبات المتحريات (كذا) بالهلكات، وفتح
لنا أبواب سني الطرق وأقوم السبل، وجعل بالسعادتين، فيا فوز من أهل لجني تلك
الثمرات؛ فلزم أن نحفظه ونستحفظ عليه، ونجعله عدة لمراقي سني السير، ومردًّا
لطامح الفكر، وجامح الخطر، وكذلك من نظر في الجواب من أهل التحقيق طلب
منا صورة لسؤال الباعث للجواب رغبة لنسخهما، ولا غرو؛ إذ كان صدره من
ذوي السهم الراجح والمال الرابح، والدرجة العليا من أهل العلم الذين شرفهم الله
بشرف العلم، وكرمهم بوقار الحلم، فلله الحمد جل ثناؤه حيث كلف لدينه حفظاء من
خلقه، يحملون قواعد شرائعه، ويذبون عن عراه بغي من بغاه، ويدفعون عنه كيد
كل شيطان وضلالة، وجعلهم لأهل الدين أعلامًا، وللإسلام والهدى منارًا، ولأهل
الحق قادة، وللعباد أئمة وسادة يتحرون جزيل الثواب من الله، ويتوخون رضى الله
بالصواب.
ثم قال في وصف العلماء المصلحين، الذين يقومون بالإصلاح ويقاومون
به:
فلم يكن يثنيهم عن النصيحة لله ما منهم - يريد الجهلة - يلقون، بل كانوا
بعلمهم على جهلتهم يعودون، وبفضلهم على بغضهم يأخذون، ويجعلون لمن بعدهم
آثارًا على الأيام باقية، وسبلاً إلى الرشاد هادية، جزاهم الله على أمة نبيهم أفضل
جزاء، وحباهم من الثواب أجزل ثواب، (إلى أن قال) :
وهم الطائفة الموعودة بالبقاء لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وجعلهم مفزعًا
بما أودعهم الله من نور العلم، يكشف بهم سدف ظلم الجهل، والتباس الضلال،
فمن نعمه جل شأنه أن جعل من تلك الطائفة في زمننا من اتصف بتلك الصفات،
فنسأل الله أن لا يحرمنا فضلهم، والاقتباس من نور علمهم. (إلى أن كتب
ما يلي) :
هذه مسألة أهمتنا غاية، وحدثتني نفسي بمراجعة صاحب المنار ألتمس
إيضاحها، فقصرتم نجعتنا، وأرحبتم صاحبنا، وأزلتم سدفنا، جزاكم الله عنا وعنه
أفضل جزاء، وأجزل ثواب.
وجميع الإخوان المحبين أخذوا بنسخ السؤال والجواب المذكور، وذلك
لإعجابهم به جزاكم الله عن الجميع خيرًا.
... ... ... ... ... ... في: ٢٧جمادي الأولي سنة ١٣٢٧
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحب
... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز المحمد السناني