(س١٣-١٦) من صاحب الإمضاء في مالاغ (جاوه) نؤمل من فضلكم، متع الله الوجود بوجودكم، وأفاض من بحر علومكم وجودكم: أن تفيدونا عن حكم الله ورسوله في نكاح الرجل المسلم المرأة غير المسلمة، هل يجوز أم لا، إذا وعدته بإسلامها بعد عقد النكاح، كما هو جارٍ عندنا لاسيما من الصينيات؟ فهل يجوز له الهجوم على نكاحها وهي على دين قومها؛ أملاً في إسلامها بعدُ؟ وهل تستثنى من غير المسلمات الكتابيات، ومن هن الكتابيات؟ فهل الإفرنج اليوم على اختلاف مذاهبهم في النصرانية وعقائدهم وتبديلهم يعدون كتابيين؟ تفضلوا يا سيدي أفيدونا بحكم الله - تعالى - في هذه المسألة، فهي وإن كانت واضحة لديكم، فهي لدينا من المعضلات، فلا تهملوها وأخواتها لوضوحها لديكم ولعله سبق كلام فيها، فالمأمول الإعادة؛ لتعم الإفادة، فنحن في قلق حتى يفد إلينا جوابك الشريف؛ لأن السؤال من الوقائع الحالية عندنا اهـ. ونسألكم أيضًا أطال الله بقاءكم: عن إجماع الهيئة في هذا العصرعلى كروية الأرض ودورانها حول نفسها وغيرها. إني يا سيدي لم أكد أفهم التوفيق بين هذا الإجماع وبين قول الله - سبحانه وتعالى - في قصة ذي القرنين {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: ٨٦) ] وحَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [وأين يكون المطلع والمغرب إذا كان هناك للأرض كروية ودوران؟ وإذا قلنا: إن المطلع والمغرب هنا بحسب مرأى العين لنا، فما ينثلج الصدر بهذا؛ لأن المطلع إذا كان بنسبة مرأى العين لنا فهو بالنسبة لقوم آخرين هناك يسمى مغربًا، وكذلك المغرب، كيف هذا والأخبار للعموم من غير نسبة لقوم دون آخرين، وكروية الأرض أظنها تمنع أن يكون للشمس مطلع أو مغرب في محل الخصوص. تفضلوا بينوا لابنكم المخرج من هذا الإشكال؛ لأني يا سيدي لسوء فهمي وسقم قريحتي حاولت التوفيق بينهما بنفسي، ولم أظفر به، وكثيرًا ما حصل الخوض بين جماعة عندنا في هذه المسألة، وما استطاعوا الخروج من ربقة الإشكال، وكلهم أشاروا على الحقير برفع هذا السؤال لحضرتك، والمأمول أن تجبروا خاطرنا بالإفادة متع الله بكم آمين. ونسألكم لا زلتم سراجًا للمهتدين عن الحضور في معرض إدارة الصور المتحركة للتفرج عليها، هل هناك في الشرع الشريف ما يحظر علينا ذلك، تفضلوا بينوا لنا حكم الله - سبحانه - فإن عثرتم على ما يعذرنا بين يدي الباري (جل وعز) في حضورها، بينوه لنا، وما الأصل فيها التحريم أم الحل؟ بينوا الجميع لنا على صفحات مناركم. ونسألكم لا برحتم ملجأ لحل المعضلات في الخبر المبلغ بواسطة البرق، هل يعتبر به عندنا في الشرع كالصلاة على الغائب المبلغ خبره بواسطة البرق، وما يترتب على ذلك في الأمور الشرعية كالهلال في الصوم أو الإفطار، هل يجوز الأخذ بذلك؟ تفضلوا وضحوا لنا الجميع، ولكم من الله جزيل الأجر ودمتم. ... محمد بن هاشم بن طاهر أجوبة المنار زواج المسلم بغير المسلمة وهل الأوربيون نصارى ذهب بعض السلف إلى أنه يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة مطلقًا. لكن الجمهور من السلف والخلف على حِل الزواج بالكتابية، وحرمة الزواج بالمشركة، ويريدون من الكتابية اليهودية والنصرانية، وأحل بعضهم المجوسية أيضًا، وبالمشركة الوثنية مطلقًا، بل عدوا جميع الناس وثنيين ما عدا اليهود والنصارى، ومن الناس من قال: إنهم من المشركين. ولكن التحقيق أنهم لا يطلق عليهم لقب المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين أو الذين أشركوا صنفًا، وأهل الكتاب صنفًا آخر، يعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة كما هو مقرر. وكذا المجوس في قول، وسيأتي بيان ذلك. والذي كان يتبادر إلي الذهن من مفهوم لفظ المشركين في عصر التنزيل مشركو العرب؛ إذ لم يكن لهم كتاب، ولا شبهة كتاب بل كانوا أميين. والأصل في الخلاف في المسألة آيتان في القرآن، إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: ٢٢١) ، الآية الثانية في المائدة؛ وهي قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة: ٥) ، وقد زعم من حرم التزوج بالكتابيات: أن هذه الآية منسوخة بتلك، وردوه بأن سورة المائدة نزلت بعد سورة البقرة، وليس فيها منسوخ، فإن فرضنا أن أهل الكتاب يدخلون في عداد المشركين، يجب أن تكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة مستثنية أهل الكتاب من عمومها، وإلا فهي نص مستقل في جواز التزوج بنسائهم. وقد سكت القرآن عن النص الصريح في حكم التزوج بغير المشركات والكتابيات؛ من أهل الملل الذين لهم كتاب أو شبهة كتاب: كالمجوس والصابئين ومثلهم البوذيون والبراهمة وأتباع كونفوشيوس في الصين، وقد علمت أن علماءنا الذين حرص بعضهم على إدخال أهل الكتاب في عداد المشركين، لا يترددون في إدخال هؤلاء كلهم في عموم المشركين، وإن ورد في الكتاب والسنة ما هو صريح في التفرقة والمغايرة. فكما غاير القرآن بين المشركين وأهل الكتاب خاصة، في مثل قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: ١) وقوله {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} (آل عمران: ١٨٦) وذكر أهل الكتاب بقسميهم في معرض المغايرة في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: ٨٢) الآية، كذلك ذكر الصابئين والمجوس وعدهم صنفين غير أهل الكتاب والمشركين والمسلمين، فقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِين َوَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: ١٧) ، فهذا العطف في مقام تعداد أهل الملل، يقتضي أن يكون كل من الصابئين والمجوس طائفتين مستقلتين ليسوا من الصنف الذي يعبر عنه الكتاب بالمشركين وبالذين أشركوا. وذلك أن كلا من الصابئين والمجوس عندهم كتب يعتقدون أنها إلهية. ولكن بعد العهد وطول الزمان جعل أصلها مجهولاً، ولا يبعد أن يكون من جاؤوا بها من المرسلين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: ٢٤) ، وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: ٧) ، وإنما قويت فيهم الوثنية؛ لبعد العهد بأنبيائهم على القاعدة المفهومة من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) ومعلوم أن فسق الكثير من أهل الكتاب عن هداية كتبهم ودخول نزغات الوثنية والشرك عليهم، لم يسلبهم امتيازهم في كتاب الله على المشركين، وعدهم صنفًا آخر، كما أن فسق الكثيرين من المسلمين عن هداية القرآن ودخول نزغات الوثنية في عقائدهم لا يخرجهم من الصنف الذي يطلق عليه لفظ المسلمين ولفظ المسلمين ولفظ المؤمنين، وإن كانوا هم الذين يعنيهم الخطباء على المنابر بقولهم: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه) ، ويطبق العلماء عليهم حديث الصحيحين: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن) وبهذا يرد قول من حاولوا إدخال أهل الكتاب في المشركين وتحريم التزوج بنسائهم؛ مستدلين بقوله تعالى بعد ذكر اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله: (٣١٩ سبحانه وتعالى عما يشركون) ، فإن إطلاق اللقب على صنف من أصناف الناس، لا يقتضي مشاركة صنف آخر له فيه إن أسند إليه مثل فعله، كما بيناه في تفسير آية {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: ٢٢١) ، لاسيما إذا كان الفعل الذي أسند إلى الصنف الآخر ليس هو أخص صفاته، وليس عامًّا شاملاً لأفراده: كاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابًا، يتبعونهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم، فإن وصفهم الأخص اتباع الكتاب، وإن كثيرين منهم يخالفون رؤساءهم في التحليل والتحريم، ومنهم الموحدون كأصحاب آريوس عند النصارى وقد كثر في هذا الزمان فيهم الموحدون القائلون بنبوة المسيح؛ بسبب الحرية في أوربا وأمريكا، وكانوا قلة باضطهاد الكنيسة لهم. والظاهر أن القرآن ذكر من أهل الملل القديمة الصابئين والمجوس، ولم يذكر البراهمة والبوذيين وأتباع كنفوشيوس؛ لأن الصابئين والمجوس كانوا معروفين عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولاً؛ لمجاورتهم لهم في العراق والبحرين، ولم يكونوا يرحلون إلى الهند واليابان والصين فيعرفوا الآخرين، والمقصود من الآية حاصل بذكر من ذكر من الملل المعروفة، فلا حاجة إلى الإغراب بذكر من لا يعرفه المخاطبون في عصر التنزيل من أهل الملل الأخرى، ولا يخفى على المخاطبين بعد ذلك أن الله يفصل بين البراهمة والبوذيين وغيرهم أيضًا. ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب، ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء (رضي الله عنهم) لا يقبلونها من مشركي العرب، وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس، كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث. وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم، من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه. وروى مالك والشافعي عنه أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (سُنُّوا بهم سُنة أهل الكتاب) وفي سنده انقطاع، واستدل به صاحب المنتقى وغيره على أنهم لا يعدون أهل كتاب، وليس بقوي فإن إطلاق كلمة (أهل الكتاب) على طائفتين من الناس؛ لتحقق أصل كتبهما، وزيادة خصائصهما لا تقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلاً مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، كما أن إطلاق لقب (العلماء) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة، لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم. وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب، قال في نيل الأوطارعند قول صاحب المنتقى: واستدل بقوله (سنة أهل الكتاب) على أنهم ليسوا أهل كتاب. ما نصه: لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن عليٍّ: (كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه، فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم، وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه، وقتل من خالفه، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء، وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أبزى. لما هزم المسلمون أهل فارس، قال عمر: اجتمعوا (أي قال للصحابة اجتمعوا للمشاورة، كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة) ، فقال: إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية، ولا من عبدة الأوثان فنجري عليهم أحكامهم، فقال علي: بل هم أهل كتاب. فذكر نحوه لكن قال فوقع على ابنته، وقال في آخره فوضع الأخدود لمن خالفه، فهذه حجة من قال كان لهم كتاب. وأما قول ابن بطال: لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه، ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم. فالجواب أن الاستثناء وقع تبعًا للأثر الوارد؛ لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم، بخلاف النكاح فإنه يحتاط له، وقال ابن المنذر: ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقًا عليه ولكن الأكثر من أهل العلم عليه. إذا علمت هذا، تبين لك: أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين والذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا، ولم يدخلوا في ديننا، ولا جميع من عد اليهود والنصارى منهم، فهذا نقل صحيح في المجوس، ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالاً لجعل لفظ المشركات والمشركين والقرآن خاصًّا بوثني العرب، وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب يقربهم من الإسلام، كما أن أهل الكتاب فيه خاص باليهود والنصارى، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها. ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع؛ كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم، وقد صرح قتادة من مفسري السلف: بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية العرب كما سيأتي. وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: ٢٢١) نصًّا قاطعًا في تحريم نكاح الصينيات الذي أكثر منه المسلمون في الصين، وانتقل الاقتداء بهم إلي جاوه أو كاد، وقد كان ذلك من أسباب انتشار الإسلام في الصين. ولا أدري مبلغ أثره في ذلك عندكم، وبنفي كونه نصًّا قاطعًا في ذلك، لا يكون استحلاله كفرًا وخروجًا من الإسلام؛ وإلا لساغ لنا أن نحكم بكفر من لا يحصى من مسلمي الصين. هذا، وإن المشهور عند العلماء أن الأصل في النكاح الحرمة، وإن كان الأصل في سائر الأشياء الإباحة، وعلى هذا لا بد من النص في الحل، ويمكن أن يقال إذا لم تقل: بأن هذا يدخل في القاعدة العامة بأن الأصل الإباحة في كل شيء حتى يرد النص بحظره، فإننا نرد الأمر إلى الكتاب العزيز، فنسمعه يقول بعد النهي عن نكاح أزواج الآباء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: ٢٣-٢٤) الآية. فنقول على أصولهم: إن قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) لا يخلو أن يكون قد نزل بعدما جاء في البقرة من النهي عن نكاح المشركات، وفي سورة النور من تحريم نكاح المشركة والزانية أو قبله، فإن كان نزل بعده صح أن يكون ناسخًا له، وإن كان نزل قبله يكون تحريم نكاح المشركة والزانية مستثنى من عموم: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) بطريق التخصيص سواء سمي نسخًا أم لا، كما يستثنى منه ما ورد في الحديث من منع الجمع بين البنت وعمتها قياسًا على تحريم الجمع بين الأختين أو إلحاقًا به، وجعل ما يحرم من الرضاع كالذي يحرم من النسب على القول المشهور في الأصول بجواز تخصيص القرآن بالسنة، على أن الجمهور أحلوا التزوج بالزانية. وعلى كل حال، يكون نكاح الكتابيات ومن في حكمهن (كالمجوسيات عند من قال بذلك كما نقل الحافظ ابن المنذر) داخلاً في عموم نص: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) وأكد حل نكاح الكتابيات في سورة المائدة التي نزلت بعدما تقدم كله. وخلاصة ما تقدم أن نكاح الكتابيات جائز لا وجه لمنعه ونكاح المشركات محرم، وكون لفظ المشركات عامًّا لجميع الوثنيات أو خاصًّا بمشركات العرب محل اجتهاد وخلاف بين علماء السلف. قال ابن جرير في تفسير {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: ٢٢١) وقال آخرون: (بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء) وروى ذلك عن قتادة من عدة طرق، وعن سعيد بن جبير ولكن هذا قال: (مشركات أهل الأوثان) ، ولم يمنع ذلك ابن جرير من عده قائلاً: بأنها خاصة بمشركات العرب، ثم قال بعد ذكر سائر روايات الخلاف: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أنه تعالى ذكره عنى بقوله: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: ٢٢١) من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء. وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها ... إلخ، ما أطال به في بيان نكاح الكتابيات. هذا ما يظهر بالبحث في الدليل، ولكننا لم نطلع على قول صريح لأحد من العلماء في حل التزوج بما عدا الكتابيات؛ والمجوسيات من غير المسلمين، قد صرح بحل المجوسية الإمام أبو ثور صاحب الإمام الشافعي الذي تفقه به حتى صار مجتهدًا، وصرحوا بأن تفرده لا يعد وجهًا في مذهب الشافعي؛ فالشافعية لا يبيحون نكاح المجوسية فضلاً عن الوثنية الصينية. ولا يأتي في هذا المقام قول بعض أهل الأصول: إن النهي لا يقتضي البطلان في العقود والمعاملات وهو مذهب الحنفية، فإنهم استثنوا منه النكاح، وعللوا ذلك بأنه عقد موضوع للحل، فلما انفصل عنه ما وضع له بالنهي المقتضي للحرمة كان باطلاً بخلاف البيع؛ لأن وضعه للملك لا للحل، بدليل مشروعيته في موضع الحرمة كالأمة المجوسية؛ فلذلك كان النهي عن شيء منه غير مقتضٍ لبطلان العقد، فلا يقال عندهم: إن نكاح الصينية يقع صحيحًا وإن كان محرمًا. وأما البحث في المسألة من ناحية حكمة التشريع، فقد عنى تعالى في ذلك آية النهي عن التناسخ بين المؤمنين والمشركين في آية البقرة بقوله: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٢١) ، وقد وضحنا ذلك في تفسير الآية، وبينا الفرق بين المشركة والكتابية فيه فيراجع في الجزء الثاني من التفسير (من ص ٣٥٧-٣٦١) ، ومنه أن أهل الكتاب لكونهم أقرب إلى المؤمنين شرعت مودتهم؛ لأنهم بمعاشرتنا ومعرفة حقيقة الإسلام منا بالتخلق والعمل يظهر لهم أن ديننا هو عين دينهم مع مزيد بيان وإصلاح يقتضيه ترقي البشر، وإزالة بدع وأوهام دخلت عليهم من باب الدين، وما هي من الدين في شيء. وأما المشركون فلا صلة بين ديننا ودينهم قط. ولذلك دخل أهل الكتاب في الإسلام مختارين بعدما انتشر بينهم، وعرفوا حقيقته، ولو قبلت الجزية من مشركي العرب كما قبلت من أهل الكتاب، لما دخلوا في الإسلام كافة، ولما قامت لهذا الدين قائمة. ومن الفرق بينهما في القرب من الإسلام أو الدعوة إلي النار: أن أهل الكتاب لم يكونوا يعذبون من يقدرون عليه من المسلمين؛ ليرجع عن دينه، كما كان يفعل مشركو العرب. ثم إن للإسلام سياسة خاصة في العرب وبلادهم؛ وهي أن تكون جزيرة العرب حرم الإسلام وقلبه الذي تتدفق منه مادة الحياة إلى جميع الأطراف، وموئله الذي يرجع إليه عند تألب الأعداء عليه؛ ولذلك لم يقبل من مشركي جزيرة العرب الجزية، حتى لا يبقى فيها مشرك، بل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم: بأن لا يبقى فيها دينان، كما بينا ذلك في الفتوى الرابعة المنشورة في الجزء الثاني (ص ٩٧) من هذا المجلد، وتدل عليه الأحاديث الواردة في كون الإسلام يأرز في المستقبل إلى الحجاز، كما تأرز الحية إلى جحرها، وهذا يؤيد تفسير قتادة المشركين والمشركات في الآية. وإذ كان الازدواج بين المسلمين والمشركين ينافي هذه السياسة التي هي الأصل الأصيل في انتشار الإسلام، وكان تزوج المسلمين بالصينيات مدعاة لدخولهن في الإسلام، كما هو حاصل في بلاد الصين، فلا يكون تعليل الآية للحرمة صادقًا عليهن، وكيف يعطى الضد حكم الضد؟ ! وقد حذرنا في التفسير من التزوج بالكتابية إذا خُشي أن تجذب المرأةُ الرجلَ إلي دينها؛ لعلمها وجمالها وجهله وضعف أخلاقه، كما يحصل كثيرًا في هذا الزمان في تزوج بعض ضعفاء المسلمين ببعض الأوربيات أو غيرهن من الكتابيات، فيفتنون بهن وسد الذريعة واجب في الإسلام. *** كروية الأرض ومطلع الشمس مطلع الشمس المكان الذي تطلع منه، ومغربها المكان الذي تغرب فيه، وهو يختلف باختلاف المواقع لكروية الأرض، إذ لو كانت سطحًا هندسيًّا لما حصل هذا الاختلاف في المطالع والمغارب. ويعبر كل قوم عن مشرقهم ومغربهم بحسب ما يرون وإن خالفوا فيه غيرهم، فيقول بعضهم: إن الشمس تطلع من جبل كذا، وتغرب في البحر، وبعضهم غير ذلك. وإذا رحل أحدهم إلى أقصى ذلك المكان من جهة المشرق، يقول: قد وصلت إلى مطلع الشمس، وقد تتعارف أمم كثيرة تختلف مواقع بلادهم ومشارقها ومغاربها على تسمية قطعة من الأرض بالمشرق، وقطعة بالمغرب، مع أن ما يسمونه مشرقًا يكون مغربًا لقوم آخرين، وما يسمونه مغربًا يكون مشرقًا لقوم آخرين، كما سميت بلاد مراكش بالمغرب الأقصى، حتى إن أهل أمريكا يعبرون عنهم بذلك وإن كانت في جهة المشرق منهم، ومثل ذلك التعبير عن بلاد الدولة العلية مثلاً بالشرق الأدنى، وعن بلاد الصين بالشرق الأقصى. ويطلق الإفرنج لفظ الشرق على قارتي آسية وأفريقية، مع أن بعض بلاد أفريقية هي في جهة الغرب من بعض بلادهم. فإذا أريد بمطلع الشمس ومغربها في قصة ذي القرنين، ما كان يسمى في بلاده مطلعًا ومغربًا صح ذلك، وإذا فرضنا أنه كان لهم عرف في المطلع والمغرب كبعض العرف المشهور الآن صح ذلك. وإلا ظهر أن المراد بالمطلع والمغرب في قصته؛ أقصى المشرق وأقصى المغرب الذي تيسر الوصول إليه بأسباب السياحة والسفر التي كانت في عصره بالنسبة إلي بلاده، فكان في سياحته كالذين يحاولون الآن اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي. هذا وإن الإشكال الذي هو محل الوقفة عندكم، يرد على استعمال لفظ مطلع أو مشرق ومغرب مطلقًا، كما أشرتم إلى ذلك، فإذا كنتم لا تجيزون استعمال هذه الألفاظ إلا في حقيقة لا تختلف باختلاف البلاد، فقد خطأتم جميع البشر في عرفهم واصطلاحهم، والخطب سهل، والمراد ظاهر، ولا مشاحة في الاصطلاح. *** الصور المتحركة لا نرى وجهًا للسؤال عن حِل رؤية هذه الصور أو حرمتها، فالأصل الحل، إننا لم نسمع أحدًا من علماء المسلمين قال: إن النظر إلى الصور محرم، ولا وجه لجعل الحركة سببًا للحرمة، ويظهر لنا من هذا السؤال: أنكم لستم جاهلين لإباحة رؤية هذه الصور. ولكن عندكم أناسًا متنطعين، يحبون التحكم والإشراف على المسلمين بالأمر والنهي من سماء الدين، فيحلون ويحرمون بغير علم، وما جرأ أمثال هؤلاء في المسلمين على تحكمهم، حتى ضيقوا عليهم دائرة دينهم الواسعة إلا التقليد الأعمى، ويزعم هؤلاء المعممون المقلدون أن الاجتهاد هو الذي يضيِّع على العامة دينهم، ويكثر الذين يتحكمون في شريعتهم، والأمر بالعكس، فإن الذي لا يقبل منه القول إلا بالدليل، لا يستطيع أن يتحكم، ولا أن يعبث، كالذي يقول قوله بلا دليل بدعوى: أن طلب الدليل نزوع إلى الاجتهاد الممنوع. *** الأخبار البرقية هذه الأخبار التي تبلغ بالآلات الكهربائية التي يعبر عنها بما ذكر والتلغرافات هي قطعية الأداء، فكل من تثق بخبره إذا كلمك بلسانه، تثق بخبره الذي يبلغه بالبرق، لا يتردد في هذا أحد في العالم المستعمل فيه التلغراف، ومتى صدق الناس الخبر تبعه العمل بما يترتب عليه من الأحكام الشرعية، لاسيما إذا كان من جهة رسمية يطرد صدق برقياتها، وكيف تطيب نفس المسلم أن يفطر في نهار بلغه في ليله خبر برقي برؤية هلال رمضان، فصدقه تصديقًا تامًّا لا شبهة فيه ولا احتمال (وراجع المبحث في ٦٩٧ م٧) .