للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتب ابن تيمية وابن القيم
والشوكاني والسيد حسن صديق

(س٢) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى
الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي
الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله
الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم
هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما
فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال
بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب
غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم
الشكر.
(ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول
الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء
الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع
على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب
لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم
أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت
النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة
المخالف.
وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم
الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه.
وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد.
وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى
بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك.
ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع
كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف
أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى
مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم
الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم
التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني
صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من
علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا
وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع
أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح
في مسائل الخلاف.
وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في
مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل
عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة
مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها.
وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح
من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث
وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو
المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء
السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي
يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من
المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي.
(وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه
الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا،
ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه.
مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت
حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما،
فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على
سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء،
حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على
الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في
استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في
كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء
ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة
والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي
ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من
محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال
هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل
المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا
وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا
في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن
يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة
دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا
يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.