عقدت جريدة (النيوستيسمان) الإنجليزية المقال الآتي في مشروع المعاهدة العربية البريطانية فترجمته جريدة الأخبار، ورأينا أن ننقله لإطلاع قرائنا على أفكار الإنكليز في قومنا، وفي الملك حسين وأولاده لعلهم يعتبرون. وهذا نص الترجمة: ظاهر من الحوادث التي جرت في الأسابيع الأخيرة القليلة أن العلاقات بين بريطانيا العظمى والعالم العربي قد شارفت نقطة التحول، ومما له دلالة خاصة على اتجاه التيار إتمام (الثالوث الشريفي) بترقية الأمير عبد الله إلى ما هو على الأقل شبيه بالعرش. ذلك أن السر هربرت صمويل في آخر مايو زار الأمير في عاصمة عمان وأعلن أن بريطانيا العظمى تعترف بوجود حكومة مستقلة شرقي الأردن، ولا بد من موافقة عصبة الأمم قبل أن يصبح هذا الاعتراف تامًّا ولكن هذا إجراء رسمي لن تقوم في سبيله صعوبة ما، على أن إعلان السر هربرت صمويل مفرَّغ في قالب الحيطة. فقد اقتصر على الاعتراف بِعَدِّ الأردن كحكومة مستقلة واستخدم عبارة غامضة بعض الغموض لا تحتمل التحليل الدقيق، وإنما استدعى هذا الاحتياط ضرورات الحالة من جهة والانتداب لفلسطين من جهة أخرى، ذلك أن شرقي الأردن - الذي لا يتجاوز تعداد سكانه ٣٥٠.٠٠٠ ولا مساحته سبعة آلاف ميل مربع - لا يكاد يستطيع في الوقت الحاضر أن يقف على قدميه وحده، وهو لم يبلغ درجة يستطيع معها أن يستغني عن المستشارين البريطانيين أو المعونة البريطانية التي في السنة المالية ١٥٠.٠٠٠ جنيه إنجليزي. وأما الانتداب فيشمل فلسطين قاطبة وفي جملتها شرقي الأردن وغربه على السواء، وقد أعلن أن بعض نصوص الانتداب، وبخاصة ما يتعلق منها بالوطن القومي لليهود لا ينطبق على غبر [*] الأردن. والانتداب نافذ معمول به، وقد أبلغت بريطانية العظمى عصبة الأمم في سبتمبر الماضي أن حكومة غبر الأردن ستظل سائرة تحت إشرافها العام (إشراف بريطانية) وعلى هذا فليس ثَمَّ استقلال تام في الوقت الحاضر على الأقل. ولكن هذا الإعلان الذي صدر (بالاعتراف بالاستقلال) له مغزاه على كل حال، وهو يعني أن غبر الأردن مقدور له أن ينفصل عن فلسطين الغربية، وأن يصبح دولة عربية تنظر جنوبًا إلى الحجاز وشرقًا إلى العراق (؟) . ولكن هذه ليست إلا مرحلة واحدة في عملية كبرى، لقد لمح السر هربرت صمويل في خطابه تلميحًا جليًّا إلى أن المركز الجديد الممنوح للأمير عبد الله يجب أن يُفَسَّر في ضوء المعاهدة التي توشك أن تعقد بين بريطانية العظمى ووالده الملك حسين. وهذه المعاهدة هي آخر حلقة في سلسلة من المعاملات يرجع مبدؤها إلى ١٩١٥ فقد كان دخول الشريف في الحرب مسبوقًا بمكاتبات طويلة غير حاسمة بين مكة والقاهرة، وكانت آراء الشريف السياسية غامضة مضطربة، ولكن الذي كان يتطلع إليه دون أن يستوضحه هو إنشاء إمبراطورية عربية بمساعدة بريطانية أو على الأقل إقامة اتحاد عربي يدور على محور شريفي ولم يدخل الميدان إلا بعد أن ارتبطت بريطانيا العظمى بتعهدات مفرَّغة في لهجة بيانية أكثر منها سياسية ولكنها مشجعة كثيرًا ولا ريب. أوهام الملك حسين: ولما أرادت بريطانية العظمى أن تصفي هذه التعهدات سارت على خطين متوازيين فأنشأت من جهة كتلة من الدول الشريفية فاعترفت في ١٩١٦ بالشريف حسين ملكًا للحجاز. ولما آن الأوان وجد فيصل عرشًا في العراق، وقد تمت الآن الدائرة العائلية بإقامة عبد الله شرق الأردن. ولكنه من جهة أخرى لا يزال على بريطانية العظمى أن تختم الحساب مع الملك حسين. وقد هبطت بضاعة حسين هبوطًا شديدًا في ختام الحرب ولكنه كان بطيئًا في إحداث التلاؤم اللازم بين نفسه وبين مستوى السعر الجديد فظل عائشًا في عالم من الأوهام، سابحًا في بحر من الخيالات، وكانت المعونة التي تبذل له تبلغ مائتي ألف جنيه في الشهر في أثناء الحرب ولكنها في ١٩٢٠ أنقصت حتى وصلت إلى درجة الزوال، وظل رافضًا أن يتعاقد وذهبت بعثة الكولونل لورانس إلى جدة ١٩٢١ ثم عادت تاركة كل شيء حيث كان. وفي أوائل هذا العام بدأت الحركة من جديد ووصل إلي لندن عن طريق لوزان الدكتور ناجي الأصيل وهو آخر سلسلة طويلة من رسل الشريف ثم آب إلي مكة بعد بضعة أسابيع يحمل في حقيبته مشروع معاهدة. ولم يُرْضِ المشروعُ (الملك حسينَ) تمام الرضا ومالَ بحكم عادته إلى طلب المزيد. والملك حسين مشهور بأنه مُسَاوِمٌ شديدٌ، ولكنه قد يجد إذا تعنت أنه ضيع الفرصة، وأما إذا تغلبت المشورة التي يُمْلِيهَا الحزم فليس ثَمَّ ما يمنع أن تكون المعاهدة مجهزة بعد قليل للتوقيع، وقد صارت نقط المعاهدة الهمة ملكًا شائعًا للجمهور، نعم إن لندن لم تصدر بها بيانًا رسميًّا، ولكنه بسبب الضغط الذي أوجدته سلسلة من الحماقات في مكة والقاهرة [١] نشرت حكومة فلسطين خلاصة رسمية منذ بضعة أسابيع. وفي هذه المعاهدة تتعهد بريطانية العظمى بأن تؤيد وتعترف باستقلال العرب في العراق وغبر الأردن وشبه جزيرة العرب. وإذا أرادت الدول العربية أو واحدة منها (أن تدخل في اتحاد جمركي أو غيره بقصد تكوين اتحاد علي مر الأيام) فإن بريطانية العظمى تضع خدماتها تحت تصرفها. والغرض من باقي المعاهدة تنظيم العلاقات بين بريطانية العظمى ومملكة الحجاز نفسها. وهذا البرنامج المتواضع تواضعًا نسبيًّا دون المشروعات الضخمة التي غصت بها الأحلام في أيام سنة ١٩١٥ الهادئة! ولكن المعاهدة على هذا هي فاتحة مرحلة محدودة مهمة في تطورات السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. ومعلوم أن بلاد العرب الداخلية مِرْجَل يغلي، وليس لبريطانية العظمى رغبة ما في غمس يديها أكثر مما لا بد منه. ولكن لها (لبريطانية) على الحافة الخارجية للعالم العربي آمالاً في إنشاء طائفة من الدول المتمدينة تمدينًا نسبيًّا يمكن أن تتكون منها على الزمن نواة صالحة لاتحاد عربي، والواقع أن للمعاهدة دلالتين: فمعناها من جهة أن بريطانية العظمى ستربط نفسها بعلاقات وثيقة دائمة مع الشعوب العربية، ومعناها من جهة أخرى أن بيت الشريف هو المحور الذي تدور حوله هذه العلاقات. ثلاثة عروش قلقة: وقد قالوا في بعض الأحيان: إن بريطانية العظمى بمظاهرتها للشريف إنما تراهن على غير الجواد الرابح. والجواب عن ذلك أنه قد يكون في الإسطبل أو لا يكون خير من هذا الجواد، ولكن الميدان كان يخلو من الجياد. ولعل أبعث على الشك من ذلك أن يستطيع الشريفيون الجري إلى آخر الشوط. وليس بين هذه العروش الشريفية الثلاثة عرش واحد قوي الدعائم غير قلق. وأقل ما يقال في مركز الأمير عبد الله: إنه خطر. أما فيصل فمستورد كأخيه عبد الله! ويزيد في ضعف مركزه أن عليه أن يرد مقاومة الشيعة لملك سُنِّيٍّ. أما الحسين فإن ضراوته على السلب ضراوة صارت مثلاً مضروبًا في الشرق قاصيه ودانيه - لم تجمع حوله قلوب شعبه. وليس من الأسرار أن الأمراء الشريفيين أنفسهم ليس بينهم حب مفقود - أي إنهم لا يحب بعضهم بعضًا - وليست العواطف السامية التي يتبادلونها علنًا لسوء الحظ إلا حجابًا رقيقًا يشف عن التحاسد والاسترابة المتبادلة. وقد بقي أن نعلم إلى أي حد يستطيع حسين وأولاده أن يواجهوا خصومهم متحدين. وليس هؤلاء الخصوم بالذين يُسْتَطَاع إغفال أمرهم، ولا ينقص الحسين أن يتعلم فن تغريم الأجنبي، وقد بدأنا نسمع التذمر من الجهات التي يعنيها أمر الحج ولا سيما مصر. هذا وليس في قيام اتحاد عربي تكون مكة مركزه والشريف رأسه الظاهر ما يرتاح إليه العرب المسيحيون الذين لا يكتمون مخاوفهم الصحيحة. ولكن لبيت الشريف أعداء أقوى وأشد. ولقد استُهْدِفَ هذا البيت أكثر من مرة منذ قيام الحرب لخطر تيار الوهابية المتضخم، فهناك في قلب بلاد العرب ابن السعود ذلك الرجل القوي البأس جار الحسين ومُزَاحِمه الذي لا تلين قناته، نعم إنه الآن مقيد، ولكن من ذا الذي يسعه أن يضمن أن لا يصدع القيد متى ألفى نفسه محوطًا بطائفة من الدول الشريفية؟ وثَمَّ جهة أخرى لا ينتظر أحد أن تستقبل فيها المعاهدة بحماسة شديدة، وشرح ذلك أن الفرنسيين غير مطمئنين في سورية وليس من شأن المعاهدة أن تجعل مقامهم أسهل. ولا ينكر أحد أن لدمشق في الحركة القومية العربية دورًا لا يقل أهمية وخطرًا عن دوريْ بغداد ومكة. ولا يكاد يُعْقَل أن لا يكون لمنظر انتصار القومية العربية في الظاهر في منطقة النفوذ البريطاني - رد فعل مقلق فيما وراء الحدود السورية. وسيحتاج الموقف إلى الحذر في العلاج إذا أريد اجتناب التعارض مرة أخرى بين بريطانية العظمى وفرنسا في الشرق الأوسط. مدى المهمة وغايتها: هذه بعض المصاعب لا مَفَرَّ من مواجهتها، وليس في الكشف عنها زراية على الغايات التي يراد من المعاهدة أن تؤدي إليها. ومن الخطأ أن تُعَدُّ المعاهدة عبارة عن محاولة لتسكين هامة مكاتبات مكماهون، فإن لها سببًا معقولاً يدعو إلى عقدها. والحركة القوية العربية ليست في الوقت الحاضر إلا زورقًا ضعيفًا تطوح به الأمواج إلى غاية غير محققة. ولكنها على ذلك حقيقة. ومن مصلحة التسوية الوطيدة أن يهتدي هذا الزورق المتخبط إلى الميناء. وواضح جدًّا أن لبريطانية العظمى ربحًا من وراء إقامة كتلة عربية يمكن اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة قوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلاً إلينا بالود (ليتأمل القارئ) ولعل هناك من يطوون جوانحهم على آمال أوسع. ومَن لا يزالون متعلقين بخيال الخلافة العربية. ومهما يكن من الأمر فما يسع أحدًا إلا العطف على مجهود حسن لإتاحة الفرصة للشعب العربي أن يجدد شبابه وأن يحيي التقاليد المجيدة التي هو وارثها، ولكن المعاهدة ليست أكثر من صيغة من الألفاظ، ولا يمكن أن تكون أكثر من ذلك، وعلى العرب أن يخرجوا ما فيها إلى حيز الوجود، وسترى إلى أي مدًى يستطيعون ذلك، ولكن الحقائق القاسية التي تحيط بالموقف لا تشجع على التفاؤل المبالغ فيه. اهـ. *** (تعليق المنار على المقالة) : نذكر قُرَّاء هذه المقالة الحرة الصريحة بأن يرجعوا إلى التأمل في فَحْوَى المسائل الآتية منها، فقلما يجدون مقالة لبريطاني في مثل صراحتها: (١) إتمام ما سماه الكاتب الثالوث الشريفي بترقية الأمير عبد الله الذي هو الأقنوم الثالث منه إلى عرش أو ما هو شبيه بالعرش على الأقل. وهذا ما سبقنا إلى بيانه مرارًا فقلنا: إن هؤلاء إنما يعملون للدولة البريطانية ولأنفسهم ويتجرون بالأمة العربية فيبيعون بلادها للأجانب الطامعة بعروش وتيجان، ثم لا يخجل أجراؤهم في سورية من البهتان علينا بأننا نطعن فيهم لأنهم لم يعطونا وظيفة قاضي القضاة بمكة! ! وهم يعلمون أن طريق الوظائف عندهم التملق لهم ومساعدتهم على أعمالهم التي نَعُدُّ كل مساعد لهم عليها خائنًا لأمته. وهم يعلمون أيضًا أن الأمير عبد الله الذي استخدمهم قد صرح مرارًا بأنه لا يتبع أهواء طلاب الاستقلال لسورية، ولا سيما حزب الاستقلال العربي الذي يبغضه أشد البغض؛ لئلا يحرم من إمارته التي يرجو توسيعها كما حرم أخوه فيصل من عرش سورية. (٢) ما قاله الكاتب الإنجليزي في استقلال الأردن الصوري أو اللفظي الذي أعلنه السر هربرت صمويل اليهودي الصهيوني الإنكليزي تحت نير الانتداب، الذي صرح بأنه ليس باستقلال تام - والذي جعل عبد الله الحجازي مستخدميه فيه وزراء ووكلاء وزينهم بالألقاب الفخمة التي كانت تستعملها الدولة العثمانية أيام كانت مالكة لقلب الأرض من أوربة وآسية وأفريقية: صاحب الفخامة - صاحب السماحة - صاحب الدولة - صاحب السعادة. هذه الألقاب التي صارت تستحي منها الدولة التركية الجديدة التي أكرهت الدول العظمى على تقرير معاملتها معاملة الند للند... وناهيكم بإنعامه بلقب (باشا) التركي بغير حساب، وبأراضي البلاد على مَن شاء تمتعًا بأبهة المُلْك الكاذب في مملكة يقل عدد سكانها عن مدينة الإسكندرية ويقل دخل حكومتها عن دخل مُزَارع واحد في القطر المصري - هذا وأهل مصر من زعيمهم الأكبر سعد باشا زغلول إلى تلاميذ المدارس الابتدائية يقولون: إن استقلالنا مُزَيَّف أو حماية مقنعة! ! ! (٣) التصريح بأن آراء الشريف حسين المضطربة التي حملته على الارتباط بالدولة البريطانية يُفْهَمُ منها -على غموضها- أنه يطلب أن تؤسس له بريطانية إمبراطورية عربية أو دول اتحاد عربي يدور على محور شريفي. ونقول: إن هذا أقل مما في مقرَّرَات النهضة التي قدمها الشريف حسين للإنكليز ونشرها الشريف فيصل في جريدة المفيد بدمشق ففيها التصريح بالحماية الإنكليزية لهذه الأمة العربية القاصرة في حجر الدولة البريطانية. ولا نزال نبين لقومنا أن أساس حركة هؤلاء الشرفاء بيع البلاد العربية للإنكليز بعرش أو عروش ولا يزال مع هذا يوجد فيهم منافقون وأجراء وأغرار يقولون: إنهم زعماؤنا، الذين يسعون لاستقلالنا، وقد قال الكاتب الإنكليزي: إن دولته وفَّت للملك حسين بتعهداتها بإنشائها الثالوث الشريفي في مكة والعراق وشرق الأردن؛ لأجل الغرض الذي بيَّنَه في آخر مقاله. (٤) تصريح الكاتب بأن ما نشرته حكومة فلسطين من خلاصة المعاهدة رسمي، وهذا ما صرحت به جميع جرائد لندن، ولكن جريدة الملك حسين (القبلة) كذبت الخلاصة الرسمية؛ لأنها أظهرت كذب بلاغ الملك حسين لفلسطين ولا يزال يوجد في سورية وفلسطين من يصدق وُرَيْقَةِ القبلة الساقطة التي فضحت الحجاز والعرب بكذبها وجهلها. (٥) تصريحه بأن المعاهدة تشتمل على تعهد دولته بتأييد استقلال العرب في العراق وغبر الأردن وجزيرة العرب - أي دون فلسطين - خلافًا لأقوال الملك حسين الرسمية التي ظهر كذبها لكل أحد حتى اضطر هو إلى الإذعان له بعد عناد طويل؛ إذ أرسل مندوبًا بلغ أهل فلسطين أنه يساوم الآن على إقناع الدولة البريطانية بإنشاء حكومة وطنية لهم أي في ظل الانتداب الظليل، وحسبهم أن يرأسهم عبد الله بعد صمويل، الذي وعد الإنكليز بأن يخمد لهم أنفاس العرب في فلسطين، بما ينكل برؤسائهم المعروفين، على أنه لا يبعد أن يرجع عن وعد هذا المندوب، كما رجع عن ذلك البلاغ المكذوب. وأما أهل جزيرة العرب فإنهم لا يقبلون تعهد إنكلترا بتأييدهم، فإن ذلك نصٌّ في أن لها الحق في التدخل في شؤونهم وإدارة بلادهم، فإن قَبِلَهُ الملك حسين للحجاز فزوال ملكه من الحجاز أيسرُ من تنفيذه فيه وأقربُ، ولن يقبله سائر أمراء الجزيرة أصحاب القوة التي يتضاءل دونها ما عدا الغرور والكبرياء من حسين الذي سمى نفسه ملكًا لهم، وأباح لنفسه أن يعقد المُحَالَفَات على بلادهم بدون رأيهم، ولن يرضاه العالم الإسلامي الذي لكل فرد من أفراده حق مساواة الملك حسين في حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن مأجوري الحجاز المنتصرين له في سورية يتملقون له ولولده عبد الله بزعمهم أن له الحق أن يتصرف في شعائر الله ومشاعر دينه بما يشاء، وأن ينظر في حال الحجاج ويحاسبهم على ما في قلبهم فيأذن بالحج لمن شاء منهم ويمنع من شاء كما صرح به مستأجرهم الأمير عبد الله، وأجازوه على ذلك بالرغم من دينهم الذي يدعونه. (٦) وصفه المعاهدة الجديدة بأنها مرحلة محدودة مهمة في تطورات السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، فهو صريح في أنها تمهيد لمراحل أخرى في سياستهم ومطامعهم في بلادنا. ونحن قد فهمنا هذا فأنكرناه وبيَّنا فساده وضرره لما يوجبه علينا ديننا وحقوق أمتنا، فدافع أمراء الحجاز عن أنفسهم بشتمنا في وُرَيْقَتِهِم البذيئة التي سموها (القبلة) وأغروا بعض السفهاء بشتمنا أيضًا، ولكن لم نجد أحدًا منهم رَدَّ علينا ولا على الجرائد المصرية وغيرها بكلمة واحدة في الدفاع عن المعاهدة، ولا تزال الأيام تصدقنا وتكذبهم، وتؤيدنا وتفندهم. (٧) تفسيره لهذه السياسة البريطانية بآمالهم في إنشاء طائفة من الدول العربية ذات حضارة نسبية أي لا حقيقية، وبأن الرشوة التي يرضون بها الشريف وأولاده هي جعلهم إياهم محور هذه الدول وقطب رحاها، فليتأمل القراء فحوى تأليف الدولة البريطانية لهذه الدول وهل هو لحب العرب أم لحب نفسها وتمكينها من استعمارهم، وفحوى جعل مدنيتهم نسبية لا حقيقية، أليس معناه أن يكونوا عالة على الإنكليز طول حياتهم؟ أليس هذا عين ما حذرنا العرب منه وأقمنا النكير على الملك حسين لقبوله مبدئيًّا وجعل إعلانه عيدًا للأمة العربية؟ أليس من مصائب أمتنا أن يوجد عربي أو مسلم ينصر هذا الرجل ويدافع عنه؟! بلى، ولولا أن ثلاثة من أفضل فضلاء سورية كتبوا إليَّ يقترحون الكفَّ عن الإنكار عليه، وصرح واحد منهم بتحسين الظن به، والرجاء فيه وفي أولاده، لما اعتقدنا أنه يوجد رجل ذو قيمة مغرور به، فإنا لم نر في أسماء من ناضلوا دونه أحدًا من أهل الفضل المعروفين، بل كلهم من الجاهلين أو المجهولين والمنافقين المأجورين له أو للإنكليز! ولولا وريقة القبلة لما علمنا إلا بأقل ما كتبوا، فإننا نربأ بأنفسنا أن ننظر في شيء من تلك الصحف لما أمرنا الله تعالى به من الإعراض عن اللغو وعن الجاهلين. (٨) ليتأمل القُرَّاء جد التأمل كلامه في وصفه عروش الثالوث الشريف بالقلقة لضعف أقانيمه الثلاثة والشك في قدرتهم على تبليغ الدولة البريطانية مرادها من استخدامهم وتشبيهه اعتمادها على الملك حسين بالمقامَرة على الجواد الخاسر في السباق، واعتذاره عنها بأنها لم تجد في الميدان غيره، وإن كان يمكن أن يوجد في الإصطبل العربي جياد أخرى خير منه، فهو صريح في أنها لم تجد أحدًا من زعماء العرب يرضى أن يكون مطية لها، يبلغها ما تطمع فيه من بلادها!! فطوبى لكم يا أنصار حسين بهذا الزعيم الذي تقولون أنكم لا تجدون غيره! فقد تكلمتم بلسان بريطانية العظمى. (٩) كلامه في تحاسد الأمراء الشريفيين وتباغضهم وكونه معروفًا لم يبق سرًّا فيكتمه كرامة لهم، وإن ستروه بتبادل ألفاظ العواطف السامية بينهم، والقول: إن هذا هو الحق وإن جهله أو تجاهله بعض أصحاب الآمال فيهم، ولكن لا يجهله الإنكليز المحيطون بجميع أسرارهم بما لهم من الجواسيس لديهم، وجميع المعاشرين لعبد الله يعرفون شدة مقته لأخيه فيصل الذي انتزع منه عرش العراق بعد أن بايعه عليه المؤتمر العراقي بدمشق، ويتربص به الدوائر لاسترجاع العرش منه، ومما رواه لنا بعض المقيمين في عمان أن (ذا الإقبال الشيخ فؤاد الخطيب وكيل خارجية دولة الحجاز) مدح الأمير عبد الله بقصيدة أنشدها بين يديه في (المقر العالي) نسيب أفندي الخطيب مدير البريد في مملكته فلما بلغ قوله فيها: تنازل عن ملك العراق كرامة ... وأفضل من عرش العراق تنازله قال له الأمير: كذبت! إنني لم أتنازل، ومنعه من إتمام إنشاد القصيدة، بل لم يلبث أن عزله. وأما ما سماه الإنكليزي المجاملات بإظهار العواطف الكاذبة فمثالها ما رواه لنا هؤلاء عن زيارة الملك فيصل له من عهد قريب، وهو أن كلاًّ منهما كان يعبر عن الآخر بجلالة أخي، بل كان فيصل يزيد على ذلك قوله (سيدي) . (١٠) تأملوا أيها المسلمون حق التأمل وجد التأمل فيما يصرح به الإنكليز من غرضهم من عقد المعاهدة مع الملك حسين ومما يسميه ويسمونه الوحدة العربية، وأعني به قول الكاتب السياسي الإنكليزي: (وواضح جدًّا أن لبريطانية العظمى ربحًا من وراء إقامة كتلة عربية يمكن اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة قوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلاً إلينا بالود) . أليس هذا صريحًا في أنهم يريدون جعل العرب جندًا لهم يقاتلون به الترك والإيرانيين عند الحاجة؟ بلى، أللعرب مصلحة في قتال الترك والإيرانيين لتوطيد دعائم الاستعمار البريطاني؟ إنني لا أسأل هذا السؤال ذا الدين من المغرورين بالملك حسين وأولاده، بل الملاحدة الذين لم تُبْقِ العصبيةُ أدنَى أثر للرابطة الدينية - ولو سياسية - في قلوبهم أن يأتوني بمصلحة بَيِّنَة للعرب في تكوين الإنكليز لوحدتهم، وبنائها على عداوة الترك وجعلهم جندًا للدولة الإنكليزية يحاربون به هذا الشعب الحربي الباسل الذي ظلت أوربة تكيد له بالحرب وغير الحرب عدة أجيال ولم تستطع انتزاع سيادته من يده، فإن جئتموني أيها الملاحدة بهذه المصلحة وأثبتموها بالحجة، ولم يبق لي من أسباب مخالفتكم إلا حرصي على المودة الإسلامية فإنني أعذركم على اتباعكم لإغراء هؤلاء الحجازيين بذلك خدمة للإنكليز الذين صرحوا لنا بأنهم لم يجدوا في هذا الميدان من إصطبل العرب إلا الملك حسينًا مع الشك في أن يوجد في الإصطبل غيره. ومن الإنصاف حينئذ أن تعذروني في اتباعي لديني الذي يرشدني إلى التأليف بين المسلمين عَرَبهم وتُرْكهم وفُرْسهم، كما أعذركم في عصبيتكم الجاهلية. على أنني أعتقد عجزكم عن إثبات المصلحة أو نفي المفسدة في ذلك، وعن إثبات زعمكم تفضيلي لمصلحة الترك على مصلحة العرب، وهل تستطيعون أن تأتوني برجل من أمتنا ناضل الاتحاديين الذين هضموا حقوق العرب كما ناضلتُهم؟ أو برجل منكم أو من غيركم خطَّأ الغازي مصطفى كمال في خطبته التاريخية التي ألقاها في المجلس الوطني بأنقرة كما خطأته فيما قاله عن العرب والخلافة، وفي مسائل أخرى؟ أو برجل منكم أو من غيركم خطَّأَه وحكومته في مسألة الخلاقة الحاضرة، وأقام من الدلائل الشرعية والحكم الاجتماعية على وجوب حصر الخلافة في قريش ما أقمته على ذلك؟ أو برجل منكم أو من غيركم أقام ما أقمت من الأدلة على كون اللغة العربية هي لغة الإسلام ووجوب تعلُّمها على جميع المسلمين؟ نعم إنني مع هذا لم أهضم الترك حقًّا لهم، ولم أنحلهم ما ليس لهم، وإنني اقترحت عليهم التعاون مع العرب على إقامة الخلافة بالحق لأجل إعادة مجد الإسلام، مع استقلال كل من الشعبين.. وإنني أبذل جهدي في سبيل منع التعادي والشقاق بيننا وبينهم، وأرى الخطر علينا من ذلك أشد من الخطر عليهم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: ٢٤) {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) .