للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتهاد والتقليد

هذه هي النبذة
التي وعدنا بها في جزء سابق التي نقلناها من شرح الإحياء
إن رعاع الفقهاء وضعفة الطلبة يخيل إليهم أن النظر في مسائل الشرع قد
انسدت طرقه، وعميت مسائله [١] وأن الغاية القصوى عندهم أن يُسأل واحد منهم
عن مسألة فيقول: فيها وجهان أو قولان: وقال الشافعي في القديم كذا وفي الجديد
كذا، وقال أبو حنيفة كذا، ومالك كذا، ويرى أنه علم قد أبرزه. وتراهم أبدًا
يقدحون في المجتهدين، ويجادلون الطالبين، ويحثون على تحصيل الأم للشافعي،
ولباب المحاملي، أو غير ذلك من الكتب المبسوطة. حتى إذا وقعت واقعة كشف
الكتاب فإن رأى المسألة مسطورة حكم بها وإن رأى مسألة أخرى فزعم أنها تشابهها
حكم بحكم تلك المسألة فهم حشوية الفروع كما أن المشبهة حشوية الأصول،
والعجب أنهم لا يقنعون بقصورهم حتى يضيفوا القصور إلى من سبق من الأئمة
ويقول بعضهم: ما بقي بعد الشافعي مجتهد ويقول (آخر) : ما بقي بعد ابن شريح
مجتهد. فانظروا إلى قدح هؤلاء في الأئمة المبرزين، وأنهم كانوا يقدمون على ما
لا يعلمون، فإن الأئمة ما زالوا في جميع الأقطار يراجعون في الفتاوى، ويفتون
باجتهادهم مع اختلاف أصنافهم، كالمعروفين بنشر مذهب الشافعي كأبي إسحق
صاحب المهذب وأشياخه من أئمة العراق كلهم مبرزون مفتون، وكذلك أئمة
خراسان كإمام الحرمين وأشياخه وتلاميذه كأبي حامد الغزالي والكياء والخوافي
وكذلك أتباعهم كمحمد بن يحيى ومن كان في درجته من أصحاب الغزالي وكلهم قد
طبق فتاويهم وجه الأرض مع صريح من فقه الشافعي. ومن تأمل فتاويهم رأى ما
ذكرناه، وكذلك الأئمة المشهورون في مذهب مالك وأبي حنيفة لم يزالوا يفتون
ويجتهدون في جميع الأقطار والمناكرة في ذلك مكابرة (ثم قال) :
(واعلم أنه لا يجوز الكلام في أحكام الله تعالى بمحض الشهوة والرأي بل لا
بد من طريق نصبها الشارع وللشارع طريقان نصبهما: طريق في حق المجتهد،
وطريق في حق العامي المقلد، وطريق المجتهد النظر في الأدلة الشرعية
المنصوصة من قبل الشارع والتوصل بها إلى أحكام الله تعالى كما كان دأب
الصحابة والتابعين، وطريق العوام هو تقليد أرباب الاجتهاد كما كان في زمن
الصحابة والتابعين، وهذان متفقان على نصبهما) .
ثم أطال العبارة وذكر مسائل مهمة لا بد من معرفتها.
(الأولى) إذا نقلت لكم أقوال الشافعي في الواقعة الواحدة، تعملون بكل قول
أم بالبعض دون البعض؟ فإن قالوا: نعمل بكل قول سقطت مقالتهم، فإن الفعل
الواحد كيف يكون حلالاًُ حرامًا في وقت واحد من وجه واحد بالنسبة إلى شخص
واحد، فهذا مما لا يمكن أن يقال به فإن قالوا: نعمل بالمتأخر دون المتقدم فنقول:
ما بالكم تنقلون المتقدم، وتقولون في أكثر محاوراتكم: يصح على قول وبيع الغائب
صحيح على قول الشافعي، وتعتمدون عليه، وهذا لا يجوز أن يفعل على هذا
الوجه بل ينبغي إذا نقلتموه لمن سألكم أن تقولوا: هو قول مرجوع عنه لا يجوز
الاعتماد عليه وإنما ذكرناه لفقهه لا لحكمه. فيكونون ملتبسين بهذا الإطلاق مع أني
رأيت بعضهم إذا أنكر عليه أمر فعله اعتذر بأنه قول الشافعي.
(الثانية) العمل بالأرجح فالأرجح من الأقوال، فنقول: الترجيح طرف من
أطراف الاجتهاد فلا حظ لك فيه؛ لأنك اعترفت أنك من جملة العوام المقلدين،
وترجيح أحد القولين على الآخر إن كنت تنقله عن الشافعي أو من عندك ولا يمكنك
نقل الترجيح إلى الشافعي، ولعل الإمام تَرَجح عنده القول الآخر بترجيح آخر لم
تطلع عليه أنت، ولعله لا يدري ما ذكرته مرجحًا، فقد تعذر عليهم تقليد الشافعي
في مثل هذه المسائل ووجب عليهم الكف عن الحكم فيها، فإنهم ليسوا مجتهدين وقد
تعذر عليهم التقليد وكذلك الكلام في المسائل ذوات الوجوه المنقولة عن الأصحاب
وعند ذلك يجب عليهم الكف عن الكلام في معظم مسائل المذهب.
ثم إن قولهم: (ترجيح أحد القولين على الآخر على الإطلاق) ، خطأ فإن
الترجيح لا يتصور في المذاهب بوجه من الوجوه، فإن كون هذا حرامًا أو مباحًا
فما في التحريم نقصان ولا في الإباحة زيادة ولا يتصور الزيادة والنقصان في
الأحكام بوجه من الوجوه وإنما يكون الترجيح بزيادة في أحد الأمرين لم يوجد في
الثاني وهذا إنما يتصور في الأدلة بأن يختص أحدهما بزيادة تؤكد الظن الحاصل
فيه ولم توجد الآخرة، فإن أرادوا هذا المعنى فقد أصابوا في المراد وأخطئوا في
الإطلاق. وإذا آلَ الأمر إلى الترجيح في الأدلة فلا بد للمرجح من معرفة الدليل
وشروطه وأوصافه، وبعد هذا يتحقق عنده مقابل الأدلة، وإلا كيف يتصوّر ممن لا
يعرف الأدلة وشروطها أن يكون بحكم مقابلها ثم يخوض بعد ذلك في ترجيح بعضها
على بعض. وأنتم قد حكمتم على أنفسكم بالعجز عن استخراج الأدلة وإذا فُقد معرفة
الأدلة التي هي شرط معرفة الترجيح لزم ضرورة انتفاء الشرط وهي معرفة
الترجيح.
ثم إن المسألة إذا كان فيها قولان مختلفان يحرم على العامي العمل بها إذا لم
يعرف المتقدم من المتأخر وتصير في حقه كأن لم يكن للمنقول فيها عنه قول أصلاًُ،
وتعين عليه أن يراجع المنقول عنه إن أمكن أو تقليد غيره ممن يجوز الاعتماد
عليه، والمسائل التي قد نقل فيها قولان عن أبي حنيفة والشافعي كثيرة وربما يكون
معظم المذهب، وكان يجب عليكم الكف عن الكلام فيها ولو فعلتم ذلك لذهبت
شهامتكم، واختلت مناصبكم، ونُسبتم إلى قلة العلم.
فإن قيل: كيف يجوز لكم الفتوى فيما لم ينقل عن مقلدكم فيه حكم وأنتم لستم
بأهل الاجتهاد باعترافكم قالوا: نقيسها على مسألة مسطورة وربما تحدث فيحدث
ويقول: أصول الشافعي تقتضي كذا في هذه المسألة. فيقال لهم: أتردّون الحكم إلى
اجتهادكم أو إلى اجتهاد الشافعي؟ الأوّل لا تعترفون به، وأما الثاني فيقال عليه:
قد افتريتم على الشافعي فإنه لم يتكلم في هذه المسألة فكيف يحل لكم أن تنسبوا إليه
ما لم يقل؟ فإن قالوا: نعني بكونها منسوبة إليه أنها مقاسة على ما نص عليه.
فاعلم أن في هذا الإطلاق تدليسًا فإنه يفهم منه حكم الشافعي وقد علمتم أن سائلكم
إنما سأل عما ذكره الإمام الشافعي فيحق لكم أن لا تطلقوا النسبة إليه، وأيضًا قولكم
هذا إن كان عن اجتهاد فلا يمكنكم أو عن تقليد فلا يمكن أيضًا؛ لأنه انطوى بساط
الاجتهاد بالشافعي أو بابن سريج كما زعمتم فما بعدهما لا يجوز الاعتماد على
اجتهاده.
(ثم قال) : اعلم أن الاجتهاد جنس تندرج تحته أنواع متعددة فإن الاجتهاد
في المسائل القياسية غير الاجتهاد في المسائل التي مستندها ألفاظ الشارع، غير
الاجتهاد في المسائل التي مستندها أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكل نوع من
هذه الأنواع يمكن العلم به مع عدم العلم بغيره فيمكن أن يكون الواحد ماهرًا في
القياس وشروطه ومراتبه وموارده ولا يكون عالمًا بتفاصيل الأخبار ولا مطلعًا على
صحيحها وفاسدها والعكس، هذا بالنظر إلى جملة الأنواع وكل نوع مشتمل على
صور أيضًا فإن القياس يستعمل في مسائل متعددة في البيوع والنكاح والقصاص
فيمكن أن يكون الواحد منا مطلعًا على مسائل النكاح عالمًا بأقيستها معتنيًا فيها، ولا
يكون مطلعًا على مسائل البيع فليس الاجتهاد خطة واحدة لا تقدر أنواعه، ولا تتكثر
مسائله، فعند هذا يمكن أن يكون الواحد مجتهدًا في بعض المسائل مجيبًا على
البعض ولا يكون عالمًا بالبعض فليس من شرط المجتهد أن يكون مجيبًا عن كل ما
يُسأل عنه، ولذلك توقف كثير من الأئمة في الجواب عن بعض المسائل فلا يجوز
لأحد أن يفتي في مسألة من المسائل إلا إذا كان محيطًا بأدلتها وما لا فيمسك عن
الفُتيا فيها ولا يبقى بعد هذه الحالة إلا تحصيل الأدلة الجزئية في آحاد المسائل من
نصوص أو أقيسة، فإذا اطلع على دليل مسألة كان من أهل الفتيا في تلك المسألة
ولا يضر كونه غير مطلع على دليل المسألة الأخرى.
(ثم قال) : واعلم أن الاجتهاد عبارة عن بذل الجهد في طلب حكم من
الأحكام الشرعية مما هو عارف سلوك طرقها وله شروط وهي قسمان قسم في
المنظور فيه وقسم في الناظر، أما المنظور فيه فيشترط فيه أن لا يكون في محل
القطع، فإن محالَّ القطع لا مجال للاجتهاد فيها كأصل وجوب الصلاة والزكاة
والحج وغير ذلك مما يحكم فيه بأدلة قطعية لا يسوغ خلافها، وأما الناظر فيشترط
فيه أمران:
أحدهما: أن يكون عارفًا بقوانين الأدلة وشروطها وكيفية استخراجها،
والثاني: أن يكون متمكنًا من استخراج الدليل خاصة في المسألة التي يجتهد
فيها، ثم أطال الكلام في ذلك اهـ.