الرضاع من الجدة (س٢٢) من صاحب الإمضاء الجاوي بمصر: سيدي الأستاذ الأكبر السيد رضا زاده الله من مرضاته. أما بعد فإني ألقي إليَّ مسألتان من البلاد إحداهما مسألة علمه سبحانه بصفات كمالاته، فإنها قد شوهت أفكار الأغلب من أهل بلادي في سومترا إذا لم يوجد منهم للآن من يفصل القول المحكوم بالدليل أو السنة فيتبعونه، يقولون: هل يعلم الله أعداد بقية صفاته التي هي صفات الكمالات خلاف العشرين مثل كذا أو كذا من العدد أم لا؟ فإن أجبتم بنعم، فما المراد بقولهم إن صفات الكمالات من غير نهاية فإن المتبادر من معنى تلك الكلمة معلوم وظاهر. وإن أجبتم بلا، فما المراد أيضًا بقول الآية {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: ٢٨) ثم ألا يُعَدُّ عجزًا عليه سبحانه وتعالى لو فرضنا أنه لا يعلم تلك الأعداد. فها هي (ذي) المسألة الأولى. أما الثانية فهي مسألة الرَّضَاعة. ويقول فيها السائل: هل عثرتم من مفهوم الكتاب أو السنة من قول بعض العلماء على أن الطفل إذا رضع من جدته من جهة الأم يؤدي إلى وقوع الطلاق بين والدي الطفل فيقع الطلاق واحدًا إذا رضع الطفل مرة واثنتين إذا كان مرتين وثلاثًا إذا كان ثلاث مرات. فتانكم المسألتان احترت عليهما [١] إذ قلبت كثيرًا من كتب الفقه ومن كتب التوحيد لعلي أعثر من عبارة تحل عقد تينك المسألتين فلم أجد، وحقيقة إنهما لغريبتان بجانب فهمي القصير، ولذلك وجهت بهما إلى بحر علومكم راجيًا أن تحلوا وِثاقهما، وما ذلك على واسع علومكم بعظيم. ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم بستاري سراج الجاوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تحريرًا في٢١ شعبان ١٣٣٢ علم الله تعالى بصفاته الجواب عن المسألة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يعلم صفاته بلا شك، سواء كان مراد العلماء بقولهم: إن صفات الله لا نهاية لها ولا حصر - أنها كذلك بالنسبة إلى علم الخلق، أو في الواقع ونفس الأمر. ولا إشكال في ذلك فإن الله تعالى يعلم ما لا نهاية له من الحوادث أيضًا كالحوادث التي تكون في الجنة والنار وسائر العالم في المستقبل الذي لا نهاية له. ههنا يحسن التذكير بأمرين هما أهم من تينك المسألتين: أحدهما: أنه سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بصفات من الكمال معروفة، والألفاظ الدالة عليها هي أسماؤه الحسنى. وحكمته في ذلك أن نعرف بها كماله وعظمته وآثار فضله ورحمته فينا ونعمه علينا، لنزداد بذكرها إيمانًا وتزكيةً لأنفسنا وحبًا في الكمال وأفعال البر، لا لأجل أن نعدها عدًّا، ونبحث فيما زاد عنها، ثم نشغل أنفسنا بالفكر والكلام في إمكان إحصائها أو عدمه، وفي كيفية علمه بها، وإحاطته بعَدِّها، فإن أمثال هذه المباحث مما لم نُكلَّفه ولا نرى لنا فائدة فيه؛ بل ربما يضر البحث فيها ضعيف العلم أو الفهم ويحدث له شوكًّا في الدين. ولهذا قال العلماء في تفسير الإحصاء من حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مَن أحصاها دخل الجنة) [٢] : أي من أحصاها حفظًا لمعانيها وعلمًا بها وإيمانًا، أو من استخرجها من كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يزداد بها إيمانًا ومعرفةً بربه عز وجل ويدعوه بها، أو من أطاق العمل بما تهدي إليه من الكمال والبر، أو من أَخْطَرَها بباله وتفكر في معانيها عند ذكرها بتلاوة القرآن والأذكار المأثورة خاشعًا معتبرًا متدبرًا راغبًا راهبًا، هذا مجمل ما قالوه في معنى الإحصاء ولك أن تقول به كله. ولم يقل أحد يعتد بعمله وفهمه أن المراد عدها بالأرقام أو إحصاؤها على السِّبح، ولم يثبت برواية صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم عدّها لهم، واستشكلوا روايات عدها من جهة المتن، كما تكلموا فيها من جهة السند. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في الحديث وأنهم جمعوها من القرآن. وأجابوا عن ذلك بما لا حاجة إلى ذكره هنا، وقد ورد في بعض روايات الحديث الضعيفة: (وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة) رواه الديلمي من حديث علي كرم الله وجهه، وفي أخرى: (من دعا بها استجاب الله له) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. وليس فيهما ذكر الإحصاء. وعندنا فوق ذلك كله قول الله عز وجل في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف:١٨٠) وقوله في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء:١١٠) فهو تعالى يهدينا إلى أن ندعوه ونتضرع إليه بهذه الأسماء الحسنى لاشتمالها على أحسن المعاني الدالة على منتهى الكمال والفضل. الأمر الثاني: لا ينبغي لأحد أن يجعل ما لا يفهمه من كلام العلماء وما لا يتضح له أنه صواب - مُشكَلاً مِن مُشكَلاَت الدين؛ بل يحسن أن يعدّه كأن لم يُقَلْ، ولا سيّما أقوال المتكلمين واصطلاحاتهم التي استنبطتها قرائحهم لتأييد مذاهبهم والرد على مخالفيهم، فإن فيما قالوه الخطأ والصواب، وما إذا احتيج إليه للرد على خصم كان في زمنهم لا يحتاج إليه في زمن آخر. وكذلك ما صوروا به عقيدة الإسلام التي يدافعون عنها، لا ينبغي أن يجعل هو الإسلام الذي يلقنه المسلمون في كل عصر، ويجعلون حظهم من حماية الدين الدفاع عنه. مثال ذلك ما كتبه السنوسي رحمه الله تعالى من العقائد ولا سيّما العقيدة الصغرى التي انتشرت في المشرقين والمغربين، وحذا حذوه فيها معلمو المدارس الرسمية وغيرها حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين. وقاعدتها في الإلهيات أن الواجب على كل مكلف شرعًا أنه يؤمن بأن يجب لله تعالى عشرون صفة ويستحيل عليه أضدادها. واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل اللغة من معنى كلمة صفة ومن إطلاقهم الإيمان بصفات الله تعالى. فهو يعد الأمور الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث - أي عدم الاحتياج إلى المكان والمخصص - صفتان لله تعالى عنده، والقدرة وكونه تعالى قادرًا صفتان متغايرتان. ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو العمدة في تلقين عقيدة الإسلام، ونجعل ما عساه يخالفه ولو في عدد الصفات محلاًّ للإشكال. مسألة رضاع الطفل من جدته وأما الجواب عن المسألة الثانية فهو أننا لم نطلع في الكتاب ولا في السنة، ولا في كتب الأئمة على كلام يدل بمنطوقه أو مفهومه على أن الطفل إذا رضع من جدته لأمه رضعة تطلق أمه من أبيه طلقة واحدة وإذا رضع مرتين تطلق طلقتين، وإذا رضع ثلاثًا تطلّق ثلاثة. وإنما الطلاق كلام يقوله الرجل يدل على حله لعقدة الزوجية، والله أعلم.