للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الإيمان بملك الموت دون اسم عزرائيل
س٥١ من صاحب الإمضاء الإمام المرشد في جزيرة (سمبس برنيو - جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم محمد رشيد رضا صاحب المنار،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد قرأت في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع والعشرين الأسئلة
من أحاديث الصحيحين وأجوبة المنار عنها، منها السؤال عن حديث الذباب الذي
تكلم عليه الدكتور محمد توفيق صدقي كما نقله السائل وجواب المنار عنه، وبسببه
زعم أنه كافر - إذا كان مثل هذا الحديث كفر به من لم يأخذ به كالدكتور صدقي،
فماذا يقول الأستاذ الأكبر في قوله: ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ
المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١) لا يتعين عندنا أن نفهم منها ما يفهمون،
فعزرائيل لم يرد ذكر اسمه في القرآن ولا في سنة صحيحة، وإنما هو اسم مشهور
عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس، وله عندهم عدة صيغ أخرى ولذلك لا
نؤمن بوجوده اهـ نقلا من المنار من المجلد ١٨.
وإني أرى أن عدم إيمان الدكتور بوجود عزرائيل أشد تأثيرًا في سوء الظن
باعتقاده وإيمانه خصوصًا عند الناس الذين يقل عندهم علوم الدين من عدم أخذه
بحديث الذباب وعدم العمل به، وفي كتاب كلمة التوحيد للأستاذ العلامة الشيخ
حسين والي ما نصه: والذي يجب معرفته تفصيلا جبريل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل ورضوان ومالك ورقيب وعتيد فيكفر منكر أحدهم دون غيره، هكذا
قالوا اهـ.
وعليه فمن تمسك بهذا القول فلا يخاف أن يكفِّر محمد توفيق صدقي رحمه الله
تعالى لإنكاره وجود عزرائيل الذي اعتقده المسلمون، وإن كان في المسألة خلاف
يفهم من صيغة التبري التي أتى بها الأستاذ، أما أنا فإني أعتقد أن الدكتور محمد
توفيق صدقي رحمه الله تعالى من أخلص المسلمين إسلامًا، ومن أقوى المؤمنين
إيمانًا؛ لما رأيته من مقالاته الدينية (الإسلامية) التي نشرها في المنار وبعض
دروسه الصحية التي ألقاها رحمه الله تعالى في مدرسة دار الدعوة والإرشاد بمصر
وكنت يومئذ من تلامذتها، هذا والمرجو من فضل مولاي الأستاذ أن يبين لنا
وللناس أجمعين هذه المسألة بيانًا شافيًا كعادته الحسنة ودأبه الجميل، وأسأله تعالى
أن يثيبه الثواب الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان فيجب الإيمان
بهم إجمالاً، وبمن وردت النصوص بأسمائهم أو صفاتهم تفصيلاً، ومنهم ملك
الموت إذا كانت النصوص قطعية الرواية والدلالة، وأما تسمية ملك الموت
بعزرائيل وما أوهمه كلام بعضهم من وجوب الإيمان بهذا الاسم له فغير صحيح فإن
اسم عزرائيل لم يرد في القرآن كاسم جبريل وميكال وهو ميكائيل ومالك، ولا في
الأحاديث الصحيحة المرفوعة كاسم إسرافيل، وأنا الذي أخبرت الدكتور صدقي
بهذا إذ سألني عنه، وقد أشار إلى هذا صديقنا الأستاذ الشيخ حسين والي بقوله:
هكذا قالوا كما فهم السائل، ولا أذكر أنني رأيت اسم عزرائيل في شيء من دواوين
السنة ولا في تفسير غريبها إلا في أثر رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في كتاب
العظمة لا يُحْتَجُّ به ولا يثبت بمثله فرع في أحكام الطهارة والنجاسة، فهل تثبت به
عقيدة يكفر منكرها؟ وذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١) أنه جاء في بعض الآثار أن اسم ملك
الموت عزرائيل، فهل يعني هذا الأثر أو غيره؟ الله أعلم، والدكتور صدقي إنما
أنكر اسم عزرائيل ولم ينكر ملك الموت، ولكن كان له رأي شاذ في فهم بعض
أصناف الملائكة قد أنكرناه عليه عند ذكره في المقالة التي أشار إليها السائل،
وأرجو أن يكون قد رجع عنه كما رجع عن كثير من آرائه التي أنكرتها عليه
بالحجة والبرهان، ومن كفَّره بإنكاره صحة حديث الذباب للإشكال في معناه فهو
جاهل بأصول الإيمان، ويا ليت له مثل علمه وعمله بالإسلام، وهو لم ينفرد بهذا
فقد رد كثير من العلماء بعض ما صح سنده لما دون هذا الإشكال في متنه.
وجملة القول أنه لا يجب على مسلم أن يؤمن بأن ملك الموت يسمى عزرائيل
ولا إثم على مؤمن ينكر هذا الاسم بل الأصل في مثله أن يتوقف فيه إلى أن يثبت
بنقل صحيح عن المعصوم وهذا ما لم نقف عليه، ولا أن يؤمن بأن لله ملكين اسم
أحدهما رقيب واسم الآخر عتيد، وإنما ورد هذان اللفظان في سورة ق صفتين لا
اسمين، والخوف على دين من يوجب على الناس الإيمان بما لم يوجبه الله عليهم
بنص قطعي أقوى من الخوف على دين من أنكر ذلك؛ لأنه الموجب بدون علم قد
نصب نفسه منصب التشريع وافترى على الله، فكيف إذا كفر من ينكر ما لم يثبت
بدليل ظني؟ فما كل ما وجب الإيمان به يكفر منكره بل منه ما يعذر جاهله
والمتأول له.
***
أهم ما يجب على مسلمي الأعاجم من اللغة العربية
س (٥٢ و٥٣) ومنه أيضًا:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء أدام الله النفع بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالمرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية: قال الإمام أبو عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته في أصول الفقه ما نصه: فعلى كل
مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله تعالى ويتعلق بالذكر فيما
افترض عليه من التكبير وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من
العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا
له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ويتوجه لما
وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا اهـ ص٩.
١- فعلى قوله رحمه الله تعالى ما تقولون في الأعاجم الذين لا يعرفون شيئًا
من لسان العرب الذي هو لسان دينهم، والذي نزل به كتاب الله على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم حتى معنى كلمتي الشهادة لم يعرفوه، ولا تجد في كل بلد من
بلاد جاوة من يعرف اللغة العربية إلا قليلاً جدًّا، وإني لا أظن أنه يوجد في الألف
أو الألوف واحد يعرفها ولو معرفة قليلة، وإنهم يقرءون القرآن وغيره من الذكر
والدعاء بغير فهم، فهل أثموا بترك تعلمها أم لا؟
٢- إذا كان في ترجمة القرآن مفاسد ومضار تقتضي عدم جواز ترجمته كله
كما قررتم في المنار والتفسير، فهل يجوز ترجمة بعضه بمثل اللغة الملاوية أم لا؟
فإني رأيت بعض الآيات يمكن ترجمته بالملاوية وتؤدي معناه الأصلي، وأكثرها
يتعسر ترجمته بل تتعذر إلا بتكلف، فإن لغتنا لا تؤدي معنى القرآن حرفًا بحرف
كلمة بكلمة إلا في النَّزْر اليسير منه، ومع ذلك يستحيل أن تكون الترجمة مؤثرة في
القلوب تأثير الأصل، فإن أسلوب اللغة العربية ليس كأسلوب سائر اللغات فكيف
أسلوب القرآن العربي المبين الذي هو أعلى الكلام فصاحة وبلاغة، المنزل على
أفصح العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تجز ترجمة شيء منه
فكيف السبيل إلى إفهام الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية كلام الله تعالى كالفاتحة،
أو إقامة الحجة بآية أو آيات من القرآن على من لم يعرف اللغة العربية على
مسألة من المسائل الدينية أو غيرها؟ وهل يبين لهم تفسيره فقط أو يترجم هو
وتفسيره؟ هذا وتفضلوا بالجواب ولكم جزيل الشكر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) قد بيَّنا كل ما يتعلق بهذه المسألة في فتاوى المنار ثم فصَّلناه تفصيلاً
في التحقيق الذي نشرناه في الجزء التاسع من التفسير بما يغني عن إعادته هنا،
ولكننا نوجز فيما يتعلق بهذا الاستفتاء فنقول:
إن مسلمي الأعاجم يأثمون إلا لم يتعلموا من اللغة العربية ما لا بد منه لإقامة
دينهم ومن أهمه الفاتحة وأذكار الصلاة، والترجمة الحرفية لا تفي بفهم ذلك ولا
يتحقق بها ما فرضه الله تعالى من تدبر القرآن، بل لا بد من تفسير ذلك تفسيرًا
يعرف به المراد منه كتفسير ملخص معاني الفاتحة الذي بيَّناه في تفسيرها من جزء
التفسير الأول مبينين به ما يطلب من المصلي تدبره عند قراءتها (ص ١٠٣ج١)
وكذلك يفسر لمتعلم دينه منهم أذكار الصلاة كالتكبير والتسبيح والتشهد والصلاة
والدعاء بعده وبعض السور القصيرة التي تقرأ بعد الفاتحة والأدعية المأثورة بعد
الصلاة وهي مستحبة لا واجبة، ومن أراد الحج تُفَسَّر له ألفاظ التلبية بعد حفظها،
وغير ذلك كما نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وإننا نرى الذين يقتصرون في التفسير على المعاني الحرفية أو الاصطلاحية
من الأذكار والآيات من العارفين بالعربية ومن العلماء المؤلفين أيضًا يخطئون في
بيان ذلك حتى كثر الخطأ في تفسير كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وعنوانه
ومدخله وفي معنى لفظ التوحيد الشرعي أيضًا، فهذا الشيخ محسن العاملي الشيعي
يفسر التوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الإسلام بقوله: هو الاعتراف
بوجود الخالق وأنه واحد لا شريك له (كما ترى في كتابه الدر الثمين فيما يجب
معرفته على المسلمين) ، وهو تفسير قاصر ناقص لا ينفي جميع أنواع الشرك ولا
سيما عبادة غير الله تعالى بالدعاء لجلب النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب
العامة، وهو الشرك الأعظم الذي كان فاشيًا في أقوام الرسل من نوح إلى محمد
صلوات الله وسلامه عليهم فقد كان أولئك المشركون أو أكثرهم يعترفون بوجود
الخالق سبحانه وبأنه واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، ولكنهم كانوا يتقربون
إليه بدعاء غيره من الملائكة والصالحين، وبما يذكر بالموتى منهم من تماثيلهم
وقبورهم، وبغير ذلك مما هو منصوص في القرآن العظيم والآثار والتاريخ، وهذا
الرافضي وأمثاله يبيحون عبادة أئمة أهل البيت وغيرهم بالدعاء والتضرع وغيره
كما صرَّح به في كتابه كشف الارتياب، ولكنه لا يسمي ذلك عبادة، وقد فصَّلنا هذا
من قبل مرارًا فلا نعيده، ولا عجب في جهل مثل هذا الرافضي وأخطائه وهو مقلد
لقومه حتى في عقيدته فالإمام الرازي قد أخطأ؛ إذ ظن أن معنى الرب الخالق
والإله المعبود واحد كما بيَّناه في التفسير (ص١١١ج٩) فلا بد من تفسير
الشهادتين وغيرهما للأعاجم بما يبين المعنى أتم التبيين.
***
احتفال المولد بدعة وحكم حضوره والامتناع منه
س٥٤ من صاحب الإمضاء في (بتاوي - جاوه) .
إلى حضرة صاحب الفضيلة العلامة الإمام ومرجع العلماء الأعلام السيد محمد
رشيد رضا حفظه الله آمين.
سلامًا واحترامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه
على صفحات المنار المنير، ولكم الفضل علينا والثواب من الله، وهو:
هل يجوز للإنسان حضور حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم
يحضر هل يُعَدُّ كفرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد أي عند سماع قول: (مرحبًا
بالنبي إلخ) هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوه عندنا يعقدون كل سنة
حفلات كثيرة وفي أماكن متعددة، وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد
لها الرحال من أماكن بعيدة، ويلقنون الناس في أثناء الحفلات أن من لم يحضر
المولد ومن لم يقم عند سماعه (مرحبًا) إلخ فهو كافر، وإذا سأله سائل هل هذا
أمر من الله ورسوله؟ أجابوه بقولهم: أنت كافر، اسكت، لا تنازعنا في هذا؛ لأنا
أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم، أفتونا مأجورين وأبقاكم الله عونًا للحق.
وقد عرفناكم سابقًا في كتاب أرسلناه لكم ببعض أعمال العلويين، وما يشيعونه
ضدنا وضدكم وضد مناركم، ونحن نغار عليكم وعلى مناركم كما نغار على أنفسنا؛
لأن في جاوه حركة مباركة، ولا شك هي وليدة أفكاركم المتواترة في المنار،
نرجوكم أن تشدوا أزرنا كما هو رجاؤنا فيكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... ... عبد السميع بن منصور الجاوي
(ج) سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له
أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح
من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن جرَّد عمله
في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومن لا فلا.
وأقول: إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل فقد كان أحفظ حفاظ السنة
والآثار، ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط، فحسبنا من
فتواه ما تعلق بالنقل وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة
الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما
جاء به رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل فقد زعم أنه
صلى الله عليه وسلم لم يُؤَدِّ رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد
أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله:
وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة
حسنة، ومن لا فلا، ففيه نظر ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته والصدقات،
وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص
بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص، وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا
تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب
المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه
تُعَدُّ من شرع ما لم يأذن به الله، ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم،
فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه كأنه من قواعد العقائد المعلومة من
الدين بالضرورة؟ أليس يُعَدُّ في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع
التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه فإن الزيادة في ضروريات الدين
القطعية وشعائره كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين
عن الله تعالى القائل فيه {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) فهو تشريع
ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان
دينهم ناقصًا أو كفارًا، وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس (رضي الله عنهم)
قد تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة كما ذكره الإمام
الشاطبي في الاعتصام (ص٢٧٦ج٢) وغيره أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه
الحفلات المولدية، وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن؛ لئلا يظن العوام
أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها أو يكفر كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين
المذكورين في السؤال. فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب
على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في
أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات؟
وأما القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم وإنشاد بعض الشعر أو
الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع وقد صرَّح بذلك الفقيه ابن حجر المكي
الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم، فقال عند ذكر الإنكار على
من يقوم عند قراءة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: ١) لما ورد في ذلك
بسبب قد زال ما نصه: ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم
ووضع أمه له من القيام، وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء على أن العوام إنما
يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص.
اهـ من الفتاوى الحديثية ص٦٠.
وإنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعة حسنة بشرط
خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها إذا كان القائمون بها لا يعدونها من
القرب الثابتة في الشرع بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يُعَدُّ مرتكبًا للكراهة الشرعية،
فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة، ويقال: إن منها حسنة وسيئة هي البدع
في العادات، وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة كما صرَّح به المحققون،
وذكر ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي في موضوعين من الفتاوى الحديثية، وقد
سبق تحقيق هذا البحث في مقدمة كتابنا (ذكرى المولد النبوي) فلا نطيل فيه هنا
فمن شاء التفصيل فليراجعه، ومن عنده المجلد الثامن عشر من المنار يجد هذه
المقدمة فيه صلى الله عليه وسلم.
وأما ادعاء هؤلاء العلويين الجاهلين بأنه يجب الأخذ بقولهم هذا كفر وهذا
إيمان، ومن فعل كذا فقد كفر، وتعليلهم ذلك بأنهم أحفاد الرسول صلى الله عليه
وسلم فهو أقبح الجهل بحقيقة هذا الدين، وصاحبه أدنى إلى الكفر من تارك حضور
بدعة المولد، لأنه ادعاء لحق التشريع في العقائد والعبادات لكل من هو علوي
فاطمي، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين حتى غلاة الشيعة الذين يقولون بعصمة
بعض أئمة آل البيت لا كلهم فكيف بجهلة عوامهم فإنهم إنما يقولون بعصمتهم من
الكذب في نقل نصوص الدين ومن المعاصي إلخ، ولكن لم نر لأحد منهم دعوى
مثل هذا للأئمة فضلاً عن هؤلاء العوام الجاهلين بضروريات الدين، ولو جعل لكل
فاطمي أو لبعضهم هذا الحق في التشريع لزال هذا الدين من الوجود إن وجد من
يقبله ويدين به.
وقد نشرنا رسالة أخينا السائل التي أشار إليها في الجزء الماضي مع التعليق
عليها بما نرى أنه نصيحة لإخواننا العلويين المضطربين الذين يظنون أنهم
يحافظون على ما بقي لهم من الجاه عند عوام المسلمين ويستردون ما فقدوا منه
بالغلو في آبائهم وأجدادهم ونشر الخرافات والبدع التي ابتدعها غلاة الروافض
وغيرهم، وهو مخطئون في هذا الظن وآثمون، ولو عرفوا حقيقة حال زمانهم
لأيقنوا بأنهم يهدمون بهذا الغلو والابتداع ما بقي لهم من ذلك، ومن عقلائهم وأهل
الخير فيهم من يعلم هذا علم اليقين فعسى أن يكثروا ويكون لهم الرأي الراجح في
هداية الغلاة المغرورين.
وأما صاحب المنار فلا يبالي ما ينشرون من الطعن فيه والافتراء عليه؛ لأنه
يعمل عمله ويبذل نصحه للمسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى فسواء عنده أمدحوا أم
ذموا، ولو كان عمله للمال أو الجاه لداراهم أو لسكت عنهم ابتغاء كثرة الكسب أو
زيادة الجاه عند من يقبل كلامهم من الجاهلين، وكذلك يجب أن يكون رجال جمعية
الإرشاد.
وقد ظهرت في هذه الآونة دعاية جديدة للرفض وهدم السنة من بعض علماء
الشيعة في سورية وكل واحد من دعاتها ينوه بما اشتهر من غلو بعض علوية
الحضارمة في علي عليه السلام والرضوان، ولكن هؤلاء العلويين على نزعة
الرفض عندهم لا يزال يتلقون دينهم من كتب الشافعية، وسيُقْضَى على غلاة
الرفض في سورية قبل أن يقدروا على تحويل علويي حضرموت وجاوه إلى بدعهم،
فطبع هذا العصر لا يهضم الغلو في عباد الله المكرمين، ولا الخرافات والدَّجَل
لصدورها عن العلويين، بل كان هذا الغلو هو سبب وجود النواصب بمقتضى سنة
الله في الخلق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
***
أسئلة من الزبداني - بقرب دمشق - سورية (تأخرت)
س (٥٥ - ٥٧) من صاحب الإمضاء:
بسم الله وحده والحمد لله وحده
سيدي الهمام العالم العلامة المقدام الأستاذ الإمام السيد أبو محمد شفيع محمد
رشيد رضا المفخم زِيدَ علاه.
السلام عليكم ورحمته ورضوانه وبركاته.
(١) نعرض لجنابكم أنه هبط لديارنا من العراق شيخ من أهل الفضل بعلوم
الدين الحنيف فقام يدرس بالجوامع وفي الاجتماعات ويحض الناس على التمسك
بتعاليم الدين الشريف ومن جملة ما نصحنا قوله لنا: (لا يجوز صلاة السنة لما
فاته صلاة الفرض، بل الأجمل ترك صلاة السنة في كل وقت من أوقات الصلوات
الخمسة، والقيام بصلاة الفرض أو الفروض الفائتة بالترتيب إلى أن تعلم علم اليقين
أنك قضيت ما عليك من الفروض) فاشتد الخلاف بين الناس فمنهم من أطاعه
وترك السنة، ومنهم من تمسك وعليه جئنا نستفتي من بحر علمكم؛ لنعمل بما
تشيرون علينا به، أدامكم الله للمتقين إمامًا مولاي.
٢- سيدي معلوم لجنابكم أن كل من يقرأ القرآن الكريم بإيمان وبإمعان
وبصيرة يجد في نفسه تأثيرًا عميقًا حتى إنه ليبكي على حال أبناء آدم، والأخص
منهم صاحب هذا الكتاب، ومن جملة هذه الآيات المؤثرة قوله تعالى في سورة
السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (السجدة: ١٥) وأمثال هذه الآية الشريفة كثير في كتاب الله
العزيز، فهل يلزم السجود عند قراءة أمثال هذه الآيات البينات أو حين التذكر في
آياته تعالى ... إلخ؟ وهل السجود يم الكعبة الشريفة؟ وإذا كنا في تلاوة القرآن
الكريم وقرأنا آية مثل ما قدمنا أيلزم ترك المصحف الشريف ونسجد لله تعالى؟
أفتونا مأجورين من رب العالمين، سيدي.
٣ - {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: ١٨٥) ... سيدي ما معنى
مشاهد الشهر؟ فإن كان بالبصر نشاهد أهلة رمضان ... فهذا مما يدعنا نتساءل
لعله يصير يسكن القطب الذي ليله نصف سنة ونهاره مثله تنعدم رؤية الشهر بعين
رأسنا ... وإذا كان معنى شهد بعين العقل وعين البصيرة فهل يجوز نشهد بدون أن
تنظر أبصارنا؟ نرجو الإجابة على ما تقدم والله ربنا يحفظكم ولا يحرمنا علمكم
العظيم.
... ... ... ... ... ... ... محبكم بالغيب المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد الباقوني
أجوبة هذه الأسئلة
ترك النفل لمن فاتته صلاة مكتوبة حتى يقضيها
ما ذكره لكم الشيخ العراقي من تقدم قضاء الصلاة المفروضة لمن فاتته على
صلاة السنن الرواتب وغيرها إلى أن يتم قضاؤها صواب.
***
سجود التلاوة
ثبت في بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسجد عند تلاوة بعض الآيات التي ذكر فيها السجود بصيغة الأمر أو الخبر
الدال على الترغيب فيه، وقد اتفق جمهور علماء السلف وأئمة الأمصار على ثلاث
عشرة آية منها:
(١) أولها آخر سورة الأعراف.
(٢) الآية ١٥ من سورة الرعد.
(٣) الآية ٤٩ من سورة النحل ولكن ورد السجود عند قراءة الآية ٥٠ التي
بعدها وآخرها {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: ٥٠) .
(٤) الآيات ١٠٧ إلى ١٠٩ من سورة الإسراء التي تسمى سورة بني
إسرائيل أيضًا، والسجود عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء:
١٠٩) .
(٥) الآية ٥٨ من سورة مريم.
(٦) الآية ١٨ من سورة الحج.
(٧) الآية ٦٠ من سورة الفرقان.
(٨) الآية ٢٥ من سورة النمل والسجود عقب تلاوة الآية ٢٦ التي بعدها.
(٩) الآية ١٥من سورة (الم السجدة) وهي التي ذكرها السائل.
(١٠) الآية ٣٧ من سورة فصلت (وتسمى حم السجدة) أيضًا، والسجود
عقب تلاوة الآية ٣٨ التي بعدها وآخرها {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} (فصلت: ٣٨) .
(١١) آخر سورة النجم.
(١٢) الآية ٢١ من سورة الانشقاق، وقال بعض العلماء: إن السجود عند
آخر السورة.
(١٣) آخر سورة العلق، فيُسَنُّ السجود عقب تلاوة الآيات في الصلاة
وغيرها.
واختلفوا في السجدة الثانية من سورة الحج عقب تلاوة الآية ٧٧ فأثبتها
الشافعي وأحمد والجمهور ونفاها أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي: إنها سجدة شكر
لا سجدة تلاوة لورود الحديث بذلك، ولا يشرع السجود عند تلاوة شيء من القرآن
غير هذه الآيات الخمس عشرة.
وسجود التلاوة عند قراء هذه الآيات أو سماعها مندوب عند الجمهور وواجب
عند أبي حنيفة، ويدل على الندب ترك النبي صلى الله عليه وسلم له في بعض
الأوقات لبيان الجواز. وشروطه شروط الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة وإذا لم
يسجد القارئ لآية السجدة لا يسجد السامع، كما أن المصلي في الجماعة لا يسجد
إلا مع إمامه، وأما إذا سجد المنفرد فيُسَنُّ له السجود، وسجود مستمع القرآن عن
قصد آكد من سجود من سمعه بغير قصد كما نص عليه الشافعي.
***
صيام شهر رمضان على من شهده
شهود الشهر حضوره والبلاد التي ليس فيها شهور كالقطبين وما يقرب منها لا
يجب عليهم شهر رمضان بعينه لعدم وجوده عندهم، وإنما يجب عليهم صيام مثله
بالتقدير، وكذلك يقدرون للصلوات الخمس، وقد بيَّن ذلك الفقهاء، وذكرناه في
تفسير هذه الآية {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: ١٨٥) فراجع
تفسيرها في ١٧٣ و ١٧٤ من جزء التفسير الثاني.