كتاب (في الشعر الجاهلي) ظهر بمصر في أواخر السنة الماضية كتاب بهذا الاسم من وضع الدكتور طه حسين مدرس الآداب في (الجامعة المصرية) وأحد أركان جمعية دعاية الإلحاد بمصر، بنى بحثه فيه على منهج البحث في الآداب وغيرها، غريب هو أن يبنى على الشك في كل ما روي عن المتقدمين، أو تكذيبه، وإن أجمعوا عليه وعلى التجرد من الدين والجنسية والوطنية وجميع الروابط القومية والملية، وهو بناء على هذه القاعدة يطعن فيما ثبت بنص القرآن المجيد وفي جميع ما صح عند علماء الملة الإسلامية من الروايات الدينية والتاريخية والأدبية دع ما ليس له أسانيد تصل إلى درجة الصحة كتواريخ سائر الأمم ومروياتها حتى إنه تجرأ على التصريح بتكذيب القرآن المجيد فيما أثبته من بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام بمكة المكرمة، وشكك في آيات أخرى وفي أحاديث وروايات كثيرة من صدقه فيها من تلاميذ الجامعة أو غيرها من الدهماء ينبذ الدين وراء ظهره ويمشي عاريًا مجردًا من الوازع النفسي الذي ينهى عن الفواحش والمنكرات؛ فيستحل جميع ما قدر عليه من أموال الناس وأعراضهم إذا عنت له وأمن العقاب عليها في الدنيا وحينئذ يكون كالدكتور طه حسين في فلسفة وأحكامه التي كان منها عد أفسق الفساق في التاريخ كأبي نواس، من كبار المصلحين ونشر أخبار فسقه في صحيفة السياسة وفيه ما فيه من ترغيب الناس فيها. إن قاعدة الدكتور طه حسين التي جرى عليها في كتابة هذا، وفي غيره هي أن الفلسفة العليا التي يتوقف عليها وصول الإنسان إلى العلم الصحيح في الآداب والتاريخ وغير ذلك هي أن يكذب الله ورسله وأفضل البشر بعد الرسل كالخلفاء الراشدين وأئمة العلم والدين أو يشكك في أقوالهم على الأقل، ويأخذ بالقبول والتسليم ما فيه طعن في الإسلام وفي سلفه الصالح وكبار أئمته، وإن لم يقله إلا بعض فساق المسلمين ومن لا ثقة بصدقه منهم ومن غيرهم، ثم ماذا؟ ثم يستبدل بها نظريات بل ضلالات اخترعتها مخيلات ملاحدة الإفرنج وكذا دعاة النصرانية الذين تعلموا وربوا على الطعن في الإسلام، وجعل مدار معيشتهم من جمعياتهم الدينية على تشكيك المسلمين بدينهم إن لم يقدروا على تحويلهم عنه وجعلهم أعداء له، ويزين ذلك بخلابة اللفظ وشقشقة اللسان والقلم، وسفسطة الجدل ولماذا؟ لأجل أن تنحل روابطهم الملية وتزول عقيدتهم الدينية وتفسد ملكاتهم الأدبية فيقبلوا بارتياح أن يكونوا تابعين لدول الاستعمار الأجنبية فإن لم تكن هذه اللام لام العلة والغاية، فلابد أن تكون لام الصيرورة والعاقبة. إن موضوعات هذا الكتاب هي من دروس للدكتور طه الأدبية التي يلقيها على تلاميذ الجامعة المصرية؛ لأجل أن ينسلخوا من الإسلام الذي صار قديمًا رثًّا باليًا في نظره، ويصيروا أمة جديدة لا يدينون بدين ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يأبون الخنوع لكل حاكم وإن كان أجنبيًّا. وكذلك فعل صديقه وأحد أركان جمعيته الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) فأرضيا بذلك دول الاستعمار ودعاة النصرانية فأثنيا على هذا أجل الثناء كما أثنيا على ذاك وكانا عندهم محل الرجاء. ظهر هذا الكتاب وأنا في مكة المكرمة فرأيت في الجرائد خبره وقيام رجال العلم والدين بالرد عليه والطعن فيه ومطالبة الحكومة بمصادرته ومنع قراءته ورأيت فيه أن الحكومة (عاقبته) بشراء نسخ جميع الكتاب منه دفعة واحدة بدلاً من أن يبيعها هو في عدة سنين وحفظها لدى وزارة المعارف ولا ندري لماذا؟ ولما رجعت إلى مصر لم يتح لي الحصول على نسخة منه وإنما اطلعت أمس علي نسخة منه استعرتها ساعة واحدة أو أقل من ساعة فتصفحت فيها أهم صحائفه ورأيت قبل هذا في الجرائد اضطربًا في مجلس النواب؛ إذ طلب بعض أعضائه عقاب هذا المعتدي على دين الحكومة الرسمي وهو من عمالها، وإخراجه من المدرسة الجامعة حرصًا على عقائد طلبتها وآدابهم وكاد هذا الاضطراب يؤول إلى استقالة الوزارة العدليه؛ لأن صاحب الدولة رئيسها ووزير الداخلية فيها رأى أنه لا حق لمجلس النواب في مطالبتها بما طالبها فطفق يرد على بعض النواب، وانبرى صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس المجلس لمناقشته والدفاع عن حقوق المجلس حتى اعتقد الحاضرون أن الجلسة لا تنتهي إلا باستقالة الوزارة، ولما كان اتفاق هذه الوزارة مع المجلس هو قطب الرحى لاتحاد الأمة المصرية بعد طول الشقاق اقترح بعض الأعضاء تأجيل الفصل في هذه المسألة إلى الجلسة التالية لتلك الجلسة وذهب في تلك الليلة كل من صاحبي الدولة رئيس الوزارة ورئيس مجلس الشيوخ حسين رشدي باشا إلى بيت الأمة، فسمرا مع دولة سعد سمراً طويلاً انتهى بالاتفاق على قبول ما صرحت به الحكومة في مسألة الدكتور طه حسين وهو: أنها تعمل ما يحب عليها، وأن يطلب بعض النواب من النيابة العامة إقامة الدعوى على الدكتور طه حسين وهكذا كان. طلب بعض النواب محاكمة الدكتور طه حسين فطلبته النيابة العامة للتحقيق معه، وعين جماعة من كبار العلماء الجامع الأزهر لمناقشته ومناقشة وكلائه في القضية، وقد ظهر من ضعف هؤلاء العلماء في المناقشة ما كان مدعاة الامتعاض والأسى من أهل الدين والتقوى وقال بعض الملاحدة: إن علماء الأزهر أرادوا أن يثبتوا كفر الدكتور طه حسين فأثبت هو كفرهم! ! ليست هذه القضية قضية فرد اسمه طه حسين يشك ويشكك في الدين فقط -بل هي أعظم من ذلك - ولا هي قضية أستاذ في مدرسة الجامعة المصرية أعطي حقًّا رسميًّا في إفساد عقائد الطلبة في المدرسة الجامعة الرسمية وتجريدهم من دينهم وإن هذا لعظيم جدًّا جدًّا جدًّا، ولكن وراءه ما هو أعظم منه وهو الذي يفقهه أهل الفقه في مصر، وفي أوربة، وسائر العالم، وبه كانت القضية أعظم وأكبر شأنًا من قضية فرد اشتهر بعدم التدين، وبالصد عن الدين وأعظم وأكبر شأنًا من كونها قضية أستاذ في الجامعة المصرية أعطى حقًّا رسميًّا من الحكومة يبث رأيه على زيغه أي بإفساد عقائد الطلبة. بماذا كانت هذه القضية أعظم من هذا الأمر الذي اعترفنا بأنه عظيم جدًا جدًا جدًّا. يذكر قراء المنار أننا كتبنا في إحدى المقالات التي استنكرنا فيها جريمة كتاب الشيخ علي عبد الرازق أن أحد أذكياء الإسرائيليين في مصر صرح في محفل أدبي بأن قضيته هي قضية التنازع بين مدرسة الجامعة الأزهرية الدينية ومدرسة الجامعة المصرية اللادينية، أو لتنازع بين الدين والإلحاد في البلاد المصرية ولعلهم يذكرون أيضاً أن الشيخ علي عبد الرازق هدد خصومه في بعض المقالات التي نشرها في جريدة السياسة وأنذرهم الخيبة والفشل في مقاومته ومحاكمة الأزهر له، ثم ظهر أن وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري يعارض في محاكمة هيئة كبار علماء الأزهر له بحسب قانون الأزهر، ولما أصر رئيس الوزارة في ذلك الوقت (يحيى إبراهيم باشا) على وجوب محاكمته وعضده أكثر أعضائها استقال وزير الحقانية هو وسائر الوزراء الذين من حزبه الحر الدستوري كما هو مشهور ولم ينسه الجمهور. وهذا الدكتور طه حسين قد جعل كتابه الجديد هدية إلى صاحب الدولة عبد الخالق باشا ثروت وزير الخارجية في الوزارة الحاضرة وأحد الأركان المؤسسين للحزب الحر الدستوري وصدره باسمه وفهم الكثيرون أن رئيس الوزارة صاحب الدولة عدلي باشا قد ناضل مجلس النواب واشتدت الملاحة بينه وبين صاحب الدولة سعد باشا رئيس المجلس لأجله حتى كاد يسمح بترك الوزارة في هذه السبيل. ومما يعلمه الجمهور مع هذا أن جريدة السياسة التي هي لسان الحزب الرسمي هي اللسان غير الرسمي لهؤلاء الذين يطعنون في الإسلام ويحاولون هدم دعائمه الدينية واللغوية والأدبية كالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وغيرهما وهنالك جريدة أخرى أسبوعية تمُتّ إلى هذا الحزب بسبب وهي تهزأ بالدين ورجاله في كل عدد ولو بغير سبب. ومما يعلمون مع هذا أن الملاحدة والزنادقة قد كثروا في مصر وأنهم صاروا يجاهرون بالدعوة إلى الإلحاد وإلى تقليد زعماء الترك في المروق منه والتفصي من جميع مقوماته والانسلاخ من جميع مشخصاته وتقليد ملاحدة الفرنج وإباحيهم دون أهل الدين منهم الذين يبذلون الملايين في تأييد دينهم ونشر دعوته في العالم ومن هؤلاء الملاحدة أصحاب المناصب العالية والدانية. فمن فكر في هذه المقدمات كلها يعلم أن قضية الدكتور طه حسين هي قضية التنازع بين دين الإسلام والجهر بالإلحاد الصريح كما كانت قضية الشيخ علي عبد الرازق كذلك، وقد صرح بهذا فيهما بعض كتاب الجرائد الأوربية في مصر وفي أوربة نفسها فإذا برئ الدكتور طه حسين منها تعد تبرئته في عرف الشرق والغرب انتصارًا للكفر على الإيمان وللإلحاد على الإسلام وثأرًا للملاحدة من المسلمين وشبهة في حزب الأحرار الدستوريين تجرئ سائر الملاحدة على الطعن في الدين وأنه لم يبق بين أتباع الحكومة المصرية خطوات الحكومة التركية الحاضرة إلا قليل ولا أقول أكثر من هذا ولا حاجة إلى قول يعرفه جماهير المفكرين من شرقيين وغربيين لا من المصريين وحدهم. ولكن يمكنني مع هذا أن أقول: إن الحزب الحر الدستوري في جملته مغبون ومظلوم في جعل جريدة السياسة لسان حاله في كل ما تنشره خارجًا عن الخطة السياسية الوطنية للحزب كالحملة على الدين ورجاله ودعوتها إلى تجديد الأمة المصرية بثقافة جديدة تحل روابط الثقافة الإسلامية وتحل محلها فإننا نعرف من أعضائه المسلمين الصادقين المصلين الصائمين بل ربما كان في أعضائه من يكره كثيرًا مما نشرته في سبيل سياسة الحزب أيضًا، وأقول أيضًا: إن ما أشرت إليه من سبب نضال صاحب الدولة عدلي باشا لمجلس النواب هو المعقول دون ما قيل وما انتشر من كون المراد به الدفاع عن طه حسين وكتابه وأقول ثالثًا: إن صاحب الدولة ثروت باشا لا يعقل أن يكون قد استشير في تصدير كتاب (في الشعر الجاهلي) باسمه أو أنه رضي بذلك على علم بما في الكتاب. ثم أقول رابعًا: إن النيابة العامة إذا قررت عدم محاكمة طه حسين، وإن القضاء إذا برأه بعد محاكمته من عقاب الطعن في الدين وتكذيب القرآن وكذا التوراة فلا يكون هذا ولا ذاك برهاناً منطقيًّا ولا قانونيًّا على تعمد نصر القضاء الكفر علي الإيمان والإلحاد على الإسلام؛ لأن كلاًّ من رجال النيابة والقضاء المشتركين في هذه القضية قد ينظرون ويحكمون بمقتضى الألفاظ التي يقولها الخصوم في مجالس التحقيق والمحاكمة وقد يغفلون عن كون كلام طه حسين ووكلائه مخالفًا لكل ما فهمه رجال الدين وجماهير المسلمين والغربيين في كتاب الدكتور طه حسين، وعن كون فهم هؤلاء الجماهير يجب أن يكون له قيمة، بل أكبر قيمة في إدانته، فإن العبرة أو العمدة في إثبات طعنه في الدين وإهانته له بما يفهمه جماهير الناس منه لا بما يمكن أن يقال في تأويل الكلام والجدال فيه، وقد فهم العرب والإفرنج جميعًا أن الكتاب طعن صريح في القرآن والنبي وسلف المسلمين الصالحين وأئمتهم، ونكتفي بنشر برقية واحدة مما جاء من أوربة في ذلك. *** رأي أوربة في قضية الدكتور طه حسين لندن في أول نوفمبر لمراسل الأهرام الخاص نشرت جريدة (الدايلي تلغراف) اليوم مقالاً رئيسيًّا جاء فيه ما يأتي: (ليس في العالم دين لا يوجد بين معتنقيه عدد من الهراطقة، فالدكتور طه حسين رجل جسور فلا بد أن ينال جزاءه بالاضطهاد؛ فمن ينتقد القرآن فهو كافر؛ لأن القرآن منزل بحروفه، وهذا يعني أن الوحي لا يقتصر على ما يقوله القرآن، بل يشمل أيضًا معنى ذلك القول كما فسره المفسرون القدماء، ثم إن المسلم المتمسك بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي القرآن ويريد من الكتاب أن يكون الحجة الفاصلة في الأدب العربي وينكر على كل إنسان أنه يستطيع الإتيان بمثل لغته العالية؛ فمن الصعب على العقل الغربي أن يقبل هذا على أن المؤمنين أنفسهم قد يجدون مثل هذه الصعوبة؛ فقد سأل اثنان من الصحابة النبي مرة كيف يقرأ آية قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى فأجاب: إن القرآن أنزل عليه بسبع قراءات ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن بل أنزل عليه بواسطة جبريل ثم توقفت هذه البلاغات المكتوبة المرسلة من السماء وجعل النبي يتكلم بصوت الوحي والصحابة يكتبون ما يقول، وقد نبه مرة إلى إحدى الآيات قائلاً: إنها وحي من الشيطان فنسخت. ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها إذا شاء الناقدون البارعون تفنيدها أمام جمهور يميل إلى النقد ومع ذلك فإذا لم يكن الوحي هو القوة التي جعلت للقرآن ذلك السلطان، فما هي تلك القوة؟ لقد أوجد القرآن أحد الأديان العظمى التي يعتنقها الجنس البشري وهو منذ ألف سنة من أعظم القوى الموجودة في العالم) اهـ. *** (المنار) اقتصرنا على هذه البرقية؛ لأن صاحب الجريدة الإنكليزية زاد على وصف طه حسين بالهرطقة (يعني محاربة الدين) إن أيده في هرطقتة بأمور نشيرإلى تخطئتها بالإيجاز، وشهدَ للقرآن شهادة معقولة نصفع بها وجوه الملاحدة ودعاتها الذين يحاولون سلب هذه القوة من المسلمين والذين لا يفقهون سر إعجاز القرآن فنقول: ١ - إن الكاتب الإنكليزي علل كفر من ينتقد القرآن بأنه منزل بحروفه وأستنبط من هذا أن تفسير القدماء للقرآن يدخل في معنى الوحي ومراده، أن من ينتقد تفسير المتقدمين كان كافرًا كالذي ينتقد عبارة القرآن المنزلة يشير إلى أن طه حسين قد يضطهد بمخالفته لتفسير قدماء العلماء وكأنه يلقنه بذلك نوعًا من أساليب الدفاع. وجوابه أن هذا خطأ كبير، فإنه لم يقل أحد من علماء المسلمين وأئمتهم إن تفسير أحد من القدماء له حكم نص القرآن نفسه وكثيرًا ما نرى متأخري المفسرين يخالفون بعض المتقدمين في تفاسيرهم حتى مفسري الصحابة منهم. نعم، إن إجماع أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين على تفسير آية معتبر من أدلة الشرع الواجب اتباعها، ولكن مخالفه لا يعد كافرًا إلا إذا كان أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، وكان المخالف غير حديث عهد بالإسلام أو كان قد علم به وكذبه أو جحده فالمدار في التكفير على اعتقاد المخالف أن هذا من قطعيات الدين المنصوصة في القرآن ومخالفته أو جحوده مع ذلك. ٢ - قال: إن المتمسك بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي القرآن ... إلخ، وجوابه أن كل من قرأ القرآن أو سمعه من أهل المعرفة الصحيحة باللغة العربية والذوق السليم في آدابها من المسلمين وغير المسلمين كانوا وما زالوا يؤمنون بما ذكر الكاتب الإنكليزي من خصائص المسلم المتمسك بدينه وهو أن القرآن هو الحجة الفاصلة في الأدب العربي، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أحد الإتيان بمثل لغته العالية ولا نسلم للكاتب قوله: (إن العقل الغربي يصعب عليه أن يقبل هذا فضلاًعن قوله: إن المؤمنين أنفسهم قد يجدون هذه الصعوبة. وذلك أن العقل الغربي السليم لا يمكن أن يحكم في أمر لا يعرفه وهو ليس محالاً لذاته) . من المنصوص في القرآن والمعروف بالتواتر الإجماعي من تاريخ الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى عرب قريش وهم أفصح العرب لغة، ثم تحدى سائر الخلق بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وجعل هذا آيته الكبرى على كونه وحيًا من الله، وصرح بأنهم لن يستطيعوا ذلك فقال حاكيًا عن الله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُواْ} (البقرة: ٢٤) فلو قدر أحد من الكافرين به وكان أكثرهم كافرين أن يأتوا بسورة من مثله لأتوا بها لإبطال دعوته والاستراحة من تعادي القبائل بمقابلته، ولكن ظهر عجزهم وعجز جميع الخلق عن الإتيان بسورة من مثله في بلاغته وهم عن الإتيان بمثله في هدايته أعجز، فهذا النوع من إعجازه قد اعترف به الكاتب الإنكليزي وغيره من الغربيين ولكنه امترى في إعجازه ببلاغته؛ لأنه لا يعرف لغته فهذا العجز حجة للمسلمين الذين يعرفون البلاغة العربية والذين يجهلونها من الأعاجم وعوام العرب على إعجاز القرآن وصدق وعد الله عز وجل وهي حجة واقعية قطعية لا يمكن المراء والجدل فيها ولا مجال هنا للزيادة على هذا وقد بسطناه في مواضع من التفسير وغير التفسير. ٣ - زعمه أن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة كيف يقرأ آية قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى؟ فأجاب: إن القرآن نزل عليه بسبع قراءات. هذا النقل أو الزعم باطل وله أصل حرفه، أو لم يفهمه الناقل كدأب خصوم الإسلام فيما ينقلون عنه، ونحن نذكر أصله الصحيح؛ ليعلم من يريد العلم الحق كيف يكون الاختلاف والتحريف. أقول: أولاً: إن القرآن بالسبعة الأحرف وردت في حديث مستقل غير حديث اختلاف بعض الصحابة في القراءة فقد روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده ويزيد لي حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وفي بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له هون على أمتي وإن أمتي لا تطيق ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، وهذه علة منصوصة في سبب تعدُّد القراءات تنافي أن تكون لتصحيح ما اختلف فيه بعض الصحابة. ثم أقول عنهما: إن الاختلاف وقع بين عمر بن الخطاب وحكيم بن هشام رضي الله عنهما في بعض آيات سورة الفرقان كما في الصحيحين وكل منهما ادَّعى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أقرأه كما قرأ، فلببه عمر بردائه وأخذه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه ما سمعه منه مخالفًا لما أقرأه - صلى الله عليه وسلم - فصدق كلا منهما بأنه هو الذي أقرأه كما قرأ، وقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ووقع مثل ذلك لغيرهما، ولم يذكر أحد من الرواة ما اختلف فيه عمر وهشام فمن أين أخذ هذا الإنكليزي قوله: إن قراءة كل منهما كانت مناقضة للأخرى؟ هذا إذا كان قد عبر بما يدل على المناقضة المعروفة في اللغة العربية أو اصطلاح علماء المناظرة عندنا. فأما إذا كان تعبيره بمعنى المخالفة التي تصدق باللفظية بحيث لا ينقض معنى كل قراءة معنى الأخرى؛ فيكون كلامه صحيحًا، وفي الفرقان ألفاظ كثيرة اختلف القراء في قراءتها منها المتواتر الذي يعد قرآنا ومنها غيره وهو لا يعد قرآنا فالأول كقراءة: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} (الفرقان: ١٠) بضم لام (يجعل) وبجزمها وقراءة (ضيقًا) من قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} (الفرقان: ١٣) بتخفيف الياء وبتشديدها وأمثال ذلك مما لا يتناقض معناه. ٤ـ قوله: ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن ... إلخ وهذا لا يحتاج إلى استنباط منه أو استظهار فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أميًّا وأميته من دلائل نبوته لا يكتب شيئًا وإنما كان يكتب له أصحابه كل ما يوحى إليه به ويحفظونه ويقرءونه كما يقرأه - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس وفي خارجها كل يوم والذين اختلفوا من الصحابة في بعض الألفاظ من سورتي الفرقان والنحل سمعه بعضهم من بعض في الصلاة. ٥ - قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه نبه مرة إلى إحدى الآيات قائلا: إنها وحي من الشيطان فنسخت غير صحيح، وهذه هي المسألة المعروفة بمسألة الغرانيق، وقد كتب شيخنا الأستاذ الإمام مقالاً مسهبًا في تحقيق الحق فيها يراجعه من شاء في المجلد الرابع من المنار، أو في ملحقات تفسير الفاتحة المطبوع مرارًا. ٦ - قوله: (ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها) ... إلخ، هذا نفي مطلق لا يجزم به عقل منطقي، فالدفاع عن وجود الله، ووحدانيته وحكمته من أسهل الأمور وقد جزم بها أكثر البشر من جميع الملل والنحل والمنكرون لها على قلتهم لم يسمعوا براهينها من أهل العلم الصحيح ومن سمع ذلك ومارى فيه فشأنه كشأن السوفسطائية الذين أنكروا الحسيات وماروا فيها فلا يعتد بإنكارهم إذ مقتضاه أنه لا يثبت في العالم شيء وهذا جهل ما وراءه جهل. وأما شهادة الكاتب الإنكليزي التي حمله استقلال عقله على التصريح بها فهي أن سلطان القرآن الروحي الذي حدث به ذلك الانقلاب العظيم في البشر وأوجد أحد الأديان العظمى فيهم، وهو منذ ألف سنة ونيف من أعظم القوى الموجودة في العالم إذا لم يكن هذا السلطان، وهذه القوة قوة الوحي الإلهي وسلطانه فأي شيء هما؟ وهذا بمعنى ما قلناه وكتبناه مرارًا، وهو أن إعجاز القرآن بهدايته أعظم من إعجازه ببلاغته وقد صرح بمعناه غير هذا الكاتب من حكماء الغرب. إننا نكتفي في هذه المقالة بل العجالة بتنبيه الأذهان لخطر هذا الكتاب وأمثاله من مكتوبات الدكتور طه حسين وإخوانه دعاة الإلحاد وأوليائهم وندع الرد علي قضايا كتابه في الشعر الجاهلي أو الأدب الجهلي إلي الذين وجدوا من فراغ الوقت ما شغلوه بالرد على قضاياه الباطلة وشبهاته العاطلة ووجه الخطر أنه دعوة إلي الكفر والإلحاد وتحقير الدين والصد عنه ولا سيما في نابتة المدارس العليا وغيرهم ونحن ما زلنا نذكر الأمة بخطر هؤلاء، وضررهم منذ بلغنا أنهم ألفوا جمعية للتعاون على إفساد الدين في مصر، وكان أول من بلغنا هذا الخبر بعد وقوفه عليه المرحوم الشيخ محمد مهدي أحد أساتذة البلاغة والدين في دار العلوم ثم في مدرسة القضاء الشرعي التي صار وكيلاً لها ثم بلغنا في العام الماضي أن لهم أو لبعضهم صلة خفية بجمعية يهودية في مصر الجديدة تساعدهم على سعيهم هذا والله أعلم. ولا شك عندنا في أن هذا الإفساد هو أفعل أسباب ما يتفاقم خَطْبه في بلادنا هذه من تهتُّك النساء والشبان واستباحة الأعراض وانحلال روابط البيوت وذهاب الصحة والثروة، وكذا الاستعداد لقبول تعاليم البلشفية وغيرها من بدع الإفرنج التي لا تقوي بنية دولتنا، ولا بنية أمتنا الاجتماعية والعلمية بدون الدين على ما تقوي عليه من أحمالها بنى دول أوربة، وشعوبها بعلومها ونظمها وقومها العسكرية، فإن قيل: إن الدكتور طه حسين قد صرح حين أتهم بهذه التهمة بأنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، قلنا: إن مثل هذا التصريح المجمل المبهم في مقام دفع التهمة لا يسلب منا لغتنا ولا عقولنا فتغير فهمنا لكتابه هذا وغيره من مكتوباته ومقالاته. أهكذا يكتب المؤمنون؟ يضعون كلام الله المنزل موضع الشك، بل ينظمونه في سلك الأساطير الخرافية، ثم ينقضونه بنظريات مخترعة لبعض أعداء الإسلام الإيمان بكتب الله هو التصديق اليقيني بكل ما أنزله الله تعالى فيها مع الإذعان النفسي والعملي له، فكيف يصدر عن صاحب هذا الإيمان ما ذكرناه وما لم نذكر من تشكيك في القرآن، فتكذيب مقرون بالهزؤ؟ فترجيح لمطاعن أعدائه فيه على نصوصه. الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تصديقه اليقيني القطعي في كل ما جاء به عن الله تعالى، مع الإذعان النفسي والعملي لذلك، وهو يقتضي تعظيمه، وتوقيره، وتعزيزه أي نصره، وتفخيمه، وتقديم حكمه على كل حكم وإننا نرى له في هذا الكتاب ما نرى من التكذيب والهزؤ، ونراه إذا ذكر النبي الذي يدعي ملته، فإنما يذكره كما يذكره الكافرون به بلا تعظيم، ولا صلاة، ولا سلام عليه، قد كان يمكن لطه حسين أن يذكر شبهات أعداء الإسلام على بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله تعالى مثلاً بطريق الحكاية عنهم، وكان من مقتضى الإيمان أن يقفي عليها بالرد، أو يجري فيها على قاعدته التشكيك على الأقل أو يقول: هذه نظريات مردودة عندنا معشر المسلمين، أو عند المسلمين إذا لم يشأ أن يعد نفسه منهم بنص القرآن الصريح الذي وصف في بعض سوره بأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) ولكنني لم أر فيما قرأت من الكتاب جملة تدل على أن كاتبه مسلم أو يدين بدين، وسأعود إن شاء الله تعالى إلى النظر فيه؛ فإن وجدت شيئًا من ذلك أثبته له. وصفوة القول فيه أنه لو لم يكن قاصدًا متعمدًا متوخيًا تجريد تلاميذه من دينهم ووطنيتهم لادخر هذه الفلسفة لنفسه دونهم، وإن شاء ربي عليها أولاده الذين سماهم بأسماء الإفرنج دون أسماء المسلمين عداوة لهذه اللغة وهذا الدين. ((يتبع بمقال تالٍ))