للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة
كان هذا الفصل وما بعده من أخبار خلافة حسين المكي التي حققنا أنها
(وضعت سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل) قد جمعت منذ ثلاثة أشهر وضاق
عنها الجزء الماضي , وجمع معها مواد أخرى في موضوعها , ولكن تأخر هذا
الجزء وسبقته الحوادث , فأخرنا تاريخه حتى ظهرت طلائع إنقاذ الحجاز والعرب
من هذا الطاغوت الذي سمى نفسه (المنقذ) بسيف الحق الذي سلّه الله في نجد،
فوجب أن نختصر ما كنا جمعناه، ونكتفي منه بالوثائق التاريخية للاعتبار بها دون
استقصاء فنقول:
صدر العدد ٧٦٩ من جريدة القبلة المؤرخ في ٣٠ رجب سنة ١٣٤٢ (٦
مارس سنة ١٩٢٤) مزينًا بذرور الذهب؛ لأنه خص بخبر المبايعة بالخلافة وما
يتعلق بها، وافتتح بمقالة في (الخلافة والعرب) - وما العرب عندها إلا حسين
فبعد التنويه بثورته الشؤمى، وأعماله القبحى، قال الكاتب المستأجر فيها ما نصه:
(وعند قيام جلالته بالنهضة بايعه أهل الحل والعقد في الحجاز , كما بايعه
بذلك أهل سورية (بما فيها فلسطين) قبل النهضة وبعدها، وكذلك أهل العراق
ووفود اليمن وغيرها من الأقطار العربية بيعة مستكملة لشرائطها الشرعية , ولا
تزال وثائقها بين أيدينا) .
ثم قال: إنه هو لم يقبل تلك البيعة في حينها (تحاشيا عن التشويش
والاضطراب في هذه المسألة الإسلامية الكبرى تاركًا أمر البت فيها إلى الرأي
العام الإسلامي)
(ولكن مع الأسف) إن العالم الإسلامي ترك هذه المهمة الخطيرة هدفًا
للتلاعب , حتى وصل بها الأمر إلى الحد الفظيع الذي أنبأتنا به البرقيات المنشورة
في غير هذا المكان في هذا العدد (يعني ما فعله الترك) وقد ذكرنا برقياتها هذه وهي
من عمان في الجزء الماضي , ومنها أن جريدة المقطم سبقت إلى ترشيح حسين
للخلافة , ومن البرقيات التي لم تنشر برقية حسين لرئيس حكومة مكة بأن من
امتنع من البيعة يقتل رميًا بالرصاص. فمبايعة الحجاز وقعت بالإكراه خلافًا لما
ذكرته قبلة الدعاية الحسينية المزورة إلا في تعليلها المبايعة بعمل حكومة أنقرة؛ إذ
قالت:
إن هذا سبب هبوب الشعب السوري للمبايعة , وإن هذه الأنباء لما وصلت
إلى العاصمة (مكة) هب أهلها للمبايعة وإقامة الزينات والاحتفالات. ثم قالت:
ومما تقدم يتضح أن مبايعة الأمة العربية لصاحب الجلالة الهاشمية بالخلافة
ليست بالأمر الجديد , وإنما كانت تأكيدًا للبيعة السابقة.
ثم زعم الكاتب وهو محرر الجريدة المستأجر، الموظف لخليفته المزور، أنه
صار مكلفًا شرعًا بقبول هذه البيعة، فهو يرى أن تسمية خليفة تركي كان مانعًا
شرعًا من هذا القبول. وكأنه نسي ما كتبه مولاه في قبلته نفسها من إثبات كفر
الدولة العثمانية , وبطلان خلافتها القديمة في الأزمنة التي بايع خلفاءها هو وأسلافه
من قبله فيها، ثم صرح مرارًا بموت الخلافة، وجهل أن حكمه بوجوب قبول
البيعة الثانية دون الأولى - يتضمن جهل الأمة العربية التي زعم أنها بايعته بأن تلك
البيعة كانت باطلة لا يجوز قبولها , أو فسقه هو بترك القبول الذي يترتب عليه
تعطيل أحكام الشرع , ولا غرو فكل من المبايعين والمبايع صدق عليهم الحديث
النبوي الحكيم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه من حديث
أسماء بنت الصديق. وعند مسلم عن عائشة أيضًا - رضي الله عن أبيهما وعنهما -
وذلك أن كلاًّ منهما مفتات على الشعوب الإسلامية كلها بما ليس له فيه حق بنفسه،
ولا بالشرع، كما بيناه في الفتوى التي أقمنا فيها الدلائل على بطلان هذه البيعة،
وعلى كونها لم يقصد بها معنى الخلافة الشرعية لتعذره.
ثم إن جريدة القبلة ذكرت بعد تلك المقولة ما كان من الاحتفال في مكة
بالمبايعة العامة والخاصة - تعني مبايعة أسرة حسين وعشيرته الشرفاء ورجال
حكومته، ومبايعة العامة - وإننا ننقل عنها نص الخطاب الذي نمقوه، وتلاه على
الناس قاضي القضاة ورئيس حكومة مكة، حفظًا لهذه الوثائق التاريخية، وتذكيرًا
بما فيها من العبرة، وهو:
***
الخطاب الذي أعلنت به المبايعة بمكة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي
وفق أهل الحَلّ والعقد والتدبير، لتنصيب إمام يقوم بمصالح أفراد المسلمين الكبير
منهم والصغير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل رحمة وبشيرًا ونذيرًا
والقائل إرشادًا لأمته: (أمِّروا عليكم أميرًا) وعلى آله وأصحابنا وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فبناءً على انحلال الإمامة الكبرى منذ زمن بعيد , وقد نص الشارع صلى الله
عليه وسلم على تنصيب المسلمين إمامًا لهم بقوله: (أمِّروا عليكم أميرًا) ذاك أمير
أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ونص العلماء على أنه لا بد شرعًا للمسلمين
من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم , وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم ,
وحماية بيضتهم وقطع مادة شرور المتغلبة والمتلصصة , وقطاع الطريق وإقامة
الجمع والأعياد , وأخذ العشور والزكاة وقطع المنازعات , وقبول الشهادات وتزويج
الصغار الذين لا أولياء لهم , وقسمة الغنائم لوجهين:
(الوجه الأول) :
أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام، حتى قال أبو بكر الصديق في خطبته
حين وفاته عليه الصلاة والسلام: (ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين من يقوم
به) فبادر الكل إلى قوله وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه
وسلم , ولم يقل أحد من الصحابة: لا حاجة إلى ذلك؛ بل اتفقوا عليه واستمر الناس
بعدهم على ذلك.
(الوجه الثاني) :
أن في تنصيب الإمام دفع ضرر مظنون , ودفع الضرر المظنون واجب على
العباد إذا قدروا عليه إجماعًا، لما نعلمه علمًا ضروريًّا أن مقصود الشارع فيما شرع
من المعاملات والمناكحات , والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في
الأعياد والجمعيات - إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا , وذلك المقصود
لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشرع , يرجعون إليه فيما يعن لهم فتنصيب الإمام من
أتم مصالح المسلمين , وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي , وقد يتمسك
على وجوبه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:
٥٩)
وحيث إن شروط الإمامة الكبرى قد توفرت في جلالة مليكنا ومنقذنا ملك
العرب المعظم صاحب الجلالة الهاشمية الشريف حسين بن علي - تعينت مبايعته،
فبايعناه بالخلافة سنة خمس وثلاثين بعد الثلاثمائة والألف , على أن يعمل فينا
بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وفي يومنا هذا التاسع والعشرين من
شهر رجب الحرام من عامنا الحالي اقتضى الحال تأييد تلك البيعة وإعلانها للعموم؛
فأكدناها اليوم.
وحيث إنه غائب في هذا الوقت , ومولانا حجة الإسلام قاضي القضاة ومفتي
السادة الحنفية ونائب رئيس وكلاء الحكومة العربية الهاشمية مفوض عام من قبل
جلالته مدة غيابه في الأمور الشرعية والإدارية , بايعه الرؤساء من الأشراف
والسادة والعلماء والأعيان من أهل الرأي والتدبير من عموم أهالي الحجاز،
والمجاورين والوافدين على اختلاف طبقاتهم بالخلافة العظمى قائلين: نبايعك نيابة
عن أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين سيدنا الشريف حسين بن علي بن
محمد بن عبد المعين بن عون , على أن يعمل فينا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم , ونقسم لك بالله العظيم على طاعته ورضاه والانقياد له في
السر والعلانية , وله علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقام الدين , واجتهد فيما فيه
صلاح حال المسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُث ُعَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: ١٠) فقبل مولانا الموصى إليه هذه البيعة لجلالته
وللإعلام بذلك صار تحريره اهـ؛ بنصه ويليه دعاء له بالظفر والفتح والنصر
ومحق سيفه رقاب الطائفة الباغية الكافرة اهـ؛ فيا للفضيحة والخجل!
(المنار)
كنا عازمين على إحصاء كل ما في هذا الكتاب من مواضع النقد، وإذ كان
حسين قد عجز عن إحياء سقط خلافته بالدعاية كما توهم , وعن تحنيطه إبقاءً
لصورته، وإذ تفسخ وقرب دفنه - نكتفي بالإشارة إلى بعض المسائل المهمة:
فأما دعوى مبايعته بالخلافة سنة ١٣٣٥ فإن نص تلك المبايعة الذي نشر في جريدة
القبلة كان بالملك على العرب لا بالخلافة. وأما دعوى أهليتهم للمبايعة فباطلة، فإنهم
عاجزون مستعبدون له ولعبيده، لا حل ولا عقد لهم في بلدهم، فضلاً عن بلاد العرب
كلهم الذين سخروا بمبايعتهم - فضلاً عن العالم الإسلامي كله الذي حقره لقبوله هذه
المبايعة - وقد بينا في فتوى الجزء الرابع بطلان هذه الدعوى , ودعوى استجماعه
لشروط الخلافة , ومن المضحكات أن ذكروا فيها حماية الممالك الإسلامية وهو
عاجز إلا عن ظلمهم. وقد قرب عهد إسقاط البيعتين وطرده من الحرمين الشريفين.
((يتبع بمقال تالٍ))