للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو حامد الغزالي


سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(١)

دعونا العلماء في الجزء الماضي إلى نصيحة السلاطين وإننا نذكِّرهم في هذا
الجزء ببعض ما يروى عن علماء السلف في ذلك:
(جعل الإمام الغَزالي الباب الرابع من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خاصًّا بأمر الأمراء والسلاطين ونهيهم وقال في أوله ما نصه: (قد ذكرنا درجات
الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف وثانيه الوعظ وثالثه التخشين في القول ورابعه
المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع
السلاطين الرتبتان الأُولَيان وهما التعريف والوعظ وأما المنع والقهر فليس لآحاد
الرعية مع السلاطين فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويَكُون ما يتولد عنه من
المحذور أكثر.
وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا مَن لا يخاف الله وما يجري مجراه.
فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدَّى شرها إلى غيره لم يجز وإن كان لا يخاف إلا على
نفسه فهو جائز بل مندوب إليه فقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار
والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن
ذاك شهادة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم
رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك) [١] وقال صلى
الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [٢] ووصف
النبي صلى الله عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (قرن من حديد لا تأخذه
في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ما له من صديق) [٣] .
ولمّا علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر
وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار - قدموا على ذلك موطِّنين
أنفسهم على الهلاك مُحتمِلين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى
ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله. وطريق وعظ السلاطين وأمرْهم
بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك
في باب الدخول على السلاطين من كتاب الحلال والحرام..) . اهـ ما كتبه
الغزالي في مقدمة الباب.
أقول: قوله: إنه ليس لآحاد الرعية التصدي لمنع السلطان عن المنكر بالقهر
صحيح لا لِمَا يترتب عليه من الفتنة فقط، بل هناك علة أخرى هي أظهر وأَوْلى
بالتقديم وهي أن إكراه الآحاد من الرعية للسلاطين مُحال وطلبه عبث لا يأتي من
عاقل، ولهذا المعنى فرض الله تعالى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر على أُمة تتألف وتستعد لذلك كما بينَّا في الجزء الماضي، والأمة تستعد
لكل شيء بقدْره، وقوة الأمة أَشدّ بالاتحاد والاجتماع من قوة السلطان؛ لأن قوته
منها وقوتها من ذاتها ويد الله مع الجماعة. وسنعود في فرصة أخرى إلى التفصيل
في هذه المسألة. فإننا إنما نقصد الآن إلى بيان شيء من هدي السلف في نصيحة
الأمراء والسلاطين تذكيرًا للعلماء وكشفًا للقراء عن الفرق بين حالنا اليوم وحال
سلَفنا أيام كانت الأمة عزيزة قوية والدين راسخًا معمولاً به.
ندَع مما أورده الغزالي من هدي السلف في هذا الباب آثار الصحابة لئلا يقال: إنهم لا يقاس عليهم في بذل أرواحهم في سبيل الحق، وإن من كان يغلظ على
عمر بن الخطاب في الحق كان آمنًا عقوبته ليقينه بعدله ودينه ونذكر شيئًا مما أورده
عمن بعدهم قال: (وعن الأصمعيّ قال: دخل عطاء بن أبي رَباح على عبد الملك
بن مروان وهو جالس على سريره وحوالَيْه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة
وقت حجه في خلافته فلما بصُر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه
وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتقِ الله في حرم الله
وحرم رسوله فتعاهدْه بالعمار، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم
جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقدْ أمور
المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم
ولا تغلق بابك دونهم فقال له: أجلْ ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك فقال: يا
أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟ فقال: ما لي إلى
مخلوق حاجة ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف) .
أقول: هذا نصح علماء الدين لمثل عبد الملك الذي كان أول معلن للاستبداد
في الإسلام حتى قال على المنبر: (مَن قال لي اتقِ الله ضربت عنقه) وأين
ملوك زماننا من عبد الملك في سياسته وفتوحاته ألا إنهم أحق بالنصيحة منه، ولكن
أين الناصحون؟ ! قال الغزالي:
(وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يومًا: قف على الباب فإذا
مر بك رجل فأدخلْه عليّ ليحدثني فوقف الحاجب على الباب مدة فمرّ به عطاء بن
أبي رَباح وهو لا يعرفه فقال: يا شيخ ادخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك فدخل
عطاء على عبد الملك وعنده عمر بن عبد العزيز فلما دنا عطاء من الوليد قال:
السلام عليك يا وليد قال: فغضب الوليد على حاجبه وقال له: ويلك أمرتك أن
تُدخل إليَّ رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إليَّ رجلاً لم يرضَ أن يسميني بالاسم
الذي اختاره الله لي (يعني أمير المؤمنين) فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره ثم
قال لعطاء: اجلس ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا
أن في جهنم واديًا يقال له هبهب أعدّه الله لكل إمام جائر في حكمه فصعق الوليد من
قوله وكان جالسًا بين يدي عتبة المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشيًّا
عليه. فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر بن
العزيز فغمزه غمزة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جِدّ فَجِدّ. ثم قام عطاء
وانصرف فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: مكثت سنة أجدُ ألم غمزته في
ذراعي) .
(ويُروى عن ابن أبي عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة
فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل فقال الحجاج: مرحبًا
بأبي سعيد إليَّ إليَّ ثم دعا بكرسي فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه فجعل الحجاج
يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة
له وفَرَقًا (أي خوفًا) من شره والحسن ساكت عاضٌّ على إبهامه فقال: يا أبا سعيد
ما لي أراك ساكتًا قال: ما عسيتَ أن أقول قال: أخبرني برأيك في أبي تراب قال: سمعت الله جلّ ذكره يقول: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٤٣) فعليٌّ ممن
هدى الله من أهل الإيمان فأقول: ابن عم رسول الله وخَتَنُه على ابنته وأحب الناس
إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لن تستطيع أنت ولا أحد من
الناس أن يحظرها عليه ولا أن يحول بينه وبينها وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله
حسيبه، والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا، فَبَسَرَ وجه الحجاج وتغير وقام عن
السرير مغضبًا فدخل بيتًا خلفه وخرجنا، قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن
فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأَوْغرت صدره فقال: إليك عني يا عامر يقول
الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة أتيتَ شيطانًا من شياطين الإنس تكلمه بهواه
وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلتَ فصدقت أو سكتَّ فسَلِمْتَ.
قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتُها وأنا أعلم ما فيها. قال الحسن: فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحَجَّاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول، قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم؟ ! قال: نعم قال: ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: ١٨٧) قال: يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرِّق بين رأسك وجسدك) .
أقول: وقد ساق المصنف هذه الحكاية في كتاب (ذم الجاه والرياء) مطولة
بما هو أبلغ في العبرة والفرْق بين علماء الدين الذين لا يخافون في الله لومة لائم
وعلماء الدنيا الذين يتقربون إلى الأمراء والسلاطين بما يرضيهم من سخط الله
تعالى.
قال: (روي عن سعيد بن أبي مروان قال: كنت جالسًا إلى جنب الحسن إذ
دخل علينا الحَجَّاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على بِرذَوْن أصفر
فدخل المسجد على برذَوْنه [٤] فجعل يلتفت في المسجد فلم يَرَ حَلْقة أَحْفَل من حلقة
الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبًا منها، ثم ثنى وَرِكه فنزل ومشى نحو الحسن فلما
رآه الحسن متوجهًا إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد: وتَجافَيْت له أيضًا عن
ناحية مجلسي حتى صار بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في كل يوم فما
قطع الحسن كلامه. قال سعيد فقلت في نفسي: لأبلونَّ الحسن اليوم ولأنظرن هل
يَحْمِل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن
هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه. فتكلم الحسن كلامًا واحدًا نحوًا مما كان يتكلم
به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن وهو غير مكترث
به رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن، ثم قال: صدق الشيخ
وبرَّ فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها خُلقًا وعادةً فإنه بلغني عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملناه من أمر الناس
ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها. قال: ثم افترّ الحجاج فتكلم حتى
عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى
مجلس الحسن حيث قام الحجاج فقال: عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ
كبير وأني أغزو فأكلف فرسًا وبغلاً وأكلف فسطاطًا وإن لي ثلاث مئة درهم من
العطاء وإن لي سبع بنات من العيال، فشكا من حاله حتى رقَّ له الحسن وأصحابه
والحسن مكبّ فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال: ما لهم قاتلهم الله
اتخذوا عباد الله خَولاً ومال الله دُولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم؟! فإذا غزا
عدو الله غزا فيه الفساطيط الهبابة (أي العالية المشرعة) وعلى البغال السباقة، وإذا
أغزى أخاه أغزاه طاويًا راجلاً فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام
رجل من أهل الشام كان جالسًا إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه
الذي تكلم به [٥] فلم يلبث الحسن أن أتته رُسل الحجاج فقالوا: أَجِبْ الأمير فقام
الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه
وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرًا فاه يضحك، إنما كان يبتسم فأقبل حتى قعد في مجلسه
فعظم الأمانة وقال: إنما تجالسون بالأمانة [٦] كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في
الدينار والدرهم، إن الخيانة أشدَّ الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم
ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك لسانك
وقولك إذا غزا عدو الله كذا وكذا.. وإذا أَغْزَى أخاه أغزاه كذا لا أبا لك تُحِّرض
علينا الناس إنَّا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصرْ عليك من لسانك قال: فدفعه الله
عني. وركب الحسن حمارًا يريد المنزل فبينما هو يسير إذ التفت فرأى قومًا
يتبعونه فوقف فقال: هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما
يبقي هذا من قلب العبد؟ !) .
قال الغزالي بعد إيراد هذا الأثر: (فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة
الباطن ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم
أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون، اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم
الراحمين) . اهـ.
أقول: وإن حاجتهم إلى التعاون في هذا العصر أشد منها في عصر الحَجَّاج
فإن المسلمين اليوم على خطر وأمراؤهم وملوكهم لا يذكرون مع ملوك بني أُميَّة
وأمرائهم حتى الحجاج فأولئك قد فتحوا الممالك وهؤلاء أضاعوها، وأولئك حفظوا
من الشريعة ما عدا جعْل أمر المسلمين شورى بينهم فإنهم جعلوه ملكًا قوامه العصبية
وهؤلاء أضاعوا الشريعة إلا قليلاً هو على خطر من جهلهم وسوء إدارتهم، وأولئك
كانوا يعدلون في الأحكام ويساوون الناس في الحقوق فلا يظلمون إلا من نازعهم في
أصل سلطتهم، وهؤلاء يظلمون في كل شيء ويبيعون الحقوق بالرشوة. وقد
رأيت أن من علماء السلف من كان يغلظ لهم وينفّر الناس من أصل سلطتهم ويغيظ
أشدهم سفكًا للدماء كالحجاج أفَلَسْنَا أحوج الآن إلى ذلك؟ ! .
الخلاصة: أنه لا بد من اجتماع العلماء وتعاونهم على فريضة النصيحة مادام
في القوس منزع وفي السلطة الإسلامية رمق.
... ... ... ... (للآثار بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))