وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: لِمَ تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن أُخْلَقَ بأربعين عامًا؟ فحج آدم موسى؛ لم يكن آدم عليه السلام محتجًا على فعل ما نهي عنه بالقدر , ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله , بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا , فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى , وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه , فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى توبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك , ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره , وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها , كيف وقد قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: ١٦) وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} (الأعراف: ١٥٥) , وهذا باب واسع , وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقت بآدم من أكل الشجرة , ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر , فإن الأب لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه , فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب , والعبد مأمور أن يصبر على المقدور , ويطيع المأمور , وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: ٥٥) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: ١١) . قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم , فمن احتج بالقدر على ترك المأمور , وجزع من حصول ما كرهه من المقدور , فقد عكس الإيمان والدين , وصار من حزب الملحدين المنافقين ,وهذا حال المحتجين بالقدر , فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره , فلا ينظر إلى القدر , ولا يسلم له , وإذا أذنب ذنبًا أخذ يحتج بالقدر , فلا يفعل المأمور ويترك المحظور , ولا يصبر على المقدور , ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين , وأئمة المحققين الموجدين , وإنما هو من أعداء الله الملحدين , وحزب الشيطان اللعين , وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان , تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر , وأعظمهم ظلمًا وعدوانًا , وأذل الناس إذا قهر , وأعظم جزعًا ووهنًا , كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقابلة من أصناف الناس , والمؤمن إن قدر عدل وأحسن , وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم , التي أولها بانت سعاد إلخ في صفة المؤمنين: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: رأيته يَغْلِب فلا يبطر , ويُغلب فلا يضجر , وقد قال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: ٩٠) وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (آل عمران: ١٢٠) وقال تعالى: {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: ١٢٥) , وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: ١٨٦) فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة , فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور , والتقوى يدخل فيها فعل المأمور , فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير , بخلاف من عكس فلا يتقي الله؛ بل يترك طاعته متبعًا لهواه ويحتج بالقدر , ولا يصبر إذا ابتلى , ولا ينظر حينئذ إلى القدر , فإن هذا حال الأشقياء , كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري , أي مذهب وافق هواك تمذهبت به , يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقًا لطاعتك , فتنسى نعمة الله عليك كي [١] أنه جعلك مطيعًا له , وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له , ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ. وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة , قال له ربه: أنا يسرتك لها , وأنا أعنتك عليها , فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها , ويسرتني لها , قال له ربه: أنت عملتها وأجرها لك , وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي قُدِّرَت عليَّ هذه السيئة , قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها , قإن قال: أي ربي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه , قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك , وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع. وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي , والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور , وهذا أعظم الضلال , ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين , لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله. وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكُلْ باطنًا فأكل , وإبليس كان توحيده ظاهرًا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا , فلم يسجد فغير الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: ١٨) الآية , فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس , فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه , وتاب من ذلك ولم يقل: إن الله ظلمني , ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل , قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: ٣٧) وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: ٢٣) وإبليس أصر واحتج بالقدر , فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٣٩) وأما قوله: رآه غيرًا نحلم يسجد؛ فهذا شر من الاحتجاج بالقدر , فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس , فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيرًا , بل قال: {َأنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: ١٢) , ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرًا , بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة والله تعالى يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} (البقرة: ٣١-٣٢) , وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له , ولهذا قالوا: دعوه دعاء العبد، فآدم يقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا) والملائكة تقول: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: ٣٢) وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: ٧) الآية , وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: ٦٤) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَم} (الأنعام: ١٤) , وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: ١١٤) فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروا بعبادة غير الله , ولا اتخاذ غير الله وليًّا ولا حكمًا , فلم يكونوا يستحقون الإنكار , فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غير يمكن عبادته واتخاذه وليًّا وحكمًا , وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (القصص: ٨٨) , وقال: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (الإسراء: ٢٢) وأمثال ذلك. وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: ١٢٨) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: ١٠) فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد , وجعل معنى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: ١٢٨) أي فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه: (أحدهما) : إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: ١٢٨) نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ* لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: ١٢٧-١٢٨) , وقد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت) فلما أنزل الله هذه الآية ترك , فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر , بل إن شاء الله تعالى قطع طرفًا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة , وإن شاء تاب عليهم , وإن شاء عذبهم , وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: ١٨٨) ونحو ذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: ١٥٤) . (الوجه الثاني) : إن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين, فإن ذلك لو كان صحيحًا لكان ينبغي أن يقال: لكل أحد حتى يقال: للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى , ويقال: للراكب ما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب , ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم , ويقال مثل ذلك: للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك , وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر: ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر , ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب , ومن قال: مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين , ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم , ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب , وقال: شاهت الوجوه, ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم , فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل , فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ , وأثبت له الحذف والإلقاء , وكذلك إذا رمى سهمًا فأوصلها بقدرته. (الوجه الثالث) : نه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق, وقد قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة: ١٢٨) فالله هو الذي يجعل المسلم مسلمًا. وقال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: ١٩-٢١) فالله هو الذي خلقه هلوعًا , لكن ليس في هذا أن الله هو العبد , ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق , ولا أن الله حالٌّ في العبد. فالقول: بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول: بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل , وهؤلاء ينتلقون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد , وهذا عين الضلال والإلحاد. (الوجه الرابع) : إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: ١٠) لم يُرِد أنك أنت الله , وإنما أراد أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله , كما أن من أطاعك فقد أطاع الله , ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله , ولكن الرسول أَمر بما أمر الله به , فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني , ومن عصاني فقد عصى الله , ومن عصى أميري فقد عصاني) ومعلوم أن أميره ليس هو إياه , ومن ظن في قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: ١٠) أن المراد به أن فعلك هو فعل الله , أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك , فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره , وذلك أنه لو كان المراد به أنه خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق , وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله , ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله , ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله , وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضًا , فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا , وكذلك إذا قيل: بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا, فيكون الله قد بايع الله , وهذا يقوله: كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية , حتى إن أحدهم إذا أُمِرَ بقتال العدو يقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم , وبيّنا فساده لهم وضلالهم غير مرة. وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية [٢] وهو باطل أيضًا , فإن الله سبحانه قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: ١٢٨) ، وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن: ١٩) , وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: ١) ، وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: ٢٣) , وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح: ١٨-١٩) . فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: ١٨) يبين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: ١٠) ولهذا قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: ١٠) , ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة , فعلم أن يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله , فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم , ألا ترى أن كل من وكّل شخصًا بعقد مع الوكيل كان ذلك عقدًا مع الموكل، ومن وكل نائبًا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه , كانوا معاهدين لمستنيبه , ومن وكّل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد , وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: ١١١) الآية , ولهذا قال في تمام الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: ١٠) . فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح , وأن الله إذا كان قد قال لنبيه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: ١٢٨) فإيش نكون نحن وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))