للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البهتان العظيم

كنت سامرًا مع ناظر الداخلية بداره في أوائل المحرم فذكرنا سوء التفاهم بين
العرب والترك فذكر أن عبيد الله أفندي مبعوث آيدين سينشئ جريدة عربية في
العاصمة لأجل هذه المسألة، وفهمت منه أن ذلك برأي الحكومة ومساعدتها قلت:
يخشى أن تزيد هذه الجريدة في سوء التفاهم فإن مديرها مشهور بالتعصب على العرب
فلا يثقون بقوله ولا بنيته فهلا اخترتم لهذا العمل غيره. قال الناظر: إنه يظهر لنا أنه
محب للعرب غال فيهم ولعلكم سمعتم ما ذكرتم عنه من بعض مناظريه من مبعوثي
العرب. قلت: لا وإنما أنا أعرفه بنفسي فإنه كان بمصر وكان يصرح في المحافل
العامة بما يستنكره العرب، وبأنه ينبغي للترك أن يستغنوا عن اللغة العربية حتى عن
القرآن العربي بأن يترجموه بلغتهم وقد جرت بيني وبينه مناظرة في ذلك. قال
الناظر: أما الاستغناء عن القرآن العربي بترجمته فلا أوافقه عليها ولكنني أعرفه
محب للعرب.
وفي ذلك الشهر نفسه أصدر عبيد الله أفندي جريدته وكان من أمرها ما عرف
الخاص والعام فقد قامت عليها قيامة الجرائد العربية في مصر وولايات سورية كلها،
وفي أمريكة تفضح مقاصد صاحبها وفي إلقاء الشقاق والبغضاء والتعصب الذميم
الجنسي والديني بين العرب وشكوه إلى الحكومة وطعنوا في الحكومة، ولا سيما
نظارة الداخلية؛ لما شاع وذاع من مساعدتها له وصار يضرب باسمه المثل في
التفريق والإفساد بين جميع الناطقين بالضاد. ونحمد الله أن جاء ما سعى إليه في
جريدته من إثارة الفتن بين المسلمين والنصارى في بيروت وسائر البلاد السورية
بضد ما سعى إليه فقد تمكنت الألفة والوحدة الوطنية بين الفريقين واتفقت جرائدهما
على ذلك.
من غرائب هذا الرجل أنه يجمع في جريدته بين الأضداد والنقائض فيمدح
الشيء ويذمه مطلقًا، ويثبت الشيء وينفيه كذلك، ويحث على الأمر وينفر عنه فإذا
اعترض عليه في بعض ما يكتبه أمكنه أن يدعي لنفسه الطرف الآخر ويستدل عليه
ببعض ما كتبه، فهو في مشربه وحاله وعقله وأخلاقه ليس أهلاً لأن يناظر أو
يجادل، وإنما اهتمت الجرائد العربية بشأنه لاعتقادها أن الحكومة هي التي دفعته إلى
هذا العمل ولأجل أن تتخذ فتنته ذريعة لجمع الكلمة بين أبناء الوطن العربي لمقاومة
من اتفقوا على أنه عدو لكل عربي.
ومن غريب أمره أنه لا يستحيي من مكابرة الحس، وإعطاء الضد حكم الضد،
فهو يصرح بأن العرب كلهم مسلمون وأنه لا يعقل هو ولا أحد من الترك أنه يوجد
في العرب نصراني , ومثل هذا في المكابرة ما بهتني به، ويا له من بهتان عظيم قلما
يوجد في المخلوقين بشكل الإنسان من يرضى لنفسه التصريح بمثله!! وهو بهت
الإنسان جهرًا في كتابة تطبع وتنشر بضد ما هو مشهور به وتحريف كلامه
المعروف عندهم والإصرار على ذلك بعد إنكار الجماهير عليه في الأقطار المتفرقة
والبلاد الكثيرة.
أحمد الله تعالى أن عرف لي كل من يعرفني إخلاصي في الدعوة إلى الوفاق
والاتحاد بين المتفرقين في الأديان والمذاهب والأجناس والمشارب، فكم دعوت
المسلمين إلى الاتحاد وكم سعيت في هذه السبيل , ولما حدث ما حدث بعد الدستور
من سوء التفاهم بين العرب والترك سعيت إلى تلافي ذلك بالقول والكتابة والسعي
عند أولي الأمر في العاصمة، لكن لم يظهر لي أحد من أولي الأمر العناية بما سعيت
إليه إلا حسين حلمي باشا في وزارته ولكن سر به كثيرون من الفضلاء، وكنت
نشرت عدة مقالات في ذلك بجرائد العاصمة التركية والعربية قبل ظهور جريدة
الحضارة وعدة مقالات في هذه الجريدة.
حدق عبيد الله نظره في هذه المقالات ودقق النظر ليجد فيها عبارة تقبل
التحريف بمراد ظاهر؛ ليجعله تكأة له في هجوي وذمي والتنفير عني وعن مشروعي
فلم يجد، فعمد إلى البهتان المبين فنقل من إحدى مقالاتي في جريدة الحضارة جملاً
محكية عن ساسة أوربا الذين يريدون القضاء على هذه الدولة بتفريق عناصرها مع
الرد على أولئك الساسة وتحذير العثمانيين من الإصغاء إليهم وحثهم بالبراهين على
الاتحاد الذي فيه خيرهم أجمعين. فزعم أولاً أنني كتبت تلك العبارة عن لسان
الأوربيين لأجل تفريق العثمانيين وأنه لا يوجد في الأوربيين من يغرينا بالتفرق،
وإنما هم يدعوننا إلى الوفاق!! ثم سكت مدة وصار ينقل تلك العبارة ويعزوها إليّ
مباشرة، وترجمها إلى التركية غير مرة لينفر إخواني الترك مني، ولم يخجل من
ادعائه أنني أنا الذي أقول تلك الأقوال وأدعو العثمانيين إلى التفرق والانفصال، فمثله
كمثل من يعمد إلى مثل قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
آخَرُونَ} (الفرقان: ٤) الآية وقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: ٥) فحذف من الآيتين لفظ (قالوا) وزعم أن القرآن
يطعن في القرآن وفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم -
وقد روينا في الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أدرك
الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
أنكر عليَّ عبيد الله أولا أن في الأوربيين من يرى في ترويج سياسته
تفريق العثمانيين بعضهم من بعض ولا سيما الترك والعرب، أنكر ذلك وهويعرفه
كما هي عادته وفي كلامه ما يشعر به صرح به في العدد الأخير من جريدته الذي
أعلن فيه إيقاف إصدارها الآن، ولكن الغافلين من قرائها الذين ينسون عند قراءة كل
عدد ما كتب في غيره بل عند كل جملة ما يناقضها من الجمل قبلها قد يصدقونه فيما
بهتني به ومن الأخلاق التي رسخت في هذه العاصمة، وفي رجال هذه الحكومة خلق
التسليم والتصديق بالشر والارتياب في الخير طبع هذا الخلق في نفوس الكثيرين منهم العهد الحميدي الذي لم يكن لهم فيه من شاغل إلا الوسوسة والتجسس والاتهام بالشر.
هذا وإننا نحن الذين عشنا في شر أيام العهد الحميدي في مصر بعيدين عن
استبداده وعن وساوسه أعرف بسياسته من الذين عاشوا فيه وأعرف بسياسة أوربا
أيضًا وقد أشرت في مقالات (العرب والترك) إلى بعض سعي الإفرنج من استقلال
العرب وعبيد الله يعرف شيئًا من هذا ولكنه يتعمد كتم الحق واظهار الباطل لما له من
الهوى في ذلك. ويمكنني أن أنقل كلمة وجيزة في هذا الباب من الكتاب المسمى
(الدول المعظمة أمام الانقلاب العربي) الذي ألفه أوجين جونغ الذي كان واليًّا لفرنسا
في الهند الصينية وهي قوله في ص ٢٢٨ ما ترجمته:
(إن العناصر التي تتكون منها الدولة العثمانية وهي الألبان والمكدونيون في
أوربا والروم في جزائر الأرخبيل والأرمن والأكراد والعرب في آسيا كلها أصبحت
منذ زمن تتحرى طريق الانفصال من هذه الشجرة التي نخرها دود الفساد، فلو نظرنا
إلى كل من هذه العناصر نجد العنصر التركي أدناها (أدونها) إلا أن السبب الذي
ساعده على استبقاء نيره على عاتق هذه العناصر إلى اليوم إنما هي معونة العنصر
العربي له الذي هو في نفسه أكثر عددًا من جميع تلك العناصر وفي جملتها العنصر
التركي، وما وفق الترك إلى ضمان إخلاص العرب لهم وارتباطهم بهم على كونهم
يظلمونهم كسائر العناصر إلا باستنجادهم الديني لشعورهم الديني وجعل المصلحة
التركية عين المصلحة الإسلامية.
فالعرب اليوم قد شعروا بوجودهم وصاروا يأنفون أن يخدعوا بعد ذلك وأن
يحافظوا على سلاسل أسرهم وأغلال استعبادهم، فيكفي أن يمد العرب إمدادًا قليلاً
حتى تتهدم الدولة العثمانية من نفسها كما ينهدم القصر المبين من ورق اللعب) اهـ
فهذه كلمة وجيزة من أحد الكتب الكثيرة التي ألفها الأوربيون لإغراء أوربا بفصل
العرب من الترك وإسقاط هذه الدولة - لا سمح الله - وقد صدق في قوله: إن
العرب مخلصون لهذه الدولة ولإخوانهم الترك وإن سبب ذلك الإسلام. وكذب إيهامه
لقومه أننا تحولنا عن إخلاصنا، ولكن إذا بقيت جريدة عبيد الله تنفث سموم
التفريق والإفساد حتى أنست العرب ما كتبته (إقدام) وغيرها من قبل، ولم تتدارك
هذه الحكومة ذلك وسائر ما نصحنا لها بتداركه فلا يعلم إلا الله مصير الأمور، ونحن
قد نصحنا قومنا ونصحنا حكومتنا كما أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (الدين
النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.