للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من أحد علماء تونس
عمَّتْ بها البلوى
فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة، إذ لا يسع الناس عامة،
ونشترط على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) وله بعد ذلك أن
يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربما
قدمنا متأخرًا لسبب كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربما أجبنا غير مشترك لمثل
هذا، ولمن يمضي على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يُذكّر به مرة واحدة، فإن لم نذكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
***
بيع الدَّيْن بالنقد
والأوراق المالية
(س٢٧) هل يجوز بيع الدَّيْن إلى بعض البنوك أو غيرها بأحد النقدين أو
بالأوراق المالية؟ .
(ج) لا أعرف نصًّا في الكتاب أو السُّنة يمنع ذلك، وهو في القياس أشبه
بالحوالة منه ببيع النقد بالنقد، فإن المراد من هذه المعاملة أن يقتضي المشتري ذلك
الدَّين؛ لأنه أقدر على اقتضائه وليس فيه من معنى الربا من شيء، ولكن صورته
تشبه بعض صوره الخفية غير المحرمة في القرآن؛ ولذلك يشدد فيه الفقهاء ولمن
احتاج إلى ذلك أن يأخذ ما يأخذ من البنك أو غيره على أنه دَيْن يحوله بقيمته على
مدينه أو بأكثر منه، ويجعل الزيادة أجرة أو ما شاء، وههنا مسألة يجب التنبيه لها
وهي أن ما ورد في الشرع بشأن ما يصح من المعاملات المالية ونحوها، وما لا
يصح لا يراد به أن ذلك من حقوق الله على العبد كالعبادات وترك الفواحش، وإنما
المراد بذلك منع التظالم والتغابن بين الناس، فكل معاملة لا ظلم فيها جائزة، وما
كان فيها ظلم فهي حرام إلا أن تكون برضا المغبون، فمعنى صحة البيع ديانة أنه لا
ظلم فيه بنحو غبن أو غش وحكمه النفاذ، وعدم استقلال أحد المتبايعين بفسخه،
ومعنى بطلان البيع أن فيه ظلمًا لأحد المتبايعين وحكمه أن لا ينفذ إلا إذا رضي
المظلوم، فإذا أراد فسخه جاز له ذلك، مثال ذلك بيع حَمْل الحيوان نُهِيَ عنه؛ لأنه
غرر، فإذا اشتريت ما في بطن الفرس باختيارك ورضاك فولدتْه ميتًا، ولم ترجع
على البائع بالثمن بل سمحتَ به راضيًا مختارًا، ولو لموافقة العرف فإن الله تعالى لا
يعاتبه على أكله. هذا ما كنت أعتقده في مسائل المعاملات كما سبق القول في المنار،
ولم أكن رأيت فيه قولاً لأحد، وقد رأيت اليوم نحوه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى، ولا شك أن من يبيع دَيْنه لا يكون ظالمًا لأحد ولا آكلاً ماله بالباطل الذي ليس
له مقابل، وقد يكون تحريم ذلك عليه ظلمًا له؛ لأن الغالب في سبب مثل هذا البيع
عَجْز الدائن عن اقتضاء دَيْنه بنفسه أو توقُّفه على نفقة كثيرة وكلاهما ضار به، هذا
وإن الدين قد يكون ثمن عروض، والأمر فيه عند الفقهاء لا سيما إذا بيع بالأوراق
المالية أهون والله أعلم.
***
الأوراق المالية نقود
(س٢٨) هل تعتبر الأوراق المالية التي تحملها الدولة كالمسكوكات في
المعاملة نقدًا أو عَرَضًا أو شيئًا آخر غيرهما؟ .
(ج) الأوراق المالية المسماة (بنك نوت) هي من قبيل النقود المسكوكة،
وأكثرها تضمن بقيمتها المرقومة عليها ذهبًا فمن ملك ورقة من ورق البنك الأهلي
في مصر مثلاً كان كمن ملك مثل ما كُتِبَ على هذه الورقة ذهبًا؛ لأن الحكومة
ضامنة لها تأخذها في كل حين بتلك القيمة، كما يأخذها كل مَنْ يعتد بتلك الحكومة
من التجار وأصحاب المصارف (البنوك) وغيرهم، والفقهاء يَعدُّون هذا الورق
كوثيقة الدَّيْن.
***
المحلَّى بأحد النقدين يُعدُّ من العروض
(س٢٩) هل يوجد في الشريعة السمحة ترخيص للتجار في مسألة المُحلَّى
بأحد النقدين فيعتبر كسائر العروض لكثرة تداوله ورواجه وصيرورته قسمًا
كبيرًا من البضائع، وعسر العمل فيما تقرر في الفقه بشأنه مع مزاحمة الأجانب
(لنا في التجارة وانتزاح ثروتنا إذا أبيح لهم ذلك ولم يُبَح لنا؟) .
(ج) المُحلَّى بالذهب والفضة لا يُعدّ ذهبًا ولا فضة في الحقيقة ولا في
العرف فهو من العروض بالضرورة، وقد رخص بعض العلماء بيع الحلي بنقد من
جنسه مع التفاضل وهو أقرب إلى الربا من بيع المحلى. قال ابن القيم في كتاب
أعلام الموقعين ما نصه:
فصل
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعَرَايا [١] ، فإن ما حرم سدًّا
للذريعة أخفّ ممن حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحِلْية إن كانت
صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره
عُبادَة على معاوية فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز
كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحِلية النساء وما أبيح
من حِلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه
وإضاعة للصيغة، والشارع أحكم من أن يلزم الأُمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا
تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز
بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفى هذا من الحرج والعسر والمشقة ما
تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من
ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُرٍّ وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج
إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع، وقد جوّز الشارع بيع الرطب
بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة
إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلعة، فلو لم يجز بيعه
بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ننكر
تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهو بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في
الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ
النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: الدراهم
بالدراهم والدنانير بالدنانير وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي
الورِق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حَمْل المطلق على
المقيد كان ناهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي
الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض
صوره لا في كلها، وفي هذا تَوْفِيَة الأدلة حقها وليس فيها مخالفة لدليل بشيء
منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت في الصنعة المباحة من جنس الثياب
والسلع لا من جنس الأثمان؛ ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينه وبين
الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها
فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة فلا محذور في
بيعها بجنسها ولا يدخلها: إما أن تقضي وإما أن تُربي [٢] إلا كما يدخل في سائر
السلع إذا بيع بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس
ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّيْن وتضرروا بذلك غاية الضرر.
يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتخذون
الحلية، وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقْن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم
بالضرورة أنه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا
تباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفَتْخَة لا تساوي دينارًا ولم
يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد
رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.
يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحُلي إلا بغير
جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف.
يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدًّا
للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت
ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد
والطبيب والعامل من جملة النظر المحرّم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على
الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه
الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة أكثر من وزنها؛
لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة.
فهذا مَحْض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو
بالحيل والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصياغة
المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب التحيل يجوزون
بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في مقابل
الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة، وكيف تأتي
الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالاً بإباحة هذا
وتحريم ذاك، وهل هذا إلا عكس المعقول والفِطَر والمصلحة.
والذي يقتضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا
بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكست بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع
الخل بالزبيب ونحو ذلك، وحرموا بيع مُد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاءوا بربا
النسيئة وفتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعِينَة وتارة بالمحلِّل وتارة بالشرط المتقدم
المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون
والمتعاقدون، ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة
نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا ها
هنا كما في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يجعل وسيلة إلى ربا
الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع
التفاضل.
فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأبيحت تلك الذرائع
القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا، وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها
ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل
مفسدة وأصل كل بلية، وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله
التوفيق.
فإن قيل الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر
منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل الشارع ذلك
علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.
قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان، ويستحق
عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعه [٣]
فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يقضي إلى نقض ما
شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا
يبيع جنسًا بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل
ذلك، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف
الصياغة [٤] التي جوز لهم المعاوضة عليها معه.
يوضحه أن المعاوضة إذا جوزت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها
مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك.
يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه
واخسر صياغتك، ولا يقول له: لا تعمل هذه الصناعة واتركها، ولا يقول له:
تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل، ولم يقل قطّ لا تَبِعْه إلا بغير
جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه.
فإن قيل: فهَبْ أن هذا قد سُلِّم لكم في المصوغ فكيف يُسَلَّم لكم في الدراهم
والدنانير المطلوبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في مقابلة صياغة
الضرب. قيل: هذا سؤال وارد قوي وجوابه أن السكة لا تتقوَّم فيها الصياغة
للمصلحة العامة المقصودة منها، فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، فإن
كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن يكون معيارًا للناس لا يتَّجرون فيها
كما تقدم والسكة فيها غير مُقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت
المعاملة وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى
التقويم بغيرها؛ ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وإذا أخذ الرجل الدراهم
وردَّ نظيرها وليس المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافًا ويرد
خمسين ثقالاً بوزنها، ولا يأبى ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر
شيئًا، وهذا بخلاف المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا
درهمًا واحدًا، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا
يتعاملون بضرب الكفار. اهـ المراد منه.
***
الرخص للمسافر في
السكك الحديدية
(س٣٠) هل يجوز للمسافر في السكك الحديدية الجمع بين الظهر والعصر
وبين المغرب والعشاء إن سافر وقت الظهر أو وقت المغرب وهو يتحقق أنه لا
يصل إلا بعد خروج الوقت ولا سبيل له إلى الصلاة أثناء السفر أم لا بد من
الوقوف عند ما تقرر في الفقه في هاته المسألة.
(ج) للمسافر في هذه السكك من الرخص ما للمسافر في غيرها؛ لأن
الشارع لم يشترط في السفر الذي تباح فيه الرخص ما يخرج المسافر في هذه السكك
منه، على أن رخصة الجمع بين الصلاتين مما ورد الحديث الصحيح بإباحتها
للمقيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب
والعشاء في المدينة كما في صحيح مسلم وسنن الشافعي، وقد أَوَّل فقهاء المذاهب
ذلك ليوافق مذاهبهم، ولكن ابن عباس راوي الحديث قال في تعليل ذلك: (لئلا
يُحرج أُمته) فعلم أن ذلك رخصة مطلقة تؤتى عند الحاجة إليها.