للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]

لما وصل إلينا هذا النقد في بريد الشرق الأقصى كان أول ما خطر في بالنا
قبل أن نقرأه أنه يجب علينا إذا وجدناه كله أو جلَّه صحيحًا أن نشهد لصديقنا الناقد
بالتدقيق والتحقيق، وأنه بزَّ فيهما علماء مصر وغير مصر من البلاد الإسلامية
التي اطَّلع كثير من علمائها على كتاب (ذكرى المولد النبوي) ، فلم يروا فيه
بعض ما رآه هو من الخطأ، ثم قرأنا النقد، فرأينا أكثره خطأً محضًا، وأقله ما له
وجه أو شبهة، وها نحن أولاء نبين ذلك بما يحتمله المقام من التفصيل، مع اتقاء
ما يمل من التطويل.
***
(الموضع الأول)
تأليف الكتاب هل هو بدعة
قد غفل الناقد عما حررناه في المقدمة من كون البدعة في احتفال المولد إنما
هي مجموع ما يعمله الناس من خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو ...
إلخ ما ذكرنا في صفحة (ي) من المقدمة، وقد صرحنا فيها بأن قراءة قصة المولد
عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة النبوية، لا يُنكَر منها إلا جعْلها من
الشعائر الدينية الموهمة أنها مشروعة، أي بالتوقيت والاجتماع وغير ذلك. فغفل
عن ذلك وجعل هذا العمل العلمي المفرد عين ذلك المجموع المركب، ومن العجيب
أنه ادَّعى أننا ختمنا كل فصل من ذكرى المولد بما سماه (الصلاة البتراء) ، غافلاً
عن كون أهم فصوله - وهو فصل تبليغ الدعوة - لم يُختم بصلاة بتراء، ولا غير
بتراء، وكذلك فصل مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الهجرة، ومثلهما الخاتمة.
أما قولي في آخر تلك الصفحة: إنني كنت أتحامى كتابة قصة المولد لما
ذكرت من الأسباب الثلاثة - فهو حكاية عن رأيي في هذه المسألة في السنين
الخالية، وأما ما أنفذته إثْر ما كان من المذاكرة بيني وبين البكري فهو ما ترجَّح
عندي بعد ذلك وهو كتابة مصنف وجيز في خلاصة تاريخ المصطفى صلى الله
عليه وسلم وسيرته، وحقيقة دعوته، وكليات دينه وشريعته - يكون دعوة إلى
الإسلام، وردًّا لما فشا في قصص الموالد من الأباطيل والأوهام، وأن أنشره مع
بيان ما به تكون قراءته فريضة أو فضيلة محمودة، وما يكون بدعة مذمومة،
فتكون بذلك فوائد نشره مضاعَفة، وإني أعتقد أن هذا العمل واجب شرعًا، ولو
فصَّلت أدلتي على ذلك لما خفيت على أحد، ولكن لا حاجة إلى هذا التفصيل.
على أن آخر عبارة الناقد لهذا الموضع تفيد إجازة هذا التأليف ونشره في
المنار؛ إذ حصرت النقد في طبعه منفردًا، وختم فصوله بالصلاة البتراء، ويعني
بها ما تُرك فيها الصلاة على الآل؛ لأنه - فيما يظهر - ينكر ذلك، ويراه بدعة
محظورة، ويلتزم قرن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على الآل،
ولو فيما ينقله عن غيره كما يراه قراء نقده فيما نقله عن ذكرى المولد، وهذا من
التحريف في النقل، ولا يخفى حكمه. ونحن لا ننكر أن الصلاة على الآل تبعًا
للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلاة وكذا في خارجها،
ونحن نفعلها في التشهد من الصلوات دائمًا، وفي غيره أحيانًا، ولم يقم عندنا دليل
على التزامها ولم يصح عندنا نقل عن السلف من الصحابة وعلماء التابعين ولا أئمة
آل البيت بذلك، وإنما تلتزمها فرقة الشيعة، وقليل من غيرها، والتزامها أقرب
إلى البدعة من تركه؛ لأن الأصل في البدعة مخالفة ما كان عليه أهل الصدر الأول
بشرطه، وأما طبع الكتاب وحده فهو كطبعه في المنار، والناقد نفسه يقترح أن
يطبع مرة أخرى يُراعَى فيها ما رأى تنقيحه في نقده كما تقدم آنفًا.
* * *
(الموضع الثاني)
الفرق بين الامتياز وما به الاصطفاء
سألنا في الكتاب: كيف كان اصطفاء الله تعالى لتلك البطون من العرب،
وبِمَ امتازوا على غيرهم، حتى كانت أمتهم بهم أفضل الأمم، وأشد استعدادًا لذلك
الإصلاح الكامل العام، الذي جاء به صفوة البشر منهم عليه أفضل الصلاة والسلام؟
وأجبنا عن ذلك بما شهدت به التواريخ العامة من امتياز الأمة العربية على
سائر الأمم من بدء التاريخ إلى عصر الإصلاح الأعظم بالبعثة المحمدية، وبما
عُرف في تاريخ العرب أنفسهم من امتياز كنانة فيهم وامتياز قريش في بني كنانة،
وامتياز بني هاشم في قريش، فعلم بهذا أن اصطفاء كل بطن منهم كان بما امتاز به
من المزايا والصفات والأحوال التي كان عليها، وأن ذلك كان إعدادًا لهم لجعْل
صفوة الأصفياء في خير بطن منهم، ولقيامهم بدعوته، ونشرهم لهدايته، ولم
يتأمل الناقد ذلك؛ فوقع فيما وقع فيه، مما لم يخطر لغيره من الكُتَّاب وعلماء اللغة
عندنا ببال؛ إذ لم يفطن لكون ما به الامتياز هو سبب الاصطفاء أو نفس الاصطفاء.
* * *
(الموضع الثالث)
إنكار عطف واقتراح آخر
أنكر الناقد علينا في جملة (كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية والأنين من
ثقل الضرائب) من الصفحة الخامسة أن عطف الأنين على الأثرة غير صحيح أو
غير واضح، واختار حذفه أو وضع فعل الأنين المضارع موضع المصدر، قال:
ليصح العطف أو ليكون أوضح، ونقول إن لإنكاره دون اقتراحه وجهًا وجيهًا،
ولكنه لم يبينه، وهو أن الباء في قولنا (بالأثرة) للسببية أو للآلة، وكل من الأثرة
والأنانية سبب للرهق الذي أُرِهقته تلك الأمم أو آلة له، وأما الأنين فهو أثر السبب
أو الآلة وليس منه، والوجه أن يقال (تأن) بغير عطف.
* * *
(الموضع الرابع - أما جوابها)
بيَّنَّا وجوه اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم على غيرهم من العرب بأسلوب
أما وأما، فأنكر الناقد ذلك في كنانة بجعله هنا خلاف الأولى، زاعمًا أن الأولى
حذف (أما وجوابها) ، وبدء الكلام هكذا: اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت
تحفظه العرب ... إلخ، ولم يبين وجه هذه الأولوية، فندعها إلى القراء يحكمون
فيها بعلمهم وذوقهم.
* * *
(الموضع الخامس)
ندوة قريش ورايتها " العقاب "
زعم الناقد أننا في هامش الصفحة الثامنة فسَّرنا الندوة بالشورى،
وخصصناها بإجالة الرأي للائتمار بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، وأن
المعروف ما ذكرناه عنها في صلب الكتاب، وقد فهم ذلك من قولنا: (التي اجتمعوا
فيها بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وسلم) وبديهي أن وصفها بذلك لا يدل
على ما فهمه من التخصيص، وإنما تلك غفلة ظاهرة منه.
وأما إنكاره قولنا: إن العقاب راية قريش، وقوله: إن المعروف أنها راية
النبي صلى الله عليه وسلم كما في القاموس، فما كان له أن يرسله بدون مراجعة
لكتب التاريخ والحديث؛ إذ كلمة القاموس وحدها لا تكفي للفصل في مثل هذه
المسألة، وهو يعلم أن ما في القاموس مشهور لا يعرف عامة الناس غيره لذكره في
السيرة النبوية، وأشعار الشعراء كقول صاحب الهمزية:
فغدا ناظرًا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء
فكان ينبغي له - والأمر ما ذكرنا - أن يقول: إن مجيء هذه العبارة من
صاحب المنار على خلاف المشهور لا بد له من أصل، ثم يراجع لعله يقف على
هذا الأصل، ويحكم فيه حكمه.
أشهر معاني العُقاب (بضم العين) أنه طائر من الجوارح التي تصيد، (ومنها)
الحرب نقله في اللسان عن كراع، (ومنها) العَلم الضخم نقله الجمهور، قال في
اللسان: والعقاب الذي يعقد للولاة شُبِّهَ بالعقاب الطائر وهي مؤنثة أيضًا. ونقل
صاحب العقد الفريد في كتاب النسب عن ابن المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي
أن الذين انتهى إليهم الشرف من قريش - فوصلهم بالإسلام - عشرة رهط من
عشرة أبطن، كان لكل منهم منصب ومكرمة من المكارم التي كانت لقريش -
وهي التي ذكرناها في الصفحة ٨ - قال: فكان من هاشم العباس بن عبد المطلب
يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، ومن بني أمية أبو سفيان
بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند أحد أخرجها إذا حميت
الحرب فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإذا لم يجتمعوا على أحد
رَأَّسُوا صاحبَها، فَقَدَّمُوهُ. اهـ المراد منه.
ويؤخذ من كلام علماء التاريخ والعاديات أن طائر العقاب شعار قديم للعرب
وقد عبر بعضهم عنه بالصقر، وإنما الصقر في اللغة: اسم لكل ما يصيد من
جوارح الطير، فالظاهر أن قريشًا سمت راية الحرب الكبرى بالعقاب من ذلك،
وأما كون رايته صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب فلم يثبت في حديث صحيح،
ويحتمل أن يكون سبب هذا القول أن بعضهم أطلق هذا اللفظ على رايته الكبرى
بمعناه اللغوي العام، الذي هو العلم الضخم، ففهم آخرون من الإطلاق أن العقاب
اسم علم لها. وقد لخص الحافظ ابن حجر في شرح: (باب ما قيل في لواء النبي
صلى الله عليه وسلم) - من صحيح البخاري ما ورد في كتب السنة في ذلك،
وحكى هذا القول بصيغة التمريض والتضعيف، وقد رأينا أن نذكر عبارته برمتها؛
لأنها فصل الخطاب في مسألة هذا الباب، قال:
اللواء بكسر اللام والمد هي الراية ويسمى أيضًا العلم وكان الأصل أن يمسكها
رئيس الجيش ثم صارت تُحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير
الراية، فاللواء ما يُعقد في طرف الرمح، ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك
حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم
علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح
الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض. ثم ترجم للرايات، وأورد حديث البراء أن راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة، وحديث ابن عباس
كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض أخرجه الترمذي وابن ماجه وأخرج الحديث أبو
داود والنسائي أيضًا ومثله لابن عدي من حديث أبي هريرة ولأبي يعلى من
حديث بريدة، وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم:
رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينها باختلاف الأوقات.
وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: (إن الله أكرم أمتي بالألوية) ، وإسناده ضعيف،
ولأبي الشيخ من حديث ابن عباس: (كان مكتوبًا على رايته لا إله إلا الله،
محمد رسول الله) وسنده واهٍ. وقيل كانت له راية تسمى العُقاب سوداء مربعة،
وراية تسمى الراية البيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود اهـ.
* * *
(الموضع السادس)
توجيه قوى قريش لمعاداته صلى الله عليه وسلم
أنكر الناقد قولنا - في الصفحة التاسعة: إن قُوى قريش المعنوية وُجهت
كلها لمعاداته صلى الله عليه وسلم - بأنها مُشعرة بغاية الهجو وموهمة أن جميع قريش
وجهوا جميع قواهم لمقاومته صلى الله عليه وسلم، وبأن هذا مخالف للسياق
وللواقع، ثم نَوَّهَ بفضل قريش بما نَوَّهَ به.
ونقول في الجواب:
(أولاً) إن ما يتضمنه الكلام من هجو فهو خاص بجاهلية قريش التي ذمها
الله ورسوله والمؤمنون، فقد فعلوا ما فعلوا وهم مشركون، وما زال أكثرهم
مشركين أكثر مدة البعثة، وما صاروا يدخلون في الإسلام أفواجًا إلا بعد فتح مكة،
ويأس مَن بقي من زعمائهم بعد الحرب من الرياسة، وأي جرم أجدر بالذم والهجو
مما فعله من إيذاء الله ورسوله وفتنة المؤمنين وإخراجهم من ديارهم، وقتالهم في
دار هجرتهم، وذلك لا يقتضي ذم المؤمنين منهم ولو بعد الإيذاء، فقد كان خالد بن
الوليد أشد كُماتهم نكايةً في قتال المسلمين، ثم صار أشدهم نكايةً وبلاءً في قتال
أعدائهم الكافرين.
و (ثانيًا) إن ما كان من كفر أكثرهم وإيذائهم لا ينافي ما ذكرنا من استعداد
جمهورهم للإسلام بما ذكرنا من مزاياهم؛ فإن سبب الكفر والإيذاء كبرياء الرؤساء
المعروفين وحيلولتهم بين الرسول وبين الجمهور وتقليد الدهْماء واتباعهم لهم؛
ولذلك كان صلح الحديبية فتحًا مبينًا بظهور ذلك الاستعداد فيهم، وفي غيرهم من
العرب عندما صاروا يجتمعون بالمسلمين، ويسمعون منهم القرآن وصفة الإسلام،
كما بينا ذلك في ص ٣٩ و٤٠ من ذكرى المولد، ومن الدلائل على هذا حديث
جابر مرفوعًا عند أحمد ومسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) ، وحديث
أبي هريرة مرفوعًا عند البخاري: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا
فَقِهُوا) .
و (ثالثًا) إن العبارة لا تدل بطريق الحقيقة ولا المجاز ولا الكناية على أن
جميع أفراد قريش وجهوا جميع قواهم لمعاداته صلى الله عليه وسلم، وإنما هي
صريحة في توجيه قوى القوم المعنوية التي هي جاههم ومكانتهم الدينية والأدبية في
العرب إلى مقاومته صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون هذه القوى للهيئة الاجتماعية
والجمهور الأعظم الذي يمثله الزعماء، وهذا هو الذي حصل، فلا مجال فيه
للجدال والمراء، ولم يكن الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم من قريش قبل
الهجرة بقادرين على حماية الدعوة، ولا حماية الرسول ولا ضعفاء المؤمنين من
الأذى والفتنة، بل كان أكثرهم محتاجًا إلى مَن يحميه ويجيره من جمهور قريش
أصحاب الجاه والثروة والعظمة.
وقد أراد الناقد أن يكثر عدد السابقين الأولين من قريش إلى الإسلام، ونصر
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فجعلهم ثلاثة أزواج: (١) السابقون إلى
الإسلام مع إخفائه ومثَّل له بأبي طالب، وقد ثبت في حديث الصحيحين أن أبا
طالب مات على شركه، وأنه أدنى أهل النار عذابًا لدفاعه عن الرسول صلى الله
عليه وسلم وحياطته له وإن كان بباعث القرابة والعصبية، و (٢) السابقون
المتحملون لمشاق التعذيب ومثَّل له بآل ياسر وليسوا من قريش، وإنما هم عنسيون
من اليمن، ولم يذكِّرْه ذكرُهم بما كانوا يقاسونه من تعذيب قريش لهم، وعجز جميع
المؤمنين عن إغاثتهم والدفع عنهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمرّ
بهم، فيقول: (صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة) ، و (٣) السابقون القائمون
بنصرته ونشر دعوته، (قال) : كحمزة وعلي وخديجة وأبي بكر وغيرهم،
وتمثيله بذكر هؤلاء صحيح، ولكنهم كانوا عددًا قليلاً، لم يقدروا على حماية أنفسهم
وحماية الدعوة، بل أخرجهم جمهور قريش القوي مع الرسول صلى الله عليه وسلم
وسائر المؤمنين من ديارهم بغير حق، كما شهد الله تعالى في سورة الأنفال والحج
والممتحنة.
وما ذكره من فضائل قريش في نقده لهذه العبارة من حق وباطل - هو دون ما
ذكرناه نحن في هذه الرسالة بحق، ولا نناقشه إلا في قوله: إن الإسلام ما اعتز
ودخل في طور القوة والمنعة إلا بعد إسلام مَن تأخر منهم، ففيه نظر، بل هو غلط؛
فإن الإسلام قد اعتز وقوي بدخول الأنصار فيه، وإن كان فضل السابقين الأولين
من المهاجرين على الأنصار معروفًا لا يُنكر؛ في كونهم الأساس الأول والركن
الأعظم، ولكن أخانا الناقد الفاضل أحد أفراد عصبية جديدة ذات نزعة عصبية
للعلويين من قريش، وبهذه النزعة استصغر ما استكبره واستعظمه جماهير
المطَّلعين على ذكرى المولد النبوي من فضائل قريش عامة، والعلويين منهم خاصة
بحق، ولنا في هذه العصبية كلام نقوله بعد.
ثم إننا نبرأ إلى الله مما نقله عن الزمزمي في همزيته، وهو زعمه أن قريشًا
لم تبطئ بالإيمان بغضًا وجفاءً، بل امتنعوا من تولّي الرسول صلى الله عليه وسلم؛
لئلا يشك فيه مَن يرى نصر القرباء له، بل أخّروا ذلك إلى أن تولى الله نصر
دينه، فلما كان ذلك دخلوا فيه، وصاروا رؤساء له، فهذا الزعم مخالف لما عُلم
بالضرورة من الكتاب والسنة وكتب السيرة النبوية كلها، فالظاهر منه أن الناظم
يريد أن السواد الأعظم من قريش آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم باطنًا، وكتموا
إسلامهم لعلمهم أن الله سينصر رسوله، ويعز دينه بغير سبب، ولا أحد من
المؤمنين من غيرهم، (إذ الظاهر أن هذا الرجل وأمثاله ينكرون فضل الأنصار
الثابت بشهادة الله ورسوله لهم بالإيواء والنصر أو يصغرونه أو يخفونه) ، فأحبوا
أن لا يكون إظهارهم للإسلام شبهة على نصره بالخوارق فأخروه لذلك؟ ! وماذا
يقول في الإيذاء والفتنة قبل الهجرة وفي سيرهم من مكة إلى المدينة لأجل قتال
النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعدها؟ ! .
هذا، وإننا ننوي تنقيح عبارات من كتاب (ذكرى المولد النبوي) عند إعادة
طبعه، منها الإشارة في هذه العبارة التي نرد نقد الناقد لها، نريد أن نحذفها،
ونقول: (ولكن قواها (أو قوى قريش) كلها وُجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة
والسلام) بدل: (ولكن هذه القوى كلها) ؛ فإن هذه الإشارة وقعت بعد كلام ليس
مرادًا منها، والناقد لم يلمح ذلك.
* * *
(الموضع السابع)
بُعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة
قلنا في الصفحة العاشرة في بيان فذلكة ما امتاز به بنو هاشم آل الرسول
صلى الله عليه وسلم على سائر قومه من قريش: إن جملة ذلك الأخلاق العلية،
والفواضل العملية، والفضائل النفسية، والبُعد عن الأثرة والأمور الحربية؛ ولذلك
غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام.. فرد علينا الناقد بقوله: لعل ثبوت بعد الآل
عن الأمور الحربية والرياسة لا يصح قبل الإسلام ولا بعده، واستدل على الأول
بما كان من المناصب الحربية لقريش قبل الإسلام، وبما ذكرنا من امتياز كنانة
ومالك وقصي في العرب، وعلى الثاني بحمل الآل لألوية القتال وقيادة الجيوش في
بدر وأحد وخيبر وحنين ... إلخ.
وأقول في الجواب: إنني أجلّ الناقد الفاضل عن أن يكون سوء الفهم هو
الحامل له على هذا النقد، كما يتبادر إلى كل مَن قرأه، وقرأ الأصل، وأكاد أجزم
بأن سببه نزعة العصبية التي أشرت إليها آنفًا، فهي التي ألقت إلى وهمه أن
العبارة تدل بجملتها على عدم استعداد آل البيت النبوي عليهم السلام للرياسة والملك،
وما يلزمهما من أمور الحرب، فأراد أن يرد على ذلك، فغفل عن أصل العبارة
وعن معنى الآل، وأخذ يستدل على أصالتهم في الأمور الحربية وعنايتهم بأمرها،
بما كان لغيرهم من قريش من مناصبها، وبما كان من الرياسة والملك لبعض
أصول قريش وأجدادهم كمالك بن النضر وكنانة! ولم يكن لبني هاشم من تلك
المناصب والرياسات التي ذكرها شيء، إنما كانت لهم سقاية الحاج فحسب، وكان
يتولاها العباس، الذي لا يعده الناقد ولا ذريته من الآل، أعني الذين وردت
الأحاديث في فضلهم وتحريم الصدقة عليهم، فأما الندوة واللواء فكانت لبني عبد
الدار، وقيل: إن الندوة والمشورة كانت لبني أسد، وأما السفارة فكانت في بني
عدي وتولاها قبل الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفسير هذه المناصب
يُعلم من هامش ص ١٠ من ذكرى المولد.
ثم إنه غفل عن جعْلنا امتياز بني هاشم بالأخلاق والفضائل دون الحرب،
وحب الأثرة والكبر - علة لغلبة غيرهم إياهم على الرياسة الدنيوية، حتى بعد
الإسلام، ولم يفهم نكتة هذه الغاية (حتى بعد الإسلام) ، والمراد منها ظاهر، وهو
أن الإسلام زاد في امتيازهم وتفضيلهم، فكان مقتضى ذلك أن يقدَّموا على غيرهم،
في كل ما يساوون غيرهم في الاستعداد له، ونبهنا إلى حكمة ذلك. وهذا الغلب
يصدق ولو لم يكن إلا لبني أمية؛ إذ العبارة لا تدل على أنهم يغلبون في كل زمان
وكل مكان، على أنهم غلبوا في أكثر الأزمنة والأمكنة، هذا هو الواقع الذي لا
مراء فيه.
على أنني أطلقت ضمير (الآل) في قولي (غلبوا) ، ولم يكن لأحد منهم
صورة في ذهني إلا العلويين، وما كان من زهد أئمتهم في الدنيا ورياستها، وما
قابل ذلك من أثرة غيرهم وتكالبهم عليها. وظلمهم إياهم؛ لتعلُّق القلوب بهم،
فأطلقت العام، وأنا أريد منه الخاص، والعبارة صادقة في كل حال، لا تنقضها
خلافة العباسيين من الهاشميين، الذين لا يعدهم الناقد من آل الرسول.
ثم إن نفينا لجعْل العناية بأمور الحرب من مزايا بني هاشم - التي فضلوا بها
سائر قريش - لا يقتضي أن يكونوا جبناء، يفرون منها، أو بُلداء لا يحسنون
التصرف فيها، إذا هم اضطروا إليها، فالحرب في نفسها شر، لا يبيحه إلا جعله
دافعًا لمفسدة هي شر منه، وإقامة مصلحة تصغر في جانبها هذه المفسدة، كما يعلم
من أول ما نزل في الإذن للمؤمنين في القتال، وذلك بقوله تعالى - في سورة الحج
-:] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [ (الحج:٣٩-٤١) .
فبنو هاشم لم يكونوا يحبون الحرب للرياسة والكسب، كغيرهم من العرب
وغير العرب، ولم يوقدوا لذلك نار حرب قط، وقد كانت حرب الرسول صلى الله
عليه وسلم كلها دفاعًا عن الحق وأهله، وتأمينًا لحرية الدين ودعوته، ولكنه كان
أشجع الناس وأثبتهم في مواقف القتال، ويليه صلى الله عليه وسلم في ذلك عمه
حمزة وابن عمه علي المرتضى (رضي الله عنهما) ، والشجعان من بني هاشم لا
يحصون عددًا، ولكن الشجاعة شيء وحب الحرب للرياسة شيء آخر، وفي كلامه
هنا مآخذ أخرى سيعلم بعضها من الرد على بعض المواضع الآتية، على أنه لا
غرض لنا في مناقشته في كل ما أخطأ فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))