جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع تجليةً تامةً - بحول الله وقوته - مع ردنا عليه: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الشيح حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد اطلعنا على ما نشر في العدد الأخير من المنار تحت عنوان نقد المنار، ردًّا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك على الكتابة إليكم في شيء من الصراحة. لما اطلعت على عدد المنار الذي بدأتم بإصداره وبادرنا إلى تصفحه، حاك في نفسي ما جاء في رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين (الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلي أخطأت الفهم أنا أيضًا، إلا أنكم في ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما وجهادهما، وكان من العجب في رأينا ما ذكرتم في العدد الأخير من خطأ المجلتين فيما ذهبتا إليه. وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كتابهما ظننا أن حكمك بخطأ المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما، فقد أجهدنا أنفسنا في مطالعة المجلتين فلم نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل الاستواء إلى الاستيلاء وحده. فلعلكم تأثرتم في حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون المنار بعيدًا عنه. ولذلك نرى - إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها - أن ترجعوا إلى كلام المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما يشاع عنهما بين العامة والدهماء. وملاحظة أخرى في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها، وهي ما نسبتموه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في باب التفسير، ذلك الكلام العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله تعالى عنه، ففي أي ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة وغيره، تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟ وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون - إلى حين - مستترًا والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدي النبوي اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله. الجواب هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة: أولها - أننا في المقال الأول لم نقُل بخطأ المجلتين.. إلخ، ونحن نعتقد أن هذا المعنى إن لم يصدر في كلامنا تصريحًا فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن نؤْثِر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم، في عصر أغفل الكاتبون فيه هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا في المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال الأول - إن كان ثمة إبهام - فلا نطيل القول في أمر قد وضح، والحمد لله. وثانيها - أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما ... إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما، فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء ببيان ما فهم هو من كلام كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة، وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب، وللرد عليه إن كان فيه ما يستحق الرد، وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون هذا آخر ما نكتب في هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه في بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في هذا المعنى كفاية. وثالثها - استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في باب التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه وعفا عنا وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر، ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج والاستدلال، وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام - كرم الله وجهه، وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا الكتاب موضع خلاف بين الأدباء، وهذه الثالثة. لو أن حضرته التفت إلى هذه النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له. رابعها - يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصومُ المنار وصاحبه - عليه رحمة الله -، يا سبحان الله! إن الزمن - يا أخي - يدور، والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل السيف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس حماسةً في مناصرتها وتفانيًا في محبته صلى الله عليه وسلم، وسبحان مَن أعز الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا تجعلني أقول لك أكثر من هذا، ففي مكان القول متسع؛ ولكن ما كل ما يُعرف يُقال، وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يُعرف بالرجال، فهَبْهم لا زالوا في خصومتهم أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول مَن يناصرهم فيه؟ إنني أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوِّي صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله، فاصبر إن وعد الله حق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا