تقريظه ونقده لأمير البيان، وبديع هذا الزمان الأمير شكيب أرسلان
تلقيت الجزء الأول الذي ظهر أخيرًا من تاريخ أستاذنا الإمام الحجة، آية الله الباهرة الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه، تلقيته والأشغال إلى ما فوق رأسي، والأفكار مشتتة، والخواطر مقسمة، والوقت أضيق من حلقة الميم، فلم أتمكن من مطالعته كله، ولا من إحالة قداح النظر في جميع نواحيه، فاكتفيت بقراءة بعض فصوله، وبالتأمل في فهرس موضوعاته، والمكتوب كما يقال يُعرف من عنوانه، فلا شك عندي مما رأيت منه في أن هذا التاريخ هو واسطة عقد التواريخ في هذا العصر. قيل: إن الأستاذ ابن العميد سأل الصاحب بن عباد قائلاً له: كيف رأيت بغداد؟ فأجابه الصاحب: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد. وأنا أقول: تاريخ الأستاذ الإمام في الكتب كالأستاذ الإمام في الرجال، كيف لا ومحرره حجة الإسلام البالغة في هذا العصر، وإحدى حججه الباقية على الدهر، الذي كان أعظم من أظهر فضل الأستاذ الإمام ونشر تصانيفه، وكان منه بمنزلة أبي يوسف من أبي حنيفة، السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، وخالد الآثار، فسح الله في أجله، وكافأه أحسن ما يكافئ عبدًا على عمله، فمن بعد أن نعرف أن هذا السفر الجليل هو من قلم هذا الحبر الحلاحل، ومن فيض هذا البحر الذي ليس له ساحل، أصبح التفنن في وصفه من قبيل تحصيل الحاصل، والبديهيات التي لا تحتاج إلى الدلائل. دعنا من متانة عبارة هذا الكتاب وعلو إنشائه، وانتشار المنطق السديد على جميع قضاياه وامتزاج الذوق السليم بجميع أنحائه؛ فإن فيه من الفوائد التاريخية ما لا يوجد في كتاب آخر، وما لا يتم التاريخ العام إلا به، بل وما كتب السير والحوادث تبقى في مستقبل الأيام عيالاً عليه. نعم إن ترجمة السيد جمال الدين الأفغاني قد سبق إليها الكثيرون، وذهب كل كاتب فيها مذهبًا، وكان محرر هذه الأسطر ممن طرز بها كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وأتى فيها بمعلومات لم تسبق لغيره، إلا أنه لا يوجد كتاب حوى من أخبار جمال الدين رحمه الله ما حواه هذا الكتاب، ولا وفى بما وفى به، بحيث لا تطلب فيه مطلبًا ذا شأن عن حياة حكيم الشرق وموقظه الأعظم - رحمه الله - إلا رأيته بين دفتيه، ففي تاريخ الشيخ محمد عبده أوفى تاريخ لجمال الدين أيضًا. وأما تاريخ الشيخ محمد عبده فمن البديهي أنه سيكون هذا الكتاب هو الأول، والآخر في الإحاطة بهذا الموضوع لأن السيد رشيدًا - وهو الذي أشعة نظره في العلوم، كأشعة رونتجن في الجسوم - قد وقف جانبًا من حياته على تصنيف هذا الكتاب، وكان أعرف الناس بأحوال الإمام وألزمهم له، وأحفظهم لأقواله، وأدراهم بمقاصده، ومن قال إنه خليفته في الأرض، ونسخة عنه طبق الأصل، لا يخطئ، فمن العبث أن ننشد للشيخ محمد عبده تاريخًا من بعد هذا التاريخ. والأستاذ صاحب المنار - كما يعلم كل من عرفه - سالك طريق المحدِّثين في التدقيق والتمحيص، فلا يبلغ أحد من التحري والتثبت ما يبلغه، بما غلب عليه من خُلُق علماء الأثر؛ فلذلك لا يمكن أن ينطوي هذا الكتاب من الأخبار إلا على ما قتله صاحب المنار علمًا، ولم يدع فيه للشك سهمًا، فالذي يطالع ما فيه من الروايات ويكون ممن يعلم مذهب صاحب المنار في التحري، لا يقدح في خاطره عارض من شك في أن الحادث المروي إنما حدث على ذلك الوجه، يُستثنَى من ذلك هنات هينات لا يَعبأ بها. لحظت منها ظنه أن مدير المدرسة السلطانية في بيروت يوم كان الأستاذ الإمام يدرس فيها هو المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد عباس، والحال أن المدير الذي كان يومئذ هو المرحوم خلقي أفندي الدمشقي وهو الذي أشار إلى صرفه بغيره السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله في الفصل الممتع الذي كتبه عن مقام شيخنا في بيروت. وما عدا ملاحظة أو اثنتين مما ليس بذي طائل لم أجد فيما طالعته من هذا التاريخ رواية لم أقل فيها: هذه أصح الروايات وسندها أوثق الأسانيد، ولقد يوردها المؤلف بطرق مختلفة ويمحصها من جملة وجوه، ويعرضها على محك القياس، ولا يزال ينخلها إلى أن تبلغ برد اليقين، وأقصى درجات التحقيق المستطاعة للمؤرخين، وإنه ليبلغ به حب التدقيق أنه يروي عن أستاذه ما قد ينتقده، وما يورد فيه أقوالاً أقوى من أقوال الأستاذ الإمام، فالسيد رشيد في جميع كتاباته ليس عنده أحد فوق الغربال كما يقال، وكأنه ينظر أبدًا إلى قول مالك رضي الله عنه: (ليس منكم إلا مَن رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) يشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. هذا وإنك لن تجد تاريخ الثورة العرابية في كتاب بالبيان الوافي الواضح المستوفي لشروط النقل والعقل، وتعليل الحوادث بأسبابها، وردَّها إلى أصولها، كما تجده في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام. وفي هذا التاريخ أيضًا تواريخ أخرى لا توجد إلا فيه، ولن تكتب بقسط التحقيق الذي كتبت به، هذا وذلك لمكان صاحب المنار من القرب في الزمان والمكان، إلى الحوادث المؤرخة وإلى الأستاذ الإمام، الذي كان يومئذ قطب الرحى، وهي مثل تاريخ نهضة مصر، وتاريخ الأزهر، وتاريخ نهضة الإسلام الحديثة، ويقظة الشرق الحاضر، وكله مرتبط بعضه ببعض، ومتسلسل تسلسلاً مطردًا بطبيعة الأشياء، وكيفما جُلتَ في نواحيه وجدتَ عاملين كبيرين هما، جمال الدين ومحمد عبده رحمهما الله، وأنا أقول: إن الله عززهما بثالث هو صاحب المنار! حفظه الله. ولا تنس تاريخ سمو الخديو السابق وما فيه من الغرائب والعجائب، وما يتخلل حوادثه من النوادر، التي مع صحتها ونخلها بمنخل التدقيق لم تخسر شيئًا من فكاهتها، فلم يزدها التحري إلا رونقًا. مثال ذك سرور المشار إليه بوفاة الأستاذ الإمام رحمه الله واستياؤه من حزن الأمة عليه، وعدَّه ذلك تقريبًا من ذنوب الأستاذ، ولم يغفل صاحب المنار في جانب هذه الأخبار، التنويه ببعض حسنات وأشباه حسنات أذنت بها الأقدار الإلهية على يد سمو الأمير، فكان مذهبه هنا أيضًا مذهب علماء الحديث، فما تحامل ولا دلَّس، ولا زاد ولا نقص، ولو علم أمراء الإسلام أن جميع مؤرخيهم هم كالسيد رشيد رضا يحصون عليهم ما حسن وما قبح لاعتدلوا، وعلموا أن قبل حساب الآخرة حسابًا في الدنيا؛ ولكن أضر بأمراء الإسلام وبالإسلام تدليس المؤرخين، وتزيين المتزلفين، وأكبر الإثم على أولئك الفقهاء الذين انتظر منهم الشارع أن يقوِّموا الأمراء وينهوهم عن المنكر، وبحثوا في وجوه شهواتهم ما كثف من تراب الزجر، فكانوا المعاوين على أهوائهم، المفتين لهم بما يزيد في إغوائهم. وليس مرادي هنا تخصيص الخديو السابق الذي قد يكون أحسن من غيره؛ وإنما أريد أمراء المسلمين جميعًا إلى من رحم ربك. والله يعلم أني جادلت الخديو السابق في أمر الشيخ محمد عبده ولم أحابه ولم أكتم عنه أنه كان متحاملاً عليه، ودافعت عن الشيخ عبد العزيز جاويش أمام الخديو وهو في قصره برأس التين، وذلك عندما كانوا آتين بالشيخ جاويش من الآستانة إلى الإسكندرية بتهمة المؤامرة على الخديو، ولم أكن لذلك العهد أعرف الشيخ جاويش؛ ولكني كنت أعرف أن هناك نية للانتقام منه رحمه الله، فانتدبت نفسي للدفاع عنه، ثم دافعت عنه مرارًا بعد ذلك أمام الخديو السابق ولم أقبل في حقه كلمة واحدة من سموه. ثم إن في هذا الكتاب من الأخبار السياسية والروايات المأثورة عن أعاظم الرجال ما يجتمع منه مؤلَّف مستقل برأسه، كما أن فيه من الفوائد الشرعية، ومن الحلول الوجيهة للإشكالات الحديثة والمسائل العصرية، ما لا يتأتى في مجموع آخر، وكيف لا يكون ذلك وصاحب المنار هو فارس هذه الحلبة الذي لا يجاريه مجار، وإمام هذا المحراب الذي يصلي وراءه الكبار والصغار. ولم يختلف نظري عن نظره في هذا الكتاب إلا في أمر الأستاذ المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان، فإن السيد رشيدًا - فيما يظهر - لا يراه في الرجال المعدودين، أو كما قال له شيخنا: إنه ناقم منك أنك لا تعتقد بعلمه، هكذا رواها لي السيد رشيد نفسه، وكيف كان الحال فمكان الشيخ عبد الكريم لم يكن في هذا الكتاب بالمكان الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، ولست أحمل هذا من صاحب المنار على ضغن مع علمي منه ومن الشيخ عبد الكريم نفسه بأن المودة لم تكن بينهما في صفاء البلور؛ ولكني أحمله على ما قاله الأستاذ الإمام من أن السيد رشيدًا لم يكن يعتقد بسعة علم الأستاذ الشيخ عبد الكريم، ولولا هذا لوفر له حقه غير منقوص؛ لأن صاحب المنار - مع ما فيه من الحفيظة - منصف مقسط لا يبخس الناس أشياءهم، وأما أنا فكنت أعتقد بكثير من علم الشيخ عبد الكريم وأدبه وسلاسة طبعه وحسن إنشائه، والأستاذ السيد رشيد يقول: إن الشيخ عبد الكريم كان لا يحب السوريين إجمالاً؛ وإنما كان يستثنيني أنا من بينهم لفكاهتي، وعبارة السيد هي هذه: (ثم سبب آخر هو كراهته للسوريين، ولا أستثني منهم إلا الأمير شكيب أرسلان فإنه حل من نفسه محلاًّ كريمًا عندما زار مصر؛ لفكاهته الأدبية ونوادره اللطيفة، على مكانته من حب الأستاذ الإمام وتكريمه إياه، وللدعابة موقع من نفسه معروف، يعلو بها عنده صاحب المفاكهة وحاضر النادرة ... إلخ) فإذا قرأ الإنسان هذه الفقرة ورأى ما تكرر فيها من وصفي بالفكاهة والمفاكهة وسرعة البادرة عند النادرة، تخيل أني أبو نواس عصري، وأني لم أنل من الشيخ موقعًا كريمًا إلا بمحبة الأستاذ الإمام لي ومحبتي أنا للفكاهة، وحاشا للشيخ عبد الكريم الذي كان للجد عنده نصيب وافر، والذي ما كان يميل أحيانًا للدعابة إلا لتكون له أعون على الصواب إذا أخذ في معالي الأمور، على نمط من قال: إني لأجم نفسي بشيء من الباطل ليكون أعون لي على الحق. أقول: حاشا للشيخ عبد الكريم أن يكون كرم مقامي عنده ناشئًا عن حرارة نكاتي مهما كانت رغبته في هذا الشأن؛ وإنما أقول: إن سر المحبة كامن في أعماق الصدور وأحناء القلوب، وإن الأعمال تزيد منها وتنقص، وقد تذهب بها بتاتًا، كما قد تزيدها أضعافًا، ثم إني أشهد للشيخ عبد الكريم أنه لم يكن على شيء من الشنآن للسيد رشيد، وأنه كان يشهد بفضله، وأنه قال لي مرة: قد أصفيت له المودة بعد وفاة الشيخ. وفي هذا التاريخ فصل من قلمي عن أيام الشيخ في بيروت، وليس ذلك بكل ما كتبته عنه؛ وإنما أخر السيد بقية كلامي إلى الجزء القادم لتعلقها بما ارتسم في خاطري من أيامه بمصر، وقد روى لي السيد في هذا الجزء أشعارًا كنت نسيتها فنشرها لي بعد الخفاء، وأبرزها بعد العفاء، ووعد بنشر الأكثر من مثلها في الجزء القادم، فأنا لا أحصي عليه ثناء من أجل هذا اللطف، وإلحاقه بعض أشعاري بهذا الكتاب عملاً بواو العطف، لا سيما أنه لم يبق عندي ولا نسخة واحدة من ذلك الديوان الذي أسميته (الباكورة) والذي أخرجته إذ كنت لم أتجاوز السابعة عشرة من العمر. وأما عدد صفحات هذا الجزء فتربي على ألف ومائة صفحة يمتلئ دماغ القارئ مما تضمنته من معالي الأمور، وسياسة الجمهور، وتراجم الصدور، ونخب الفوائد التي تمخضت بها العصور، وليس هذا بالجزء الوحيد في موضوع حياة الأستاذ الإمام فقد تقدمه غيره وسيتلوه سواه، وكله بذلك القلم الذي دانت له أقاليم الأقلام، وخضعت ممالك الكلام، أي قلم صاحب المنار الشهير ناشر علم الأستاذ الإمام، ومخلد مآثره على الأيام، فمن يقدر أن ينشر من مآثره ألوفًا من الصحائف غير صاحب المنار؟ لا جرم أنه كان أبرنا به، وأقدرنا على القيام بالواجب نحوه، وأحرى تلاميذه بنشر آرائه في العوالم، وبأن يكون بعده مرشدًا يضيء النهج والليل قائم. (جنيف - سويسرة) ... ... ... ... ... شكيب أرسلان ... ... ... ... ... ... * * * تعليق على تقريظ الأمير شكيب لتاريخ الأستاذ الإمام وأثارة من تاريخ الشيخ عبد الكريم سلمان
أشكر لأخي في البر والوفاء لوالدنا الروحي الأستاذ الإمام، ووليي في خدمة العرب والدفاع عن الإسلام، ما تفضل به علي من هذا التقريظ، وأجدر بي أن أفاخر جهابذة الكتاب وموابذة المؤرخين بشهادته لي ولهذا التاريخ، وهو هو أمير البيان، وأستاذ علماء العربية بالتاريخ الخاص والعام؛ وإنني لعاجز عن إيفائه بعض حقه من واجب الثناء، مستعيضًا عنه بالدعاء، فجزاه الله تعالى عن أخيه وأستاذهما وعن الإصلاح الإسلامي أفضل الجزاء؛ ولكن لا مندوحة لي عن الاعتراف بأنه أعطاني فوق ما أستحق من الإطراء، وعن الدفاع عن نفسي تجاه ما رماني به من التقصير في حق المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان. أظن أن الأمير لو كان قرأ ما كتبت في شأن الأستاذ الشيخ عبد الكريم لما كتب ما كتبه؛ فإنني لم أصفه رحمه الله تعالى بقلة العلم؛ وإنما كان الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه هو الذي علل موجدته علي بأنه يظن في ذلك، ولرأى أنني على شدة انتقادي لأكبر علماء الأزهر المعارضين للإمام في الإصلاح ولغيرهم في بعض المسائل العلمية - قد نوهت في مواضع كثيرة بأن الشيخ عبد الكريم كان تربه وعشيره، وصنوه وظهيره، وثانيه في مجلس إدارة الأزهر وأكبر أعوانه على أعمال الإصلاح فيه، وكفى بهذا مدحًا، وأثبتُّ أنه أمكنه بفضله وذكائه أن يكون في الذروة العليا من قضاة الشرع في المحكمة الشرعية العليا وهو شافعي المذهب؛ وإنما الحكم في هذه المحكمة بمذهب الحنفية، وما ذكرته مع غيره من خواص الأستاذ الإمام كحسن باشا عاصم وسعد باشا وفتحي باشا زغلول إلا وقدمته عليهم في الذكر. وبيَّنت أيضًا أنه هو الذي صنَّف كتاب (أعمال مجالس إدارة الأزهر) وكان هذا سرًّا لا يعرفه غيري، وصرَّحت أيضًا بالمسائل التي علمت أنه انفرد بها من تلك الأعمال الإصلاحية، وأنه لم يصرح ولا باسم زميله الأستاذ الإمام في الأعمال التي أسندها إلى بعض أعضاء مجلس الإدارة لإخلاصهما لله تعالى فيها وعدم ابتغائهما الشهرة، فما عرفت له منقبة في ذلك إلا ودونتها له، والتاريخ ليس بتاريخه، والأمير لم يثن عليه بأكثر من هذا ولا بمثله، فيما انتقده علي من بخس حقه، فأنا أقر مثله بكثير من علمه وأدبه وسلاسة طبعه وحسن إنشائه، وأزيد على هذا ما أجملته آنفًا مما فصلته في هذا التاريخ. وأعظم منه ما ترجمته به في المجلد العشرين من المنار عقب وفاته مفتتحًا إياه بقولي في أثناء شهر شعبان من هذا العام: فُجع القطر المصري بعالم من أنفع علمائه، وأديب من أبرع أدبائه، وكاتب من أبلغ كتابه، وقاضٍ من أعدل قضاته، أحد أعضاء النهضة الإصلاحية الجمالية، الشيخ عبد الكريم سلمان، تغمده الله برحمته، ثم ذكرت تعاشره مع الأستاذ الإمام في طلب العلم وتعاونهما في ميدان العمل ، تعاون أخلاء الأصحاب المتفقين في الآراء والمقاصد والآداب، وعاشا ما عاشا متوادين موادة اللدات والأتراب، ثم فرَّق الموت بينهما مدة التفاوت في العمر حتى جمع بينهما تحت التراب - أعني دفنهما في تربة واحدة - فعسى أن يكون هذا مصليًا لذلك المجلي إلى دار الثواب، وأن يجمعنا الله بهما في دار الكرامة يوم المآب. ثم قلت: لعل الشيخ عبد الكريم كان أذكى ذهنًا من الأستاذ الإمام؛ ولكن هذا فاقه ففاته بالجد والاجتهاد. إلى أن قلت: فكان الأستاذ الإمام البدء من مريدي السيد جمال الدين وكان هو الثنيان [١] . ولم أَدَعْ بعد هذا شيئًا من أعماله وسيرته وأخلاقه الحسنة إلا ونوهت به أحسن تنويه. * * * محاولة الإيقاع بين الأستاذ الإمام وصاحب المنار: وأما مسألة مساعدته لمحاولي الإيقاع بيني وبين الأستاذ الإمام؛ فإنما ذكرتها لأنها في رأيي من أعظم مناقب الإمام أحسن الله جزاءه، وإنني - وأيم الحق - قد تحريت فيها الحق والصدق، والتجرد من هوى النفس، ولو كانت وقعت مع غيري لدونتها بهذا الأسلوب عينه، بل ربما كنت أزيدها تفصيلاً وتنويهًا أستحي كتابة مثله في شيء يعنيني ويخصني؛ ولكن لا يجوز لي أن أهضم حق نفسي وحق الأستاذ في المسألة بعد وفاة الشيخين ودخولهما في حكم التاريخ، وقد دون سلفنا الصالح من المحدثين والمؤرخين من هفوات شيوخهم من الأئمة وكذا الصحابة ما هو أعظم من هفوة الشيخ عبد الكريم هذه. ذلك بأن المسألة من أظهر الحوادث الواقعة التي تدل على أن الأستاذ الإمام كان يؤثر المصلحة العامة على العلاقات الخاصة بألصق إخوانه وأصدقائه به وأقربهم إليه، على ما اشتهر به من كمال الوفاء وصدق الوداد، وأن الإصلاح الإسلامي الذي انفردت بالاشتغال معه به في خاتمة عمره الشريفة كان عنده فوق كل شيء من أمور الدين والدنيا؛ لأنه قد رسخ في وجدانه أنه مفروض عليه يثاب على العمل له فوق كل ثواب، ويعاقب على التفريط فيه ما لا يعاقب على غيره، وقد أثبت في استيائه من الشيخ عبد الكريم وإنذاره إياه استغناءه عن صحبة أربعين سنة مكانة الشيخ عبد الكريم عنده. دعابة الشيخ عبد الكريم سلمان وعلمه: ذلك ولا أرى وصف الشيخ عبد الكريم بحُب الدعابة والفكاهة الأدبية غميزة وإزراء، وهو مشهور بهذا، وقد وُصف بالدعابة في كتب التاريخ والأدب أفراد من أرقى البشر كأمير المؤمنين علي، وأين مثل أمير المؤمنين علي عليه السلام؟ وإني على ما فيّ من حفيظة - كما قال الأمير - لا أحمل على أحد حقدًا، ولا أبخس أحدًا حقًّا، وإني قد أغضيت على فتور حرارة الشيخ عبد الكريم في مودتي عدد سنين، فكنت على إبائي أزوره كثيرًا ولا يزورني على ما أعلم من عنايته بزيارة جميع أصدقائه، فلم يشعر أحد بشيء من هذا الفتور من قبلي بقول ولا فعل، والأمير ينقل عنه أنه قال له عني: إنني أصفيت له المودة بعض وفاة الشيخ اهـ. وأنا قد صرحت بهذا في التاريخ، وقلت: إنه صار يزورني ويأكل طعامي كما آكل طعامه، ويسألني عن أولادي. وهذه شهادة عليه - عفا الله عنه - بأنه لم يكن مُوادًّا لي كموادتي له، ولا كموادته لأدنى أصحاب الأستاذ الإمام وصنائعه حتى صنائع التملق وطلاب المصالح، وهو يرى أن الأستاذ اصطفاني على الجميع؛ ولكن هذه هي العلة في مُمَاذَقَته لي على وغر كما كنت أعتقد، لا ما قاله الأستاذ من أنه كان يظن أنني لا أعتقد أنه عالم، إذ لو كان هذا هو السبب لما صفا لي وده بعد وفاته رحمهما الله تعالى؛ فإنني إذا كنت أعتقد في عهد الأستاذ الإمام أنه غير عالم فلا يعقل أن يزول هذا الاعتقاد بعد وفاته، فقول الأمير عني: (ولولا هذا لوفر له حقه غير منقوص) مبني على رأي الأستاذ وعلى عدم قراءته هو كل ما كتبته في حقه، فأنا أعتقد أنني وفيته حقه في هذا التاريخ لم أنقصه منه شيئًا يقتضي المقام ذكره ويعد من موضوعه، بل ربما كنت قد زدته على حقه في المنار. ولعل سبب ظن الأستاذ فيه وفي ما ذكر أن الشيخ عبد الكريم ما كان يشاركنا في المذاكرات العلمية الدقيقة التي تقع بيننا وهو معنا كمشاركته لنا في المباحث العلمية من إصلاحية ووطنية، وإنني لا أنكر أنني ما كنت أعتقد أنه متقن لعلم من العلوم؛ لأنه وجه كل عنايته إلى الكتابة؛ ولكنني لم أكن أنطق بما يدل على اعتقادي هذا تصريحًا ولا تلويحًا، إلا ما استثنيت في التاريخ من تمثلي في إثر انتقادات لغوية وأدبية معه بقول السموأل: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول * * * فكاهة الأمير شكيب ونوادره: بقي عليَّ ما يخص الأمير - حفظه الله - من مودة الشيخ عبد الكريم رحمه الله؛ فإنني أراه فهم منه ما لم يخطر لي على بال، وما لا أراه يخطر على بال أحد من الناس، هو أن الشيخ عبد الكريم - رحمه الله تعالى - لم يجد فيه، أو لم يعرف منه ما يحببه إليه ويحله من نفسه محل الكرامة إلا فكاهاته الأدبية ونوادره اللطيفة، وأن هذا التعليل مني يخيل إلى قارئه أنه - أي الأمير - أبو نواس عصره. فضائل الأمير ومزاياه بارزة مضيئة كالشمس لا تخفى على حاسد يعميه الحسد عن رؤيتها؛ فإنه إن لم يرها تلذعه حرارتها، فكيف يجهلها مثل الشيخ عبد الكريم في ذكائه ولوذعيته؟ وإنما أعني بما ذكرته أن كراهة الرجل للسوريين لم يكن يخطب مودته منهم معها علم ولا أدب، ولا حسب ولا نسب، فهي وحدها لا تحلهم من نفسه محل الكرامة، ولا محبة الأستاذ الإمام أيضًا؛ فإنه كان يحب السوريين ويغار عليهم، وما كان الشيخ عبد الكريم يساهمه هذا، لا في حملة العلم ووعاة الآداب، ولا في أبناء الأحساب والأنساب، وهو - كما قال الأمير - لم يكن يغمصني في شيء مما ذكر، وقد أنشأ الأستاذ الكبير الشيخ محمد بخيت مجلة باسم غيره كان ينشر فيها شيئًا من تفسيره للقرآن، فقال الشيخ عبد الكريم: إن الشيخ بخيتًا يستطيع أن ينشئ مجلة تنقل عنه تفسيرًا وتنوه به مباراة للشيخ محمد عبده فيما تنشره عنه مجلة المنار؛ ولكنه لا يستطيع أن يأتي بمثل الشيخ رشيد يحررها له! فما الفائدة؟ جد الأمير شكيب وشدته وظرفه: الأمير شكيب مشهور بالجد في عمله وقلمه، وبالشدة في سيرته السياسية والاجتماعية، ولهذا ينبزه بعض الناس بلقب الكبر، كما ينبزون به أكثر أهل الصدق والجد، ولا يعرف ظرفه في فكاهاته اللطيفة ونوادره الأدبية النزيهة إلا من عاشره وحاوره وسامره، وإني لأغبطه عليها، وأتمنى لو أوتيت مثلها؛ فإن الجد المحض يمل الجليس، ويوحش الأنيس، وأنا لا أعرف عن أبي نواس مثل هذا؛ إنما كان أبو نواس شاعرًا، بل هو أشعر الشعراء في عصره الذي ارتقى به شعر الحضارة والتمتع إلى أَوَجِّه، وكان مع هذا ماجنًا فاسقًا، ولم يؤت شيئًا من الجد في خدمة الأمة ولا سياسة الدولة، ولا عني بهداية الدين ولا بيان فضائل الإسلام، فأنى يذكر مع الأمير شكيب، أو يخطر بالبال إذا ذكر علمه وأدبه، أو قرئت رسائله وكتبه؟ إني لأوقن أن الأمير لم يظن بي أنني عنيت هذا الذي عده لازمًا ذهنيًّا لوصفي له بحلاوة الفكاهة ولطف النادرة؛ وإنما عدَّه عليَّ مما غمصتُ به الشيخ عبد الكريم دونه، فكان مثارًا لظن من لا يعرفه أنه أبو نواس عصره، وأن الشيخ عبد الكريم يؤثر الهزل على الجد، والدعابة العارضة على الفضائل الراسخة. كلا إنني لم أعن بكلمتي شيئًا وراء ما تدل عليه دلالة المطابقة من تضمن أو التزام. فلما قلت: إن الشيخ عبد الكريم لم يكن يحب السوريين، خطر في بالي أن من واجب الصدق أن أستثني الأمير شكيبًا من هذا الإطلاق أو العموم، لما كنت سمعته من كل منهما من التنويه بالآخر، ثم ما رأيته من اغتباطهما بالتلاقي في أثناء إلمامة الأمير الأخيرة بمصر.
مثال من تحاور عبد الكريم وشكيب بالسجع: لعل الأمير لم ينس أنني كاشفته في بيروت سنة ١٣١٥ بعزمي على الهجرة إلى مصر للاتصال بالأستاذ الإمام، وأن هذا سر بيني وبينه لم يتعدنا إلا إلى الأستاذ عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون والأستاذ الشيخ صالح الرفاعي ناظر النفوس، ولعله يذكر - إذا ذَكَّرتُه - ما حدثني به يومئذ عن محاوراته مع الشيخ عبد الكريم سلمان وإبراهيم بك المويلحي، وأن جل حديثه عن محاورات الأول ما كان يلتزمانه من السجع والفكاهات الحسنة الوقع، وأزيد على هذا أنني لما بلَّغت الشيخ عبد الكريم سلامه عليه واشتياقه إليه، برقت أساريره وطفق يحدثني عن محاوراته اللطيفة معه، وأذكر مما قاله لي كل منهما أن شكيبًا كان عنده بداره فسمعوا صياحًا ولغطًا أمام باب الدار بين الخدم وغيرهم، فصاح الشيخ بخادمه البواب غاضبًا: يا ولد يا ولد، فقال الأمير رافعًا صوته: وأول التشاجر الذي ورد. فسكت غضب الشيخ وأغرب في الضحك استغرابًا لهذه البديهة الحاضرة، وإعجابًا بالبادرة النادرة، وربما لم يكن يخطر له ولا لغيره أن مثل الأمير شكيب يحفظ العقيدة الأزهرية المعروفة بجوهرة التوحيد، وأن يكون من قوة الذاكرة بحيث يسبق إلى لسانه هذا الشطر منها عند صيحة الشيخ يا ولد، وهما يتباريان السجع، ومناسبتها للمعنى أقوى من مناسبتها للفظ؛ فإن الخدم كانوا يتشاجرون عند دار الشيخ، وبيت الجوهرة في تأويل تشاجر الصحابة رضي الله عنهم. فهذا مثال مما عزوته إليهما من حب الفكاهة والمفاكهة والنوادر الأدبية، فهل يقول أحد: إنها تنافي الجد أو تجانب العلم؟! وهي لو عُرضت على الحسن وابن سيرين، لقالا: ربنا لئن آتيتنا هذه لنكونن من الشاكرين.
ما يجب على الأمير شكيب لتاريخ الأستاذ الإمام: وأختم هذا التعليق بتذكير الأمير شكيب بأن لتاريخ الأستاذ الإمام عليه حقًّا آخر وراء حق التقريظ الذي أدى واجبه ومندوبه، وزاده من النافلة ما شاء الله أن يزيده، أعني بالحق الآخر تكرار التنويه في مقالاته الإصلاحية بالغرض المقصود بالذات من تصنيفه، وهو ما فصَّلناه فيه وأجملناه في فاتحة تصديره وخاتمته، من الدعوة إلى الإصلاح والتجديد للشرق والإسلام، التي قام بها الحكيم السيد الأفغاني والأستاذ الإمام، مع إحياء ذكرهما، بإسناد الفضل الأول فيهما إليهما، ولهذه الدعوة مجالات واسعة في مقالات الأمير السياسية والاجتماعية ورسائله الإصلاحية، وليس بكثير على غيرته أن يخصها بمقال ممتع، ويؤيده بالبرهان المقنع، وهو إنما يكتب ما يكتب بما نفخ فيه من روحهما، ونفث في روعه من حكمتهما، جعلنا الله وإياه خير خلف لهما، آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... مؤلف تاريخ الأستاذ الإمام ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا