(أسئلة من السيد محمد بن يحيى الصقلي الحسيني من بلاد الجزائر) قال بعد رسوم الخطاب: لما نظرنا إلى إرشاداتكم العديدة غير المتناهية وبحثكم وتضلعكم في العلوم الدينية الإسلامية وتحققنا بعلو مكانتكم في ذلك جزمنا بأن فيكم الكفاية لمن يريد الحصول على استفادة بأكمل بيان وأبلغ عبارة فتعلقت آمالنا بحضرتكم وكتبنا هذا لفضيلتكم، والرجاء من الله ثم منكم أن تفيدونا ومن نفعكم لا تحرمونا. تقبيل أيدي العلماء (س٩) ما قولكم دام نفعكم في تقبيل العامة كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم لأيدي العلماء، وتذللهم لهم حتى جعلوا ذلك من أهم الواجبات الدينية أفيدونا هل ذلك من آداب ديننا الإسلامي الحنيف أم لا؟ (ج) إذا اعتقد العوام أن تقبيل أيدي العلماء من الواجبات الدينية كان تقبيلها معصية يجب نهيهم عنها، ويحرم على العلماء تمكينهم منها؛ لأنهم زادوا في الدين ما ليس منه، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، ولقد كان النبي- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يتحامى المواظبة على بعض العبادات المندوبة كصلاة التراويح؛ لئلا تعتقد العامة أنها واجبة. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود (فدنونا من النبي فقبلنا يده) ولكن لم تمض السنة عنه ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين بتقبيل أيدي العلماء، فهي عادة من العادات المباحة ما لم تُعتقد مشروعيتها، وكونها من الدين.ولا حاجة لإطالة البحث في هذا؛ فإنه مما لا يختلف فيه عالم بدين الإسلام. وإننا نشكر للسائل حسن ظنه على ضعفنا وعجزنا. *** نذر الذبائح على أضرحة الأولياء والتوسل بهم (س١٠) ومنه: وما قولكم في الذبائح على أضرحة الأولياء لسبب نذر، أو لرجاء دفع مضرة أو غيرها؟ وكذلك التوسل ببابهم والرجاء منهم نحو قول أهل فاس عند معاينة مكروه نازل بهم: ما دام ضريح مولاي إدريس في وسط بلدنا فلا نخاف؛ لأنه يذود عن بلدة فاس خصوصًا وعن قطره المغربي عمومًا، وهو ورجال المغرب (صالحو الموتى) يحفظوننا من غائلة العدو ونفوذه، وأقوالهم من هذا القبيل كثيرة، أفيدونا بما يشفي الغليل عن هذا القبيل؛ ليعم إرشادكم كافة الموحدين الحنفيين؟ ودمتم كعبة للقصاد، مأجورين من رب العباد. (ج) الذبح على القبور بدعة أخذها بعض المسلمين عن أهل الكتاب وهؤلاء أخذوها عن الوثنيين؛ إذ كانت الذبائح لأوثانهم وأصنامهم من أركان دينهم وأعظم عباداتهم، نعم كانت القرابين عبادة في شريعة موسى -عليه السلام - وما هي إلا للتقرب إلى الله وحده لا إلى شيء، ولا إلى شخص عظيم كما هي عند الوثنيين في الأصل، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز الذبح لغير الله تعالى تقربًا إليه، أو تعظيمًا له، أو رجاء فيه؛ لأن هذا من الوثنية، وقد صرح الفقهاء بأن من فعل ذلك على سبيل العبادة يكون مرتدًا عن الإسلام، والعبادة هي الخضوع والتعظيم لمن تعتقد فيه السلطة الغيبية التي وراء الأسباب؛ فإن وجد هذا المعنى كان الذبح للولي أو عنده كفرًا، وإن لم يوجد كان معصية؛ لأنه يدخل في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) ويستحق صاحبه اللعن من رسول الله في حديث علي - كرم الله وجهه - عند أحمد ومسلم والنسائي (لعن الله من ذبح لغير الله) . وقال في الإقناع وشرحه ما نصه: (ويكره الذبح عند القبر والأكل منه) لخبر أنس: (لا عقر في الإسلام) ، رواه أحمد بإسناد صحيح قال في الفروع: رواه أحمد وأبو داود وقال عبد الرزاق: وكانوا (أي في الجاهلية) يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال أحمد في رواية المروذي: (كانوا إذا مات الميت نحروا جزورًا فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك وفسره غير واحد بغير هذا (قال الشيخ) يحرم الذبح والتضحية (عند القبر) ولو نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به كما يأتي في نذر المكروه والمحرم (فلو شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا) اهـ. نقول: وأنت ترى من الأدلة أن القول بالتحريم هو الراجح، وإن أريد بالكراهية ما كان للتحريم، ومما ورد في النذر حديث عائشة عند أحمد والبخاري وأصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وحديث ثابت بن الضحاك عند أبي داود والطبراني (وقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده) ، قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة (بضم الموحدة: موضع) فقال: كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقد يتوهم بعض الجاهلين من العامة أن النهي عن الذبح لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي تحريم الذبح لتعظيم أولياء المسلمين. ونقول: (أولاً) إن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة. (ثانيا) إن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى في مثل هذا العمل الذي أراد به الخير والبر؛ لأن ذلك من الإشراك ولا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، ومما ورد في ذلك بخصوص النذر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص، وسكت عنه وفي معناه روايات أخرى. و (ثالثاً) إن كثيرًا من أئمة السلف الفقهاء، صرحوا بأن ما يذبحه النصراني لكنيسة، أو مكان، أو رجل مُعَظَّم عندهم يحل لنا، ولكن لم يقل أحد بأن ما يذبحه المسلم لمُعَظّم عنده يؤكل، بل أجمعوا على تحريمه وإثم فاعله. وإن قام في نفسه معنى العبادة كطلب ما لا يُطلب إلا من الله تعالى كان مرتدًّا كما تقدم. وأما ما يسمونه التوسل فقد بسطنا القول فيه مرات كثيرة في كل مجلد من مجلدات المنار فليراجع ذلك السائل في مواضعه من المجلد السابع وغيره، مسترشدًا في الفهرس بكلمة التوسل من حرف التاء، وبكلمة قبور من حرف القاف ويجد في العدد السابق كلامًا عن اعتقاد أهل فاس بمولاي إدريس، وغرورهم في ذلك. ولكن هذه الاعتقادات المبنية على وعث البدع والتقاليد لا تثبت أمام سيول الحقائق، فهذا سلطان مراكش قد اضطرب وخاف سقوط ملكه فلم يكتف باللجأ إلى إدريس، بل أشرك معه ملكًا نصرانيًّا يعتز به ويستعين به على فرنسا وهو عاهل ألمانيا، وقد أرسل إليه عند زيارته طنجة هدية تساوي مئتي ألف جنيه، ولو كان موقنًا بحماية قبر إدريس للمملكة؛ لكان غنيًّا عن ذلك، ولماذا لم يَحْمِ إدريس البلاد من الفتن التي أنهكتها وكانت حجة فرنسا في التصدي لها؟ *** قصة المولد للشيخ إبراهيم الرياحي التونسي (س١١) أحد القراء (بتونس) : اشتبه على بعض الناس طعنكم في بعض أعداد المنار بروايات قصص المولد النبوي، وقد وجهت لكم في البريد نسخة من مولد الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة ١٢٦٦هـ، وهي الرواية المُعتمدة رسميًّا في تونس، فهل لكم أن تنظروا فيها وتنبهوا على ما فيها من الغلط؟ (ج) إن هذه القصة كغيرها من حيث وجود الموضوعات والواهيات فيها، ولكنها في اختصارها وعزوِ بعض الروايات فيها أمثل من غيرها، ولعلنا نذكر تخريج هذه الروايات في جزء آخر. وهذا قوله في أول القصة (ص ٤) (إن أول ما خلق الله نور هذا النبي الأواه) لم تصح به رواية وأقوى الروايات وأكثرها في بدء الخلق أن أول شيء خلقه الله القلم. وكذلك ما ذكره في خلق آدم غير صحيح ومثله ما في (ص٥) من نطق الدواب وبشارة أهل البحار وانقلاب الأصنام وما ذكر عن آمنة وغير ذلك. وكان يجب الاستغناء عن هذه الروايات بالمناقب والآثار التي هي أوضح من النهار.