للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حول قتل الأنبياء بغير حق

كتب إلينا الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء تحت هذا العنوان حكمه في انتقاد
هذه المسألة بما نصه:
بينما أنا أقرأ المنار (الجزء التاسع من المجلد التاسع والعشرين) إذ وقع
نظري على عنوان (اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه بالأزهر) صفحة ٧١١؛
وإذا به يحتوي على تحكيم العلماء المفسرين بالأزهر في جدل نشأ بين صاحب
المنار وبين منتقد حول عبارة من عبارات تفسير القرآن (جزء ثالث) لصاحب
المنار حيث ادعى المنتقد أن عبارة المفسر عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: ٢١) تفيد نصًّا أن قتل الأنبياء قد يكون بحق وجائزًا،
واعتقاد هذا كفر، ورد صاحب المنار بأن هذا غير صحيح. فرأينا وجوب الرجوع
إلى عبارة الأصل وعبارة المنتقد لنكون على بينة فبمراجعة العبارتين تبين لنا أن
عبارة الأصل جزء ثالث تفسير صفحة ٢٦٢ هكذا.
وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: ٢١) بيان للواقع بما يقرِّر بشاعته
وانقطاع عرق العذر دونه وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا كما يقول
المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرِّر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع
الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف فإذا قلنا: إن كلمة {حَقٍّ} (آل
عمران: ٢١) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد
العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن متعمدًا لقتله،
فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتله وقتلوه يكون قتله حقًّا في عرفهم لا
يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة واليهود لم يكن لهم حق ما في
قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) اهـ.
ووجدنا عبارة المنتقد في الجزء الرابع من هذا المجلد (صفحة ٢٨٠) هكذا:
(أدهشني جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ} (آل عمران: ٢١) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد
بكلمة حق في الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق
النفي كان قيد (بغير الحق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى
لقتله القبطي، فإنه بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ، يكون قتلهم
له بحق فلا يعاقبون عليه وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ.
وهذا مما يقضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن مصلح
عظيم وأستاذ محقق كبير مثل السيد. والحق واحد وهو ما طابق الواقع، فالحق
العرفي أي ما يُعَدُّ في عرف الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق وإلا فباطل،
فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره حقًّا يقضي بقتله،
ثم بعد فرض أن شريعة الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته
كيف يتردد في كونها عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تُذَمُّ إذا كانت
غير عادلة) العبارة نص في نظرنا في أن قتل النبي قد يكون بحق وجائزًا،
واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا بشرحه وافيًا
اهـ.
فبتأمل ما سبق تبين لنا أن كلام المفسر يحتوي على ثلاث نقط:
أولاً: قوله: إن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا.
ثانيًا: قوله كنتيجة للبحث (واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من
النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) .
ثالثًا: قوله: (لو كانت كلمة (حق) تشمل الحق العرفي لدخل في مضمونها
مثل قتل المصريين لموسى عليه السلام إذا كانت شريعتهم وعرفهم تقتضي بذلك
لقتله رجلاً منهم، وإن لم يكن متعمدًا ولا يذمون وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير
عادلة.
فالعبارتان السابقتان تدلان دلالة صريحة على أن قتل الأنبياء لا يكون بحق
أبدًا، والعبارة الثالثة إذا تأملناها مقطوعًا النظر فيها عما قبلها وما بعدها وجدناها
محتملة لأن يكون التمثيل بقتل المصريين لموسى القاتل منهم تمثيلاًَ لقتل الأنبياء
بمقتضى الحق العرفي وذلك بأن يكون الممثل له (حق) ملحوظًا فيها ربطها بقتل
النبيين وأن يكون موسى نبيًّا وقتئذ، وأن يكون ذلك تمثيلاً لا تنظيرًا، ومحتملة
أيضًا لأن يكون المذكور تمثيلاً بمطلق قتل بحق عرفي لا بقتل نبي.
فلو جاءتنا هذه العبارة المحتملة منفردة مقطوعة عن سابقتها ولاحقتها لوجب
علينا أن نحملها على ما يتفق وحسن العقيدة حيث قرَّر العلماء أنه إذا قال مسلم كلمة
تحتمل الإيمان من وجه وغير الإيمان من تسعة وتسعين وجهًا وجب حملها على
وجه الإيمان فرارًا من تكفير مسلم بدون قاطع {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: ٩٤) .
أمَا والعبارة تكتنفها عبارتان صريحتان في أن قتل الأنبياء لا يكون بحق
فليس لنا أن نهملهما ونهمل مقتضى القاعدة السابقة ونتلمس وجوه الخطأ من وراء
ظهر السياق؛ إذ لا حظ لمسلم في تخطئة مسلم.
وأما قول المفسر: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) فلا يصح أن
يكون فيه مغمز؛ إذ لا تستطيع هذه العبارة أن تقف في وجه صريح العبارتين
السابقتين فضلاً عن أن ما فيها من التقييد يساير كثيرًا من القيود التي لا ينظر إلى
مفهوماتها وذلك كثير حتى في القرآن الكريم: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ
بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون: ١١٧) .
على أنه ما الذي يهمنا من هذا التقييد إذا كان الكلام كله فيما وقع وانقضى،
والمفسر معترف بأن جميع من قتل من الأنبياء قتل بدون أي شائبة من الحق،
وليس عندنا في المستقبل أنبياء نخاف من فتح باب العذر في قتلهم.
بقي من كلام حضرة المنتقد قوله: إن الحق لا يطلق إلا على ما طابق الواقع،
وذلك إنما يصح له إذا أمكننا أن نحجر على الاصطلاح أما إذا سلمنا أن الحق
ينقسم إلى عرفي وغيره، وغير العرفي هو الحقيقي، وهو ما طابق الواقع،
والعرفي هو ما اصطلح الناس على أنه حق وتعاملوا وتقاضوا على مقتضاه وإن لم
يكن في الواقع حقًّا بالمعنى الأول ككثير من القوانين الوضعية إذا سلمنا ذلك - ولا
مفر من تسليمه؛ لأنه الواقع المشاهد - فلا يصح للمنتقد هذا الحصر ولا ما بناه
عليه.
على أنه فُهِمَ من كلام المفسر أن الذي حمله على هذا التقسيم إنما هو قطع ما
فيه شائبة العذر لمن قتل نبيًّا أي أن بني إسرائيل قتلوا من قتلوا من الأنبياء ظلمًا
وعدوانًا بدون مسوغ شرعي ولا وضعي وليس لديهم شيء مما يتعللون به، ولو لم
يكن نافعًا في نفس الأمر، وهذا منتهى الحمق والسفاهة المُرْكِسَة لهم في أعماق
الجحيم والعياذ بالله تعالى، والله نسأله الهداية وحسن التوفيق آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الجليل عيسى
... ... ... ... ... ... مدرس تفسير بالقسم العالي بالأزهر
(المنار)
نكتفي بهذا الحكم بيننا وبين المنتقد، وإن لم يرجع فيه الحكم إلى ما رددنا به
عليه وصرَّحنا فيه بأننا ننكر دلالة عبارتنا على ما فهمه كما أننا لم نقصده منها
بالضرورة وحكم العقيدة فلو كانت العبارة تدل على ما فهمه لكان خطؤنا فيها لفظيًّا.
وكنا فهمنا أن غرضه من الانتقاد أن نبين له قصدنا من ذلك إن كان لنا قصد
صحيح، فبيَّنا له أن قصدنا مبالغة الكتاب العزيز في تعظيم شأن الحق ونوط
الأحكام به لتقرير المبالغة من تجرد اليهود من أدنى شائبة لحق ما في قتل من قتلوا
من الأنبياء، ومثله المبالغة في تعظيم شأن العلم في قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ
عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: ١٥) وفي معناه
تعظيم شأن البرهان في الآية التي أوردها الأستاذ الحكم آنفًا، فهل يماري فيه
المنتقد كمرائه فيما قبله أم يذعن للحق؟
ومما تحكم به في تفسير عبارتنا زعمه أننا لما قلنا: (إن قتل الأنبياء لا
يكون بحق مطلقًا) وصلناه بكلمة (كما يقول المفسرون) وأن هذا يفيد أننا منكرون
لقولهم: وهذا تحكم ظاهر البطلان فالعبارة لا تدل عليه لغة ولا عرفًا ولا نحن
قصدناها، بل هي تؤكد ذلك النفي المطلق المؤكد وهو من قولنا لا حكاية للفظهم،
وكم لنا ولغيرنا من أمثال هذا التأييد، فهو يقلب كلامنا إلى ضد ما يدل عليه.
ومثل ذلك إنكاره لاصطلاح الناس وتواطئهم على تفسير الحق بحسب عرف
كل منهم فهو مكابرة للواقع كما قال الأستاذ الأزهري (وماذا يقول في هذا التشبيه
أيضًا؟ هل هو إنكار منا لصحة قول المفسر الأزهري؟) .
وإن لنا مقالاً ممتعًا في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع عنوانه (الحق
والباطل والقوة) قلنا فيه (ص ٥٣) : (إن الحق والباطل يتنازعان في خمسة
أمور كلية وهي:
١- الفلسفة والنظريات العقلية.
٢- الوجود والسنن الكونية.
٣- السنن الاجتماعية.
٤- القوانين والمواضعات العرفية.
٥- الدين والشريعة الإلهية.
ثم فصلنا كل قسم من هذه الخمسة تفصيلاً، وتدخل مسألة قتل فرعون لموسى
عليه السلام لو قدروا عليه في القسم الرابع مما هنا، على أنه لم يكن عند قتله
للمصري وإرادتهم قتله نبيًّا. أفليس من دلائل سوء النية في النقد أن يجبرنا المنتقد
على حمل كلامنا على عرفه المزعوم، دون عرفنا وعرف سائر الناس المعلوم؟