- ٤ - صد الكنيسة أو الكنائس عن الإسلام ألمَّ الكاتب بما بيناه في مقدمة الكتاب من الحجب الثلاثة التي حجبت حقيقة الإسلام عن أوربة إلمامًا وجيزًا، وأجاب عن صد الكنيسة عنه وبغيه عوجًا بأنه يترفع عن إعادته، وأن آداب المناظرة تحول بينه وبين (الرمي بقذائف الكلام) . ونرد عليه بأننا نحن لم نقذف الكنيسة أو الكنائس في ذلك بتهمة من عند أنفسنا، ولا نقلنا شيئًا من أقوالها وأعمالها عن أحد من علمائنا، وإنما أشرنا إشارة وجيزة إلى بعض ما دونه بعض علماء الإفرنج في ذلك، ولا سيما أحرار الفرنسيس، وأهل النصفة النسبية منهم كالكونت دي كاستري صاحب كتاب (الإسلام: خواطر وسوانح) وغيره من الكتب الكثيرة التي توجد كلها أو جلها في خزانة كتب الكلية اليسوعية، فمن الميسور لحضرة الكاتب الأديب أن يظل معتصمًا بما ادعاه من الترفع وآداب المناظرة، ويكتفي من الدفاع عن الكنيسة بأن يقول: إن كل ما أسنده إليها أولئك الكتاب الفرنسيون الكاثوليكيو النشأة والتربية، وآخرهم موسيو درمنغام الفرنسي الكاثوليكي صاحب كتاب (حياة محمد) أكاذيب مفتراة على أولئك الذين أسندوه إليهم من رجال الكنيسة وغيرهم. ثم نقل كلمتي (الحق أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها ....) ووصفها بالبساطة الصبيانية، ولو قلت: إن الإسلام صديق الكنيسة لكنت حقيقًا بهذه البساطة؛ ولكن المسيحية في عقيدتي التي هي عقيدة الإسلام الثابتة بالبرهان هي غير الكنيسة المسيحية هداية توحيد وفضائل متممة لهداية التوراة الإسرائيلية وفاقًا لما ينقلونه عن المسيح عليه السلام أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس؛ وإنما جئت لأتمم. والكنيسة نقضت الناموس من أول أساس له وهو التوحيد المجرد، وإبطال اتخاذ التماثيل والصور إلى سائر ما فيها من العبادات والطقوس والتشريع المدني. والإسلام هداية متممة للمسيحية؛ لأنه لم يوجد بعد المسيح عليه السلام من يصدق عليه قوله: (يعلمك كل شيء) أي: مما لا يستطيع أن يقوله لهم غير نبيه وهو الفارقليط روح الحق كما بيناه في كتاب الوحي وغيره. ومما نقصده بقولنا: إن الإسلام متمم ومكمل للمسيحية - الحق التقريب والتأليف بين الطوائف في بلادنا، وهو خلاف سياسة الكنيسة، بل طالما تمنينا لو نتعاون مع رجال الكنيسة على محاربة كفر التعطيل المادي أيضًا، ووجد من أصدقائنا من عرض هذا الرأي على الفاتيكان، وبلغنا أنه قُبِل وسيظهر له أثره، ولكن خاب الأمل. - ٥ - عدوان السياسة الاستعمارية على الإسلام قال الكاتب: إنني نسبت إلى رجال السياسة الأوربية (صفات مستقبحة) ، وسألني ماذا أقول (لمن يصف رجالات الفتوح الإسلامية العظام كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهم) وصفي لرجال الاستعمار المحدثين؟ وأجيبه عن هذا السؤال: إنه لا يستطيع مؤرخ صادق منصف أن يقول الحق في رجالات الإسلام إلا ويكون أكبر حجة لنا، فإن قال الباطل وافترى فإننا نرد عليه بأقوال كتاب أحرار الإفرنج من المؤرخين المنصفين كغوستاف لوبون الفرنسي في كتابه (حضارة العرب) وغيره وحسبنا قوله (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) ، وكذا الأستاذ سيديو الفرنسي في كتابه خلاصة تاريخ العرب. ومثلهما الأستاذ المؤرخ الكبير جيون الإنكليزي فإنه أطنب في فضائل العرب في فتوحهم وحضارتهم وإحيائهم للعلوم، والدكتور ألفرد. ج. بتلر الإنكليزي صاحب كتاب (فتح العرب لمصر) ؛ فإنه على تحمسه في نصرانيته وشدة امتعاضه من حكاية انتصار الإسلام على النصرانية، وفتح العرب به لبلادها قد شهد بأن سبب هذا النجاح والفلاح للعرب هو إقامة العدل واتباع الحق، وشهد لعمرو بن العاص بالقدح المعلى في هذا حتى فضله في بعض المواضع على مثال العدل المطلق في التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمرًا لم يكن في الذروة العليا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، بل كان من محبي الدنيا والملك فيهم. وههنا نقول: إن ما كان من بعض فاتحي العرب من بعض الهفوات التي لا يسلم منها البشر لم تكن بتعاليم الإسلام، ولا من خطة الخلفاء؛ وإنما كانت هفوات شخصية، وأما خطة المستعمرين فهي سلب أموال البلاد، واستذلال العباد، وإفساد الأخلاق، ومنع الحرية الدينية والاجتماعية والكتابة والخطابة، وإطلاق حرية الفسق والفجور وحدها، وما عسى أن يوجد في بعض رجالهم في المستعمرات من شجنة رحمة أو مسكة عفة؛ فإنما هو شخصي، ولا يجهل الكاتب ولا غيره ما يجري في إفريقية الشمالية في هذه الأيام. -٦- تأويله لعبارة تاريخية في هضم أوربة للنساء ذكر الكاتب الحجاب الثالث على الإسلام في مقدمة الوحي، وهو فساد الحكومات والشعوب الإسلامية، واستحواذ الجهل عليها، وأنكر علينا قولنا: إن سبب ذلك جهل هداية القرآن. وأشار إلى ما شرحناه في الكتاب من مقاصد القرآن العشر في الإصلاح لأركان الدين الثلاث التي حرفها أهل الكتاب، وبيان حقيقة النبوة التي جهلوها، وسائر أنواع الإصلاح السياسي والدولي والمالي والحربي والنسائي، والفرق بين عجائب المسيح ومحمد عليهما السلام، وقال: (إن البعض من أقواله لا يثبت لنقد) ولكنه اقتصر على نقد كلمة واحدة عرضية نقلناها من كتابنا (نداء للجنس اللطيف) وهي أن مجمعًا مسيحيًّا وضع موضع الشك: هل للنساء نفوس بشرية أم لا؟ ورد عليه بأن هذا الشك إنما هو مشكل لغوي حاصله أن كلمة إنسان باللاتينية (Homo) تطلق على الرجل والمرأة معًا أم لا؟ إنني أشكر له قوله: إن بعض كلامي لا يثبت على النقد، فهو حق مجمل بين أباطيل مفصلة، لا ينكره إلا من يدعي لنفسه العصمة؛ لأن بعض الشيء يصدق بواحد منه، وأي إنسان لا يمكن انتقاد بعض كلامه ولو مسألة واحدة؟ ثم أحمد الله أنه نظر في أصول كلامي في النساء الذي فضلت به تعاليم الإسلام على جميع ما نقل عن الأنبياء والحكماء والساسة والأدباء في إنصاف النساء، وإعطائهن حقوقهن الدينية والزوجية والاجتماعية والسياسية والمالية ... إلخ، فلم يجد فيه إلا كلمة واحدة مما نقلناه من الشواهد التاريخية، وهو هضم المجمع لحقوق النساء، وإلا ما سماه متناقضًا في مسألة أخرى وهو: -٧- زعمه أن ما وصفت به الإسلام من الحرية والإخاء متناقض قال: إنه لا حاجة به إلى تبيان ما في مقاصد الشيخ رضا من التناقض في قوله: إن الإسلام هو دين الحرية والتآخي، وأنه يضمن للناس أجمعين حقوقهم، وقوله بعد ذلك: إن الإصلاح الاجتماعي والسياسي لا يتم إلا بوحدة الأمة والجنس والدين والتشريع، والأخوة الروحية، والمساواة في التبعة، والجنسية السياسية، والقضاء واللغة (قال) (أي بأن يصبح العالم كله مسلمًا عربيًّا، فتصور) ! أقول: من قرأ هذا البحث الطويل الذي أشار إليه المنتقد في كتاب (الوحي المحمدي) وكان يعرف علم المنطق، وما اشترط فيه لصحة التناقض بين القضيتين من تحقق الوحدات الثمان، لم ير فيه ما رآه كاتب المشرق، الذي يجهل أو يتجاهل المنطق، وأكتفي في رد قوله بمثل الإشارة الوجيزة التي اكتفى هو بها، بدون أن أنقل شيئًا من نصوص الكتاب غير ما قاله هو فأقول: قلت: إن الإسلام دين الحرية بمعنى أنه منع الإكراه على الدين بنص كتابه العزيز، حتى إن فقهاءنا صرحوا بأن إسلام المكره لا يصح، ولا يعتد به، ولا تزال بعض دول النصرانية تُكْرِه الناس على دينها، وتغتصب أموال أوقاف المسلمين فتنفقها في سبيل تنصيرهم، وأهل شمال أفريقية قد ملؤوا الدنيا صياحًا من هذا الإكراه - في هذه السنين - المستمر إلى هذا اليوم. وقلت: إن الإسلام دين التآخي بمعنى أنه يرشد الناس إليه، لا أنه يُكْرِهُهم عليه، فإذا كان لا يُكْرِه الناس على الأصل، فلا يعقل أن يُكْرِهَهم على الفرع. وقد ثبت في القرآن ما يسمى بالأخوة القومية في تسميته الأنبياء عليهم السلام إخوة لأقوامهم المشركين، كما ثبت فيه ما هو أرقى منها، وهو الأخوة الدينية، وهذا شيء طبيعي؛ فإن الاتحاد في الاعتقاد الذي تناط به سعادة الدارين أقوى من كل اتحاد، فأخوته أكمل من كل أخوة. وقلت: إنه الإسلام يعطي كل ذي حق حقه، وأعني به الحق الذي قرره وأثبته له في محيطه الخاص به، لا ما يدعي كل أحد من الحق لنفسه، فهو في القضاء والشهادة يساوي بين الخاضعين لشريعته في أحكامها، لا يميز بين مؤمن وكافر، ولا بر وفاجر، ولا قوي وضعيف، ولا ملك وسوقة، ولا غني وفقير، ولا قريب وبعيد، ولا محب وبغيض، وفيه من وراء ذلك حقوق لأولي القربى والأرحام، وحقوق للأصدقاء والجيران، وحقوق لأخوة الإسلام، وحقوق للإنسانية العامة، ولا تعارض فيه ولا تناقض بين هذه الأنواع. مثال ذلك أن الصدقة بالعامة في الإسلام مشروعة لكل هذه الأنواع، فتجب على المسلم لغير المسلم المضطر غير الحربي، وتُسْتَحب للمحتاج غير المضطر أيضًا، وللمسلم منها نوع خاص وهو الذي عينه القرآن للأصناف الثمانية من نصاب الزكاة، وللأقربين نوع خاص كالنفقة الواجبة للمحتاجين من أصول الإنسان وفروعه، ولغيرهم كالإخوة والأخوات عند السعة، وتقديمهم على الغرباء، فهل يعد هذا من التناقض؟ ؟ وأما معنى قولنا: إن الإصلاح الإنساني الكامل لا يتم إلا بالوحدات الكثيرة، فهذه قضية معقولة في نفسها، سواء قررها الإسلام أم لم يقررها،، حتى لو لم يكن في العالم أمة عربية ولا شريعة إسلامية؛ ولكن الثابت في الواقع أن هذا الكمال الإنساني لم يبين إلا في الإسلام، وصحة الإسلام لا تتوقف على اتفاق البشر عليه، فالبشر لا يتفقون على شيء، والكمال هو الغاية في الدعوة فلا تناقض! ! (للرد بقية موضوعها طعنه في إعجاز القرآن) ((يتبع بمقال تالٍ))